مـيخائيـل نـعيمـه - بين الحق والقوة

[SIZE=22px]يتكلّم الكثير من الناس عن الحقّ والقوّة كما لو كانا في تنافس أبدي على السلطان في الأرض . فآناً يصرع الحقّ القوّة . وآونة تصرع القوّةُ الحقّ . وحتى اليوم ما ظفر جانب من الجانبين ظفراً لا غبار عليه ولا خذلان بعده . فالحرب بينهما أبداً سجال .[/SIZE]
وهنالك الذين يجعلون من الحقّ وصيفة للقوّة أوظلّاً ملازماً لها . فحيثما كانت القوّة كان الحقّ بجانبها . (( الحقّ للقوّة )) . ــ ذلك هو الدين الذي به يدينون وعلى هديه يسيرون . وإن أنت تجاسرت وسألتهم : (( وكيف يكون الحقّ للقوّة ؟ )) أجابوك بازدراء الفاهم ، وثقة العالم ، وكبرياء الواقف على ظواهر الأمور وبواطنها : (( ألعلَّك أعمى ؟ أما ترى السمكة الكبيرة تزدرد الصغيرة ، والأمّة القويّة تتحكّم في الضعيفة ؟ أما ترى الذئب يفترس الحمل ، والصقر يمزّق العصفور ؟ وما كان للسمكة الكبيرة والأمة القويّة ، ولا كان للذئب والصقر مثل ذلك الحقّ لولا القوّة . فالحق للقوّة والقوّة وحدها هي الحقّ )) .
ويا ليت القائلين هذا القول يسألون أنفسهم : ما هي القوّة ؟ وأين هي ؟ ولمن هي في عالم يتنازعه الموت والحياة بغير انقطاع ؟ فهو أبداً يموت ليحيا ، ويحيا ليموت .
أهي القوّة أن تكون لك رقبة غليظة وعضلات مفتولة ؟ ولكن ولداً صغيراً يسوق الثور ، ويضع رقبته على النير ، ويكرهه على جرّ المحراث في الحقل . وأين رقبة الولد من رقبة الثور ، وعضلاته من عضلاته ؟
أم هي القوّة أن يكون لك الدهاء فتحمل من هم أقلّ دهاء منك على قضاء حاجتك ، سواء أكانوا من طينة البشر أم من طينة الحيوان ؟ ولكن جرثومة أصغر من أن تبصرها عينك تستطيع أن تنزل بك أوجاعاً لا تطاق ، وأن تحملك في النهاية إلى القبر . أتقول إن تلك الجرثومة أكثر منك دهاء وأقوى منك عضلاً ؟
أم هي القوّة أن تكون لك الأملاك الشاسعة ، والأموال الطائلة ، والسلطة الواسعة ؟ أما سمعت بالذين افتقروا من بعد وفرة وغنى ، والذين ذلّوا من بعد عزّ وسلطان ؟ أفما سمعت بتيجان تدحرجت عن رؤوس ، ورؤوس تدحرجت عن أكتاف ؟ ولا سمعت بالزلازل ، والأوبئة ، والثورات والحروب وما إليها ؟ ثمّ أما سمعت بالموت ؟ فأين من قوّة هذه كلّها قوّة المال والسلطان ؟ أنقول ، إذن ، إن القوّة للزلازل والوباء والثورة والحرب والموت ، وإن قوّتها هي الحقّ ؟
وإن أنت تغاضيت عن هذه كلّها ، فما قولك بالحزن والهمّ والقلق والخوف والشكّ وتبكيت الضمير ؟ وهذه يضعف أمامها أقوى الاقوياء ، وأغنى الأغنياء ، وأدهى الدهاة ، وأعظم السلاطين ، فأين قوّتهم ؟
لا يا صاحبي . ليست القوّة للسمكة الكبيرة دون الصغيرة ، ولا للأمّة القويّة دون الضعيفة ، ولا للذئب دون الحمل ، ولا للصقر دون العصفور . إنّها للحياة التي منها وبها وفيها كلّ حياة ــ كلّ منظور وغير منظور . وهي تعطيها لمن تشاء ساعة تشاء . وتستردّها ممّن تشاء ساعة تشاء . فالحكم لها أولاً وآخراً . والقوّة لها أوّلاً وآخراً . وحكمها عدل . وقوّتها حقّ . ولا نزاع أبداً بين قوّتها وحقّها . وقوّتها أبداً في متناول يديك ، لو كنت تعرف من أين تتناولها وكيف .
إنّ الذين أضاءوا مشعل الهداية للإنسانيّة فاعتبرتهم بحقّ معلميها ، وما برحت تجلّ أسماءهم وتقدس ذكراهم ، ما كانوا ذوي رقاب غليظة وسواعد مفتولة . ولا كانوا من ذوي الصوالجة والتيجان ، والأملاك المترامية ، والأموال المكدّسة في المصارف والصناديق . وكانوا ، مع ذلك ، أقوياء . وقوّتهم كانت حقّاً لأنّهم استطاعوا أن يلجوا قلب الحياة حيث القوّة التي منها كلّ قوّة ، والحقّ الذي منه كلّ حقّ . وأنت لو سألتهم عن القوّة ما هي لأجابوك :
القوّة هي أن تغالب نفسك فتغلبها . ومغالبة النفس إنّما تعني تنقية الفكر والقلب من كل شهوة ونيّة تضعفك وتؤذيك فتضعف بالتالي سواك وتؤذيه . لأن حياتك مرتبطة أوثق الارتباط بحياة غيرك . فالغش ضعف وأذىً لك وللناس ومثله الطمع والحقد والبغض والفسق والكذب والنميمة وجميع أخواتها من الشهوات والنيات السود . وعلى عكسها الصدق والقناعة والعفّة والصّفح والمحبّة ، فهذه كلّها قوّة وخير وبركة لك ولإخوانك الناس ....
وهي القوّة أن تعرف أن حياتك لم تبتدىء ساعة ولدت ، ولن تنتهي ساعة تموت . بل هي أزليةّ أبديّة مثلما الحياة التي منها انبثقت أزليّة أبديّة . وإذ ذاك فالموت عندك عارض من أعراض الحياة . ومثله الولادة . فلا تغتم لذلك . ولا تبتهج بهذه . بل تكون أقوى من أن يهزّك الاثنان .
وهي القوّة أن تعرف أنّك تعيش في عالم محكم الأسباب والنتائج . فما من كلمة أو حركة ، وما من نيّة أو شهوة ، وما من فكرة أو نظرة إلا ونتائجها مرتبطة بها ارتباط النور والحرارة بالنار . وما يأتيك من خير أو شرّ ليس سوى نتيجة لازمة لما تقوله وتفعله ، وما تنويه وتشتهيه ، وما تفكّره وتتخيّله عن وعي منك وعن غير وعي . ومهما حاولت أن تتهرّب من تلك النتيجة فهي لاحقة بك لا محالة مهما تباعد بها الزمان . وإليك هذا المثل :
يحكى أن بعض مقدمي البدو حضر على سماط بعض الأمراء . وكان على السماط حجلتان مشويتان فنظر إليهما البدوي وضحك . فسأله الأمير عن ذلك فقال : قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر . فلما أردت قتله تضرّع ، فما أفاده تضرّعه ، فلما رأى أني قاتله لا محالة التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل وقال : اشهدا عليه انّه قاتلي . فلمّا رأيتُ هاتين الحجلتين تذكرت حمقه . )) فقال الأمير : (( لقد شهدتا )) ثمّ أمر بضرب عنقه .
وإذ ذاك فالقوّة هي في تفهُّمك قانون السبب والنتيجة والسير معه لا ضدّه . لذلك وهبتك الحياة الفكر والخيال والوجدان والإرادة ، حتى إذا أحسنت استعمال هذا السلاح الهائل فهمت القانون فأصبحت سيّده بدلاً من أن تكون عبده . وأصبحت أبداً في جانب الحقّ الذي لا يُقهر ، فما قلت كلّما غُلبت على أمر من أمورك : لقد غلبتني القوّة . بل قلت : لقد غلبني جهلي لقوّة حقي .
هي القوّة أن تؤمن بأنّ للحياة هدفاً من وجودك . فهي تُسرّ بأن تتمثّل فيك كاملة صافية ، مبدعة ، وبغير حدّ . وإذ ذاك فالذي يدعوه الجهلاء قدراً غاشماً ليس في الواقع غير النظام الذي سنّته لك الحياة لتنهض بك من غيبوبة اللاوعي إلى يقظة الوعي . ومن الجهل إلى المعرفة . ومن الاتكالية إلى الحرية . ومن البدايات والنهايات إلى اللابداية واللانهاية .
وهي القوّة ، وقد آمنت ذلك الإيمان ، أن ترى نفسك في كلّ إنسان وكلّ شيء . لأنّك تحيا وإيّاهم بنظام واحد ولغاية واحدة . فهم رفاقك وأعوانك في الطريق إلى الهدف وأنت رفيقهم . وإذ ذاك فأنت تخون نفسك كلّما أحببتها وأبغضتهم . ولن تصدق مع نفسك حتى تحبّ الكون محبّتك لنفسك .
وأنت متى بلغت قدس أقداس المحبّة وجدت نفسك أفسح من المكان ، وأبقى من الزمان ، وأقوى من الموت . وعندئذ تعرف أن المحبّة وحدها هي القوّة التي لها الحقّ ، والحقّ الذي له القوّة . وأن كلّ قوّة غير قوّتها ضعف . وكلّ حقّ غير حقّها باطل .

#دروب
ميخائيل نعيمه



أعلى