محمد عكاشة - شهد

جرت في لهوجة وشدت الطست النحاسي الكبير المركون بجوار الحائط. جاءت بوابور الجاز من على الفرن البراني وأشعلته، ملأت صفيحة الماء وضربت كباس الوابور. سحبت يدي من وسط العيال وخلعت جلبابي وقالت: اقعد، كنت أحب راحة يدها وهي تتحسسني، وكانت كلما خلعت ملابسى لتحممني – تخلع تربيعتها فينهدل شعرها الغزير على عينيها، وتشمر، كم جلبابها وتدلق الماء الساخن فوق رأسي. أصرخ من رغوة الصابون الذي يلهب عيني ومن كف يدها الذي يحك وجهي بعنف، ولكي تتركني أبكي وأقول لها: يا شهد دون لقب فرغم ذلك كنت لا أحب الاستحمام إلا بيدها. رغم صرامة جدي وقرارته التي لا تناقش إلا أنه يستمع لها ويرضخ أحياناً، بل دائماً ما يلقي كلماتها واعتراضها على فرماناته بالابتسام والضحك، وكان إذا ثار على ضحكاتها وشقاوتها وجرأتها في الرد عليه ببجاحة – تلاحقه جدتي لكي لا يغضبها، أكبر أعمامي وأكثرهم جرأة – إذا أحب أن يوافق جدي على طلباته والتي ثار ورفضها من قبل – يدفع بعمتي شهد كي يتراجع، وحينما تدخل عليه في القاعة البرانية ويجدها تمزح لتستعطفه وتقول له: رغم غشمك إلا أنك أب طيب. وأولادك (الخناشير دول) لا بد وأن يطيعوك نعم الرجل منهم (عامل زي الهلف) وكلامه لا يقدم ولا يؤخر، وإنما هم أولادك ولا بد أنهم يرثون طبائعك (هايجبوه منين) فبعدما كانت القعدة يحيطها الحذر والتردد والخوف والنظرات التي يخطفها البعض (من تحت لتحت) – إلا أنها سرعان ما تنفجر بضحكات هيسترية صاخبة تصل لحد الإغماء، وأجساد أعمامي الصلبة العريضة والتي لا تلين ولا تتمايل – تترجرج وتتمايل على بعضها البعض، وتغرق شواربهم بدموع الفرح، وجدتي تشهق وتظل واضعة يدها على صدرها خوفاً من ثورة جدي، وخوفاً من أن تطول يده ضفائر عمتي شهد ليخلعها من جذورها ويرتاح من هذه المفعوصة والتي جاءت على آخر الزمن لتنال من هيبته. ولكنه غالباً ما يطيعها، فعندما يراها داخلة عليه يقول: (عايزة إيه يا بنت) من الذي دفع بك هذه المرة. (الكبير الخايب) أم الصغير (بتاع مراته) تضحك وتقول له (يا حدق) يلتفت إليها مندهشاً. فدائماً ردودها عليه مفاجئة ومباغتة لا يتوقعها أحد، يترك ما في يده وإذا كان (مداسه) بجواره – يقذفها به. فتفر وتزعق (أيه يا توفيق) فبدلاً من أن يلحقها يبتسم مواريا وجهه، تقف على عتبة الباب وتطل برأسها وتقول له (خلاص يا توتو دا أنا حبيبتك)، ولكن إذا منع جدي خروجها إلى زفة عروس وأصر على ذلك – تضرب عن الكلام، وعندما تعلم أنه وافق تهم مرتدية طرحتها وتمر من أمام قاعته وتنظر له بنصف عين ماسكة ذقنها وتقول له (ماشي يا توفيق) وكانت عندما تريد أن تعرف سراً كما قالت عنه وجلسن الأسرار وراهنت جدي على ذلك – تناديني وتشرح لي كيف أتحين فرصة خروجه من القاعة لأزحف على بطني متسللاً لأتواري أسفل السرير لأعرف هذا السر. وعندما أبلغها تضحك وتمسك بكف يدي وتقول (كفك) وتسلم على وتشدني إلى حضنها. ظل جدي متعجباً من معرفتها بكل أسراره والذي لا يتحدث عنها إلا مع جدتي – حتى أسقطتني ذات مرة داخل صومعة القمح الخاوية والتي كان جدي وجدتي يجلسان بجوارها كل مساء – كي أعرف ما يقال، وعندما قاما ووجداني متكوراً في تجويفها – شد جدي غطاءها المركون ووضع عليه حجراً ونادي عليها ضاحكاً: يا شهد (تعالي شيلي الغطا من على القرد بتاعك)، ضربت صدرها بكف يدها وشهقت، وبدلاً من أن تقوم بتنظيف الدار فقط – عاقبها بأن تفرط التحميصة وحدها وتنشر الغسيل. وعندما تحب أن تداعبني تشخط فى (خد يا عرة) وكي أغيظها بدلاً من أن أناديها: (يا عمتي) أقف بعيداً مستعداً للجري وأناديها: يا شهد – دون لقب، وأخرج لها لساني، فتجري ورائي أو تحدفني بشبشبها والذي دائماً لا يصيبني فألتقطه وأجري، أرجع إليها وأهددها بأنني سأفشي سرها، تشهق وتقول (كده يا عين شهد) أخجل منها وأجلس بجوارها، ولكي تسعدني تدلي الحبل الغليظ الذي نواريه بجوار الفرن ونخرجه عندما نريد أن نلعب. تدليه من فوق جذع الخشب الذي يقطع فراغ مسقط الدهليز الوسطاني وتعلق في طرفيه مقطف خوص كي تجلسني في داخله وتأرجحني وعندما تركب هي لتتأرجح وتدفع جسدها بمشطي رجليها والذي دائماً ما يرتطم ويسقطني تضحك حتى تتغرغر عيناها ويتناثر شعرها. تزعق جدتي من شقاوتها وعندما تحس أنها بالفعل غاضبة. تجادلها وكأنها لا يهمها ولكن سرعان ما تضرب الحمرة وجهها الخمري المستدير وتبكي بكاء مطعماً بضحك مهزوز ومرتعش، فهي التي تحرك السكون الذي يحتل دارنا، وهي التي تزيل عبوس الجباه وتجهم وجوه أعمامي والتي يهابها زوجاتهم، فكثيراً ما تدافع عنهن، فإذا غابت لتقضي مشاوير لجدتي – يقتل الصمت دارنا، ولا تعلو الأصوات بالضحكات والحوارات إلا بعد مجيئها. فإذا هلت رفرف الحمام وخرج من جراته ليحط على كتفها أو فوق المقطف الذي تحمله على رأسها. وإذا مشت داخل الدار تسابقت طيور الأوز والبط للالتفاف حولها، وجرت الكباش لتأكل حبات الذرة من كف يدها، وإذا نادي من بالخارج على من في الدار – ينادي شهد كي تلقاه بابتسامتها. وفي إحدى الليالي دخل وفد من الرجال والنساء قاعة جدي، وعندما شاهدت ذلك ظلت تروح وتجيء، تهبط وتصعد وهي ضامة ذراعيها على صدرها، وقفت بجوار حائط القاعة تبكي وأمي تربت على ظهرها، كنت أشد جلبا بها لتنظر لي كي أعرف ما حدث ولكنها كانت تنظر لي وتمسد شعري دون كلام. من بعدها انقطعت ضحكاتها ولم تلاعبني كعادتها بل ظلت مكلومة حتى جاء هذا اليوم والذي لم أعرف لمَ يفعلون بعمتي شهد ذلك ؟ ولمَ جاء هذا الرجل الطويل أبو شنيكه مع جدي ولمَ اجتمع الناس وهم يرددون خدناها، خدناها بالسيف الماضي ؟ جاءوا بالدفوف والمزامير والأحصنة والبنادق ووقفوا أمام الدار، ولم شبك هذا الرجل (أبو شنيكه) ذراعه في ذراع عمتي شهد وهي تبكي وخرج بها وسط الجميع دون مقاومة ؟ ولا أعلم لمَ وقفت ساعتها مكلوما لا أقدر على النطق ؟ سوى أنني فررت إلى السطح وألقيت فوق رأسه حفنة من رماد الفرن وصرخت وتواريت وبكيت حتى تضخمت عيناي.
محمد عكاشة
مصر


* من متتالية كتاب المجاز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى