مـيخائيـل نـعيمـه - سَرْحَبيل

هذه أُمورٌ تُحَسُّ ولا تُوصَف . حقّاً إنَّ حرفتي يا سَـيِّـدي أيُّـوب هي أعجَبُ حرْفة ، إنَّها حرْفةُ المَسكونَة بأسرها . أنتَ تَنسج باستمرار . أنا أنسجُ باستمرار . كلّ ما في الكون ينسج باستمرار ، في اللَّيل وفي النَّهار . عن وعي وعن غير وعي . حياتنا حياكة دائمَة يا سَيِّدي . وبتَداخَل النَّسيج بَعضُه في بَعض وإذا بالنَّاسج هنا يَغدو نَسيجاً هناك .
نَحوكُ . نُحاكْ . وإذا الكَـون كلُّه نَـولٌ هــائل . وإذا الَّذي يُنسج عليه نَسيجٌ هائل . وإذا أنتَ وأنا وكلُّ ما في الأرض والسَّماءِ والفضاءِ ذلك النَّسيج .

أيّـوب
لعَلَّك تُريد أن تَقول إنِّي وإيَّاك بعضٌ من ذلك النَّسيج .
سَرْحَبيل
بل أُريد أن أقول إنَّنا النَّسيج كلُّه . وفي استطاعة أيّ مَخلوقٍ يُحسّ ذلك الإحساس أن يَقولَ ما أقول . إنَّها قضيَّة إحساس يا سَـيِّـدي . لا قَضيَّة منطق وبرهان . إنَّها الصُّورة الَّتي تُحَسُّ ولا تُوصَف .
أيّوب
تُحَسُّ ولا تُوصَف ... صحيح . صحيـح .تُحَسُّ ولا تُوصَف . ولكنَّه إحساسٌ رَهيب يا أخي سرحبيل .
سَرْحَبيل
وأين الرَّهبة ؟
أيّوب
في أن تراك مُتغلغِلاً في الكَون ، وترى الكَـون مُتغلغلاً فيك إلى حدّ أن لا يَبقى أيُّ فاصل بَينَك وبَينَه .
سَرْحَبيل
وهل يُزعجك أن تَعيشَ في كونٍ لا فواصل بَـينَك وبين أيّ شيءٍ فيه ، فتُفلت من قبضة السَّاعات والمسافات لتجدك في دُنيا الأبديَّـات واللَّا نهايات ؟
أيّوب
أكيد . أكيد . يزعجني أن أذوب ذوبان الملح في الماء . أن أفقد ذاتيَّتي ــ فرديَّتي ــ شخصيَّتي . يُزعجني أن أكون ثُمَّ لا أكون .
سَرْحَبيل
ومن قال لك إنَّ الذوَّبان يعني فقدان الكيان ؟ إنَّـه يعني امتداد الكيان . يَذوب الملح في الماء ، ويَبقى الملح والماء . يضيع الخيط في النَّسيج ، ويبقى الخيط ما بقي النَّسيج . وأنتَ وأنا يا سيَّدي خَيطان في النسيج الهائل الَّذي هو الكَون . فنَحنُ باقيان ما بقيَ الكَون . والكَون بـــاقٍ يا سَـيِّـدي أيُّـوب . وهو كلُّه فيك وفيَّ مثلما نَحنُ فيه .
أيّوب
رويدك . رويدك يا سرحبيل . دعني أفهمك . دَعني ألتَقط الصُّورة . دَعني أحسُّها .
سَرْحَبيل
بل دَعني أُهوَّن التقاطَها علَيك . أغمض عينَيك يا سَـيِّـدي أيُّـوب .
أيُّوب ، كالطفل ، يمتثل لأمر سرحبيل ويغمض عينيه .
والآن حاول إذا شئتَ ــ حـاول بكلِّ قدرتك ووَعيك ــ أن ترى أينَ تَبتَدىء صِلاتك بالكَون وأينَ تَنتَهي .
أيّوب
إنَّه لَـفَـوق طاقتي يا سرحبيل أن أُبصر لصِلاتي بالكون بداية أو نهاية . ذلك لأنَّني لا أُبصر للكَونِ بداية أو نهاية . إنَّها لَصورة تُحَسُّ ولا تُوصَف .
سَرْحَبيل
أحسَنت يـا سَـيِّـدي . أحسَنت . تُـحَـسُّ ولا تُـوصَـف . هَـبـك قطرة في مُحيط . أليسَ أن كلّ قطرة في المحيط تتَّصلُ بكلِّ قطرة أُخرى وبالمحيط كلِّـــه ؟ ألَيسَ يتَّصل المحيط بالأرض وكلِّ ما فيها وما عليها ؟ ألَـيس أنَّ الأرض تتَّصل بالفضاءِ وكلِّ ما في الفضاءِ ؟ إذن كيفَ لأيِّ شيءٍ آخر في الكون أن يَنفصِل عن أيِّ شيءٍ ؟
أيّوب
مرَّةً أخرى أقول : رويدك . رويدك يا سرحبيل . هل لي أن أستَخلص من كلامك هذا أن الكَــون بماضيه وحاضره ومُستَقبله يعمل فيَّ وأنَّني أعمل فيه دون انقطاع ؟
سَرْحَبيل
أكيد . أكيد أنتَ تنسجه وهو ينسجك . تَـحوكُ . تحاكْ .
أيّوب
إذن أينَ مَسؤوليَّتي ؟ أين إرادَتي ؟ أين حرِّيَّتي ؟
سَرْحَبيل
الَّـذي يَبدو لي يا سَـيِّـدي هو أنَّـك مَسؤولٌ إلى حدّ ما تَعي نفسَـك في غيرك ، وغيرَك في نفسك . وأنـــتَ حُـرٌّ إلى حَدّ ما تَعي حُرِّيَّـتَـك في حُرِّيَّة غيرك ، وحرِّيَّةَ غيرك في حُـرِّيَّتِـك . ولك أن تُريد مــا تَشاءُ ، فيكون لك ما تُريد ، إذا لم تُعاكس إرادتُك إرادةَ الكَـون . لنا إرادة وللكَـون إرادة . وإرادة الكَون وحدَها هي الَّتي لا تُقهَـر . وهيَ وحدها الَّتي لا تَنفكُّ تَعبث بما نُـريد ، فتُسعدنا حيناً ، وحيناً تُشقينا إلى أن نَعيهَـــا كاملَ الوَعي في إرادتنا . أو نَعي إرادتنا فيها . فلا نَـحُـوك غير ما تُـريد . ولا نُـريد غير ما تَـحوك . القضيَّة ، كما يتَراءى لي يا سَـيِّـدي هي قضيَّة وعيٍ أوَّلاً وآخراً . فهنيئاً للَّـذّين يَـحوكون ويَعون أنَّ ثَوابَهم وعقابَهم في ما يَحوكون . أولئك يتَحكَّـمون في أقدارِهم إلى حدٍّ بَعيد .
أيّوب
وما دمنا لا نملك ذلك الوَعيَ الكامـــل دامت هنالك أمورٌ كثيرة تُحاكُ لنا في الخَفاءِ ونَحن عنها غافلون .
ميخائيل نعيمه
#أيوب
أعلى