محمد عكاشة - محمود.. قصة قصيرة

عندما تروح الشمس ويهل القمر – تدب البهجة في داخله وتتملكه الرغبة في أن يقفز هنا وهناك. فالنهار بالنسبة له – الجري بأقصى سرعة لتلبية نداءات عمي رشوان.
يا محمود امش وراء البقرة في مدار الساقية. (دير الحوال) لتسقي غيط (الديسة). ارمي العليق للبهائم، واسرح بالغنم في حوض الكفراوي، وافتح خلايا النحل، وابذر أرض (بنام) بالقمح.
يا محمود اسحب البهائم لنرحل.
أقف منتظراً قدومه، حيث يركب الحمار وسط القطيع. يهل وحوله غبار تراب المدق وأسراب الهاموش التي تلاحقه. أسرع إليه وأمسك بلجام الحمار حتى يقفز من فوقه. يربط السلبات ونعقد الاتفاقات. نخرج حين تنثر النجوم في السماء ونور القمر يغرق الملأ، وتتلون الحياة بلون ضيائه، وحين يلقي عمي رشوان تلفيحته ويعلق عباءته، وحين تهرول أمه لتحلب البهائم وينتهي جدي من صلاة العشاء.
نخرج من الباب الصغير ونركب الأتان العجوز والتي دائماً ما تدس خرطومها في التراب وترفس برجليها الخلفيتين الهواء لتطرحنا أرضاً وتهرب وتعود. وحين نصل يتسلق النخلة ليفرط فوق رأسي حبات التمر. أملأ سيالتي ويملأني الفرح. أقف فرحاً بخطته وهو يصعد كقرد دون خوف، وعندما يصل إلى أعلى متشعلقاً في الجريد – أناديه وأقول له (شايف إيه)، يقول (شايف كل حاجة). يهبط ويفرط حجره وهو يصفر بنغمات دائماً ما يرددها. يجمع الأفرع الناشفة وبقايا الحطب. يشعل النار فتتصاعد ألسنة اللهب، وتلفنا الأدخنة. يلم التراب الناعم ويخطط غيطاناً صغيرة. أملأ صفيحة صغيرة من الترعة لتروي الأرض التي حرثناها ونزرعها بنوي البلح كي تنمو نخلات جديدات. نحفر أنهاراً وترعاً وبحيرات. نصنع تماثيل لحمير وبقر ووابور حرث وأغنام. يقلد عمي رشوان في ندائه وزعيقه وثورته. أقلده وأنا أسمع تعاليمه كي تكتمل اللعبة. نملأ الغبيط بالتراب على الحمار الطين. يهمهم لأمشي وراءه. يلصق شعيرات كوز الذرة على شفتيه كشارب. يزعق ويحشرج صوته، وأنا أرد عليه (حاضر يااابه) يصنع فؤوساً ومناجل ومناقر كي يخطط حقلاً جديداً. نشوي كيزان الذرة وأزرار البطاطا أشير إليه كي نذهب إلى خيال المآتة فيقول (نايم دلوقتي) أقول له متوسلاً (عايز أسلم عليه. يرد ما بيسلمش على حد)، ونبنى داراً واسعة كدارنا، ونضع على سطحها قشاً وحطباً. نبني بيوتاً وشوارع وحوارىَ وأزقة. نزرع حولها أشجاراً وحدائق. نلعب حتى يطاردنا الثبات. يحكي ولا تنتهي الحكايات. كنت أحب طلعته حين يصل من بعيد، وأحب رائحة الغيطان التي تهب من فتحة جلبابه – أشم روائح زهور البرتقال والنعناع والقرنفل والريحان، أنتظره كل ليلة ليدس يده في سيالته ويعطيني ذر فاقوس أو خيار، أو يحكي لي عما حدث له في هذا اليوم. حيث يحكي لي عن القرموط الكبير الذي اصطاده من بئر الساقية. وعن الخروف الذي جعله يسبح معه في الرشاح ليحممه، وعن العفريت الذي ظهر له في عز نقرة القيالة. حيث وجده جالساً يتبول عند الساقية الخشب القديمة – جرى وراءه وزعق عليه (خد يا محمود ومتخفش).
حين يهل ويقف أمامي بملامح وجهه الناعمة وجبهته الضيقة ورأسه الصغير وجسده الخفيف. أحس أنه قد حط أمامي كطائر. أفرح به وألح عليه كي نخرج إلى الغيط كعادتنا. فنحدد الموعد.
وفي هذه الليلة وبعد أن هدنا اللعب وسرقنا الوقت ونحن جالسون في ضوء القمر ودفء النار. وقف عمي رشوان أمامنا فجأة ورفع خيزرانته وضربه ضربات قوية جعلته يصرخ ويقفز وينط، فهزت صرخاته الملأ. ضربه ودهس بقدمه الغيطان التي خططناها، وهدم البيوت والأنهار والترع. جرجره وركل معه كل الليالي الجميلة القادمة.

محمد عكاشة
مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى