محمد عكاشة - غياب

كانت روحي أشبه ببالونة حمراء يتقاذفها الهواء، وإذا رست دفعتها أنامل الصغار وهم لا يعبأون في أي أرض ستحط، وكنت أتمطي في الطرقات وشوارع المدن دون الإلتفات لضجيج من حولي وأهيم باحثاً عن جدول لأخلع حذائي وأرتمي بملابسي على صفحته فيغمرني سريانه وتتبلور روحي كفقاعات صغيرة تتلاشي أو كزبد يتبخر ببهجة وهدير. وكان الشوق يقطن ذنابي عيني وإذا راودته التي هي في ضيافته أعرض ونئا بكبرياء وغرور.
* هناء
تجادلني بأنها لا تؤمن بفلسفة الصدفة، أو بتحقيق شيء دون خطة مسبقة ولكني ضد نظريتها تلك وغالباً ما تنتهي المجادلة بكلماتها المعهودة لي – تقف وتضع يدها في خصرها وتميل برأسها على كتفها وتبربش بعينيها وتقول: (إنت كده في كل حياتك) وتبتسم ابتسامة غيظ ينم عن ود محفوف بمخاطر المجادلة.
أضحك وأشير لشقيقتها الصغيرة وأقول لها من (حق يا آية) فدائماً ما ترصدني تلك العنيدة فروحها شفافة أشبه بنقطة ندى ترصد ضوء الصباح من حولها. تمشي في خطوط منحنية ومنكسرة وكأنها رسمت لطريقها خريطة من قبل وعندما نقضي المشاوير سويا ترهقني كي أوازي خطواتها. تجلس كإحدى فتيات جزر تاهيتي في لوحات بول جوجان ناظرة للفضاء في هيام وتأمل. أعلم أنها دائماً ما تضع يدها على أهون وتر بداخلي، وعدم إيمانها بفلسفة الصدفة ما هو إلا مشاكسة لي كي أجادلها وغالباً ما أشير لها قبل أن تتأبط أي ذراع أن تتوخى الحذر. ودائماً ما أضبطها واقفة خلف حامل اللوحات تبكي وسرعان ما تضع كف يدها على عينيها وتستدير للنافذة، ودائماً ما كنا نجاهد سوياً كي نتخلص من تلك العادات التي تدفعنا إلى السير في طرقات مظلمة دون مصباح.
* آية
لقد مر عام كامل قبل أن أراها ترد على الهاتف بصوتها الطفولي الرقيق، ألاعبها كطفلة وهي تضحك لي كفتاة ناضجة. أمازحها وعندما تحس أنني أحدثها كنونو تسكت فجأة وتقول (هناديلك هناء) لقد احتلت معظم لوحات هناء بعينيها السوداوين وخصلات شعرها المنسدلة على كتفين نحيلين وجسد خفيف يحركه الهواء.
قمت بزيارتها بعد إلحاح منها بكلمة (علشان خاطري). خرجت لتلقاني بجسدها الصغير ووجهها المستدير مرتدية طرحة سمراء مزركشة، ابتسمت وجلست ترحب بي بخجل ودلال وبين الحين والآخر تشد طرحتها قبل أن تقع لتواري خصلات شعرها. أحست هناء أنني أنظر لآية مندهشاً من كسوفها – أمالت برأسها نحوي لتهمس في أذني (على فكرة لقد توقف نمو جسدها إنها تستنشق بصعوبة) وربتت على كف يدي وقالت (روح كبيرة في جسد صغير) رغم أنها حدثتني سراً إلا أن آية أحست أن الهمس عليها فانصرفت على استحياء ودمعت عينا هناء التي تشاطرني البحث عن طيف يمر بيننا كل يوم ليطيرا جسدانا ونرى العالم ضئيلاً وهشاً من عل، أو نتخير دون قيود على اية يابسة سوف نحط.
* نجوى
كان المرسم يحتل آخر طابق في المبني ونجوى كانت لا تعرف طريقه – فقط كنت ألمحها تمر بجواره دون الإلتفات رغم إنني ألحظها تخطف بعض النظرات بطرف عينها، فأبتسم من فضول الفراشات والذي يدفعها لتحوم حول دفء النور، فكثيراً ما احتد الجدل بيني وبين هناء على أن المرأة قيد من حديد والأجدر أن نهرب من شركه. فبعدما يفيض بها الكيل تغمض عينيها وتدفعني بعشم وتقول (بس شرك لذيذ) أما نجوى أحس تجاهها بشفقة مطعمة بحزن غير مبرر رغم أني لم أحدثها من قبل. ولكن خطواتها وهي مهرولة بجوار الحائط ناظرة أسفل قدميها مع إمالة رأسها يميناً ويساراً وهي تمشي في لهوجة تنم عن خجل من الرائي جعلتني أتتبع مرورها وأتفحص وجهها الخمري المطعم بحمرة داكنة وعينين غائرتين في محجريهما يشع منهما بريق لامع، وأنف أفطس وأسنان شبه بارزة ورأس كجرة كبيرة مقلوبة.
ربما تلك الشفقة التي أحسستها تجاهها هي أنني كنت أري من حولها لا يعبأون بحضورها، فأحياناً أراها تتوارى بوجهها رغم نظراتها الخاطفة لي، وأحياناً أراها تتشوق لأحدثها وهي تبطئ في السير أو تتحجج بالكلام مع من يقف بجانبي وتومئ بابتسامة كي أبادلها الابتسام، وعندما أعرض عن ذلك تقذفني بنظرة قاسية وتعض علي نواجزها، فتلتفت إليّ آية وهي تستنشق بعمق: (مين دي).
قبل أن أراها شغلتني مساحة اللوحة الفارغة. وضعت الحامل بجوار النافذة كي يسقط النور من الخلف. أجلس وظهري للباب فرغم كثرة الخطوات في الخارج لكني كنت أحس بخطواتها وهي تمر، أميزها بالنقرات المسرعة والمترددة، تقف وتتحدث كي ألتفت لها. قامت آية لتهمس في أذني (هناء بتقولك حرام عليك في البنت دي) قالت ذلك وجرت غارقة في الضحك ولكن كانت اللوحة ساعتها بخطوط خفيفة غير واضحة مما جعلني أنثر كل درجات الألوان لأجرب أيا منها ربما تتضح الأشكال دون عناء. فلا أعلم هل لنجوى وآية وهناء علاقة بالفكرة التي هاجمتني فجأة أم لعوامل كامنة بداخلي منذ زمن وجئن ليفجرن هذا الجرح، حتى هناء أزاحت لوحتها للخلف ووقفت تنظر لي بتفحص وقالت: أخيراً، فقد ظلت تدفعني وتحدثني عن سلفادور الذي بث الروح في كل الأشكال الصامتة من حوله. وكانت تقول أنني كسول رغم تساقط الأفكار على من السماء ولكني أهمل تحقيقها. أشاكسها وأقول: أن الأفكار وحدها لا تكفي. فالفكرة مادة مجردة إنما إذا اندمجت بالروح أصبحت كائناً حياً يتحرك.
هزت رأسها وهمهمت ونظرت للوحة والتفتت للخارج بنصف عين وقالت: (خلاص الروح بتتمشي بره آهه) قلت لها:
(تقصدي نجوى). أشاحت بيدها وخلعت كوفيتها ورمتني بها.
ضحكت آية حتى غامت عيناها.
كسرت نجوى حاجز الرهبة ودخلت بجرأة مصطنعة وقالت (ممكن أتفرج). وافقت بإيماءة دون كلام رغم أني لا أحب أن تضيق المسافة بيني وبين ما استوحى منه. فقد أربكني وجودها. وظلت هناء تروح وتجيء وتجلس آية مرة في اليمين ومرة خلف اللوحة كي تضبط ملامح وجهها مع الضوء الساقط. رسمتها ملتصقة بها ناظرة إليها بتوسل واستسلام كملاك مجنح حط عليها ليستريح قامت آية من أمامها ووقفت بجواري لأشاكسها وهمست في أذني: (خلاص أنا زهقت).
ونجوى وقفت تتحدث عن لويس أرجون وأنها متذوقة، وحينما خرجت هناء قفز حوارها فجأة عن حياتها وكيف تقضى يومها وعما تعاني من آلام، وأنها ظلت صامتة عدة أيام لا تقوى على النطق ولكن الطبيب طمأنها. تحركت بخفة وأمسكت بغلاية الماء وقالت: (أعمل لكم شاي) وذهبت لتملأ الزجاجات الفارغة ولتغسل الأكواب، وحين جاءت فرشت على المنضدة ساندوتشات ساخنة وصفقت بمرح: (أنا عازماكم).. فتحت النافذة وهللت وهي تستنشق: الله (أنا شايفة البحر). نثرت عدة أوراق أمامي ونقرت عليها لأنظر لها: (عارف الورق ده) مكتوب فيه كل الكلام الذي كتبته وأنا صامتة وهذه النقاط الحمراء هي آخر دماء نزفتها، وقبل أن تفارقني أشارت أن ملامح الفتاة في لوحتي تحس أنها تشبهها. نقرت على الباب وقالت (خد بالك من نفسك) نظرت لها في دهشة وقلت:
ياه مدعياً عدم إدراكي لذلك.
في حينها أحسست أن جرأتها هذه المرة أشبه بجرح خامل ومعبأ بآلام وقد حانت لحظة انفجاره. رغم أنها لم تجلس معي من قبل ولكنها تركت بداخلي أسئلة كثيرة متخيلاً حياتها والتي جعلتها تمشي الآن وكأنها تتحرك بالدفع أو كأنها تبحث عن شيء مفقود منذ زمن. تيقنت ذلك عندما دخلت في إحدى الأيام وأنا جالس وسط الأصدقاء وقالت: إن أبي يدعوك. التفت الجميع في دهشة وضحكت هناء وأشاحت بيدها (روح يا موسى) وخرجت لتسبقني.
لم أكن أعلم أنه سيأخذني من يدي بعيداً ويحدثني عن نجوى بأنها بدوني ستظل متعبة ولا بد أن أكون بجوارها. قال:(وأكيد أنت فاهمني كويس) وتركني ومشي. ارتكنت على دربزين السلم مندهشاً.
في هذا اليوم بعدما انصرف أبوها تساقطت الدماء من أنفها بغزارة وحين اقتربت لأضمدها – دفعتني برفق وقالت والدموع ملء عينيها أنها تود أن تأخذ اللوحة لتبيت معها وأشارت بأصبعها بتوسل – ليلة واحدة.
قبل أن أدخل من الباب هللت هناء وقالت بدلع (ها إيه الأخبار) ولما رأتني لم أبادلها الابتسام تيقنت أن هناك أمراً جللاً وكعادتها جرت لتجلس بجواري فكلما كانت القيود خفية غير مرئية أمست أقوى على النفس من صلابة الحديد.
روح نجوي هبت كعاصفة جعلتني أتمايل من فرط شدتها. لم أعِ ذلك إلا بعدما غابت عدة أيام. ظللت قلقاً قاطعاً أرضية المرسم جيئة وذهاباً. أفتح النافذة لأطل على النهر. أو أنقل الحامل من اليمين لليسار، أخرج لأقف بالممر أو أصعد فوق السطح لأراها بين المارة. كل أركان المكان سكنتها روحها وفجأة وقف أمامي أبوها دون موعد وسلم على بيد مرتعشة وقال: نجوى (سابت البيت) وخر هابطاً على ركبتيه واضعاً يديه فوق رأسه. قال ذلك وهم واقفاً وهو يهذى دون أن يرد على. ذهب وانسدل شريط الذكريات وتساقطت صورها واحدة تلو الأخرى وصدى صوتها بنبراته المهزوزة ما زال يلف المكان.
وفي مساء هذا اليوم أيضاً تحشرجت أنفاس آية وهي راقدة على ترولي بمستشفى القصر العيني، وظلت هناء تجلس أمامي تدندن بهذيان وترسم اسكتشات صغيرة ملونة تمزقها وتبكي. وأنا تارة أدور حولها وتارة أرسم على الباب دوائر بيضاء صغيرة كفقاعات أرواح تتصاعد وتتلاشى.

محمد عكاشة
مصر



* من مجموعة (هكذا قد فعل بي الرب)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى