محمد عبد المنعم زهران – الجد يتذكر القرآن

في الماء سمك صغير، في حجم الذباب، وبعضه كبير في حجم إصبعي، والآخر – هذا الذي يجيئ من بعيد ثم يذهب مرة أخرى إلى بعيد – في حجم قطة.

أحب دائماً أن أجلس وأضع قدميّ في الماء، وتتجمع الأسماك التي في حجم الذباب حول قدميّ فأشعر بالخوف. كنت أشعر بالخوف أولًا وأخرج قدمي بسرعة فيختفون، وحين تصفو المياه يعودون باحثين عن قدمي.

جدي بجواري يُمسك عصا طويلة في يديه، ويترك الخيط الذي ينتهي بسنّارة في الماء. جدي له لحية بيضاء وشارب أبيض، لكن أبي ليست له أية لحية، أحيانًا يكون في ذقنه شعيرات صغيرة وكثيرة، ودائمًا يضع عليها رغوة صابون ويحلقها بالموسى.

كان جدي يتلو القرآن بصوت خافت وسريع لأنه قال إنه يحفظه كله، ولكنني فكرت في وضع قدمي مرة أخرى في الماء، لأن ذباب الماء قد عاد ولم يجدها، وضعتها وكان جدي يحرك الخيط في يده، وكانت الشمس دائرة برتقالية تقف على الأرض.

كانت الفئران تتقافز أسفل الشجيرات المحيطة بنا، لمحت واحدًا أبيض، واندهشت! لأول مرة أرى فأرًا أبيض وقلت لجدي، ولكنه لم يسمع! اقتربت السمكات التي في حجم الذباب فتركت لها قدمي، كلما حرّكت قدمي كانت تبتعد قليلًا ثم تعاود السباحة حول قدمي. أخرج جدي سمكة كبيرة جدًا، أكبر كثيرًا من إصبعي، وأصغر قليلًا من قطة، كان قد توقف عن التلاوة وأمسك العصا بيديه في قوة حتى خرجت السمكة، وكانت تتلوى وهى تخرج من الماء؛ ففر الذباب من حول قدمي، حرر فمها ووضعها في الطبق بيني وبينه، فنظرت إليها، كانت السمكة الخامسة في الطبق، لكنها كانت بمفردها.

قطع جدي دودة طويلة ووضع جزءًا منها في السنارة بنهاية الخيط ورماها. كان يحفر في الطين بجواره ليعثر على الطُعم، والطُعم كان دوداً طويلاً. مجرد أن يحفر قليلًا حتى يجده، طويل وأسود يشبه ثعابين، كنت أخاف أن ألمسها لأنها تتلوى مثل ثعابين، وكنت أكره الثعابين.

كانت السمكات التى في حجم الذباب تلدغ قدمى، تسبح حول أصابعى، وأحيانا تتسلل بين الأصابع، كان لها ملمس خيط حريرى؛ وسألت جدي لو كان بإمكاني إحضارها إلى البيت ووضعها في إناء كبير، ولكنه لم يسمعنى، كنت قد سألته بالأمس ولكنه لم يسمع أيضاً، كذلك سألت كل من في البيت إذا كان بإمكاني إحضارها في إناء ولم يجبنى أحد. بحثت عن جدتي وكنت متأكدًا أنها ستوافق ولكننى لم أجدها، كلما كنت أسأل ” أين جدتي؟ ” كانوا يبكون! كنت أعرف أنهم لا يعرفون لماذا يبكون، لأن جدتي هى التي تعرف كل شئ، ولكنهم مثلي لم يشاهدوها ولو مرة طوال أسبوع، وأخيراً قالوا: إنها ماتت، وإنها لن تجيئ مرة أخرى، فعرفت أنهم لن يعرفوا أشياء كثيرة لا يعرفونها، لأنها لن تجيئ.

عينا جدي مبللتان، وعندما سقطت أول قطرة صنعت دوائر في الماء ففر الذباب من حول قدمي، وشهق جدي بالبكاء، كان يلتفت بعيدًا حتى لا أراه ، ولكنني كنت أراه. بكيت أيضًا ولكننى لم أكن بحاجة إلى أن ألتفت بعيدًا، لأنه التفت إليّ ورآنى أبكي وربت على كتفي، وبكينا معاً.

كانت طيور بيضاء كبيرة تطير حولنا، وفوق الماء، كانت جميلة لأن وراءها الحقول، ووراء الحقول الشمس في دائرة صفراء كبيرة. فجأة قرصتني سمكة، نظرت ورأيتها، كانت في حجم إصبعي، ولكنني قبل أن أنظر كنت قد صرخت ورفعت قدمي، التفت جدي إلىَّ ولم يتكلم، كان يتلو، وكنت مغتاظًا، أنزلت يدي في الماء لأمسكها.

كنت أرى الناس عائدة من الحقول على الضفة الأخرى، وراءهم الشمس في منتصف الأرض، بعضهم يمشي والبعض يركب حمارًا محملًا بحزم البرسيم، الكلاب تسوق قطعان الخراف والماعز، ولكنها لا تقترب مطلقًا من الجاموس؛ لأنه ضخم. كانت السمكة قد ابتعدت ولم أستطع إمساكها، فأخرجت يدى لتقترب وأمسكها، ولكنها لم تقترب! عندما مر القارب أمامنا أشار إليّ “عليّ” وقال إنه يصطاد بشبكة كبيرة، ثم رفع سمكة كبيرة في يده فاغتظت!! قال أبو”عليّ” لجدي: السلام عليكم، ولكن جدي لم يسمع، في الأحوال العادية أقول لجدي إن أحدًا يسلم عليه، ولكننى هذه المرة لم أقل، لأن السمكة كانت كبيرة، وكان “عليّ” يغيظني! فكرت أن أمسك السمكة الخامسة التي اصطادها جدي، ولكنى تذكرت أنى ألقيتها، كما ألقيت السمكات الأربع الأخرى، لأنها كانت تتقافز بجواري وتتحرك وشعرت بأنها تتألم أو تبكي.

كان أبو “عليّ” يلقي السلام مرة أخرى على جدي بصوت مرتفع، فتجاهلته. تذكرت السمكات، كلما ألقيت واحدة كانت تجرى بسرعة إلى بعيد وتختفي في الماء. وعندما رفع “عليّ” سمكة أخرى بيده الأخرى، تأكدت أنها إحدى سمكاتنا فاغتظت، وفجأة قال جدي بصوت مرتفع: “وعليكم السلام” ولوح بيده فعرفت أنه سمع أخيرًا.

كان القارب يبتعد، ورأيت الشمس تكاد تختفي وراء الحقول، فكنت أرى بصعوبة، ولكننى رأيتها تقترب ببطء وحذر، أنزلت يدي بسرعة، فأمسكت الماء. توقف جدي عن التلاوة، والتفت إليّ، ثم عاود التلاوة.

كان “عليّ ” يُخرج لسانه لي، إذ كان قد رأى الطبق فارغاً، قلت لجدي: إننى سأضربه غدًا ولكنه لم يسمع. ولكنني رأيت أباه من بعيد، كان يضربه، أخذ منه السمكتين، وكان “عليّ” يبكي، وصوت بكائه يرن ويأتي من أماكن عديدة في نفس الوقت، ثم رأيته يميل كأنما يبحث عن شيء، ثم رأيته يقذفني به، ولكنه لم يكن ليصل أبداً، إذ كانا قد ابتعدا إلى الضفة الأخرى! فابتسمت. بعد قليل رأيته واقفًا في القارب ينظر إليّ، وكنت أعرف أنه لا يراني لأن الشمس قاربت على الاختفاء، لذلك كان الماء مظلمًا فقررت التوقف عن مطاردة السمكة، وكان جدي يتلو القرآن.

فكرت أن أعاود إنزال قدمي في الماء، لكن الماء كان مظلماً، وخشيت أن تسحبني إلى أسفل، سمكة في حجم بقرة.

أسمع عصافير كثيرة، أسمعها دائمًا في مثل هذا الوقت، نظرت إلى الأشجار، كانت تمتلئ بالعصافير، لأنها دائما تمتلئ في مثل هذا الوقت. أمسكت حجرًا وقذفته –جالسًا- فلم يصل إلى الشجرة، نهضت وقذفته بكل قوةٍ، وفجأة سمعت صوتًا صاخبًا لمئات العصافير، ولكن أربعة فقط طارت قليلًا حول الشجرة ، ثم عادت إليها مرة أخرى وكأنها لا تخاف!

أخرج جدي السمكة السادسة ووضعها في الطبق، بيننا، وكانت تتقافز أيضًا. كان “عليّ” قد ابتعد بحيث لم أعد أراه ، أمسكت السمكة في يدي، وكان جدي يلف الخيط حول العصا، كانت تتحرك وتتلوى، تحسست ظهرها فهدأت، وكان ماء يخرج من فمها فاعتقدت أنها تبكي من فمها، أمسكتها لأرى فمها ووجهها وقد قررت أن أتركها في الطبق، ولكنها قفزت فجأة وانزلقت من بين يديّ، لم أتمكن من رؤيتها، لأن الماء كان مظلماً. وجدي يتلو القرآن .

دائما يتلو القرآن، وهو يمشي في الشارع، وهو جالس في البيت، وأحيانا وهو نائم! اختفت الشمس تمامًا وسمعت صوت أذان المغرب يأتي من المسجد القريب، ورأيته ينهض، وأشار إلىّ فنهضت. أعطاني العصا ملفوفًا حولها الخيط والسنارة، وأعطاني الطبق فارغًا! مشيت بجواره مندهشًا لأنه دائماً لا يتذكر، لا يتذكر أي شيء، أحيانًا لا يتذكر أسماء أخوتي، وأحيانًا ينظر إليّ طويلًا فأعرف أنه يحاول تذكر اسمي، أنا الذي أصحبه دائمًا، والآن لا يتذكر السمكات الست التي اصطادها توًا! لكنه دائمًا يتذكر القرآن ويتلوه في كل وقت. مشينا قليلًا ثم افترقنا، ذهب إلى المسجد بينما حملت العصا والطبق فارغًا إلى البيت. مشيت بضع خطوات ثم التفت إليه وقلت بصوت مرتفع جدًا:

– جدي … لقد ألقيت السمكات الست في الماء.

التفت إليّ، كان ما يزال يتمتم بالقرآن، هز رأسه مستفهمًا، لأنه لم يسمع! لوحت له دلالة أن “لا شيء” .. فلوّح لي ومضى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى