د. علي مصطفى مشرفة - اللغة العربية كأداة علمية

تجتاز اللغة العربية في عصرنا الحالي مرحلة من مراحل تطورها سيكون لها أثر واضح في مستقبلها. فاللغة التي كان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم في صحرائهم وبين إبلهم وآرامهم والتي صارت بعد ذلك لغة الكتاب والفلاسفة في عصور المدنية الإسلامية؛ يتناولون بها سائر المعاني الأدبية والفلسفية. تلك اللغة قد كتب عليها أن يصيبها الخمول فتبقى مئات السنين بعيدة عن مجهودات البشر الأدبية والفلسفية والعلمية ثم ها نحن نراها اليوم وقد بعثت من مرقدها في ثوب جديد فصارت لغة الكتابة والتأليف، لغة الخطابة والتعليم في عصر انتشرت فيه مدنية جديدة وعمته حضارة مستحدثة؛ تختلف في مظهرها الخارجي وفي المحمل العقلي المرتبط بها اختلافًا بيّنًا عن حضارات القرون الوسطى. فاللغة العربية تبعث اليوم كما بعث الفتية بعد أن ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا فتجد نفسها في عالم جديد موحش لا تأنس إليه ولا يأنس إليها، وهو لعمري موقف نادر تقفه لغتنا لعله فريد في بابه. لذلك كان لزاما على الأدباء والمفكرين من أهل اللغة العربية من عصرنا الحالي أن يحوطوها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة في بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح إليها كما تتوتر لها البيئة وتحتويها. فاللغة كالكائن الحي في تفاعل مستمر مع البيئة التي تحيط به فإما تلاءَمَا فاشتد الكائن وتكاثر ونما وإما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك.
وإذا نحن قارنا البيئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه في أيام ازدهار الحضارة العربية فلعل أول ما يسترعي نظرنا من الفوارق تغلب الروح العلمية على تفكيرنا الحديث. فالمدنية الحالية كما يدل عليه تاريخها مدنية علمية، مدنية كشف واختراع، مدنية استنباط وتحليل، ولذا كان مظهرها الخارجي غاصًّا بالآلات والعدد تكتنف الناظر إليها عن اليمين وعن الشمال. فلا عجب أن تشعر لغة العيس والسهام بوحشة بين الطيارات والمدافع الرشاشة. ومما لا شك فيه أن التقدم الذي حدث بمصر وفي سائر البلاد العربية في العصر الحالي قد كان من شأنه العمل على المقاربة بين اللغة العربية الحديثة وبين بيئتها. فمن ناحية تطورت اللغة بأن دخلت عليها كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة إليها كما تغيرت معاني الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغربية علينا أو التي لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب في اللغة قربها إلى عقولنا وساعد على حسن استخدامها. ومن ناحية أخرى بانتشار التعليم بين طبقات الأمة وبزيادة تبحر متعلميها في مختلف العلوم والفنون قد انتشرت الألفاظ والتراكيب العربية وشاع استعمالها في طول البلاد وعرضها كما تكونت طوائف من العلماء والمفكرين بيننا يكتبون ويخطبون ويؤلفون في سائر العلوم والفنون فنشأت ثروة من الأدب العلمي والأدب الفني الحديثين يصح أن تتخذ مرجعًا لعلماء اللغة في دراستهم للغة العربية الحديثة. إلا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الشُّقّة بين اللغة وبيئتها قد تلاشت تماما. فلا تزال هناك مدلولات عديدة لم تتسع اللغة للتعبير عنها بحيث يشعر المتعلم منا بنقص في لغته عندما يحاول الكلام في كثير من المواضيع العلمية والفنية. كما أنه من ناحية أخرى يوجد نقص كبير في عدد المتعلمين الذين يحسنون الكتابة أو الخطابة بلغة متفق على صحتها.
وبعبارة أخرى كل ما يمكن أن يقال إن اللغة العربية الحديثة لا تزال في دور التكوين.
لو أتيح لنا أن ننظر إلى مستقبل اللغة العربية فترى ماذا نجد؟ هل نجد لغة واحدة يكتبها ويتكلمها المتعلمون من أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام وغيرهم من الأمم العربية بفروق ضئيلة؛ لا تزيد على الفروق بين لغة أهل استراليا ولغة أهل إنجلترا. وهل تكون هذه اللغة قريبة من اللغة العربية التي أكتبها الآن قرب لغة الإنجليزي المتعلم الآن من لغة شكسبير؟ أم هل نجد لغات مختلفة لغة في مصر وأخرى في العراق وأخرى في لبنان، مثلها كمثل اللغة الألمانية واللغة السويدية واللغة الهولندية في تقاربها وتباعدها، كل لغة متأقلمة بلهجة أهلها ولا صلة بين أيها وبين لغة هذا المقال إلا كالصلة بين اللغة الألمانية واللغة اللاتينية. وبعبارة أخرى هل ستحيا اللغة العربية وتنتشر أو ستموت وتندثر وتحل محلها لغات أخرى! إن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم. فاللغة كما قدّمتُ في دور التكوين، ولذا ففي يدنا قتلها وفي يدنا إحياؤها. أما قتلها فيكون بالجمود بها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها على توحيدها والمحافظة على وحدتها. وأما إحياؤها فيكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشي بها في السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة. ومن حسن الحظ أن لدينا اليوم من الوسائل ما نستطيع به المحافظة على لغتنا في مصر وفي سائر البلاد العربية، فانتشار المطبوعات وسهولة الانتقال من بلد إلى أخرى والإذاعة اللاسلكية كل هذه عوامل قوية على توحيد اللغة وتعميمها إذا نحن أحسنا استخدامها وتنظيمها.
ولست أتعرض في هذا المقال للغة الأدبية بل أترك ذلك لأدبائنا وكتابنا وإنما أريد أن أشير إلى بعض الصعوبات التي تصادف لغتنا اليوم كأداة للتعبير العلمي. فمن جهة لا تزال كمية التأليف العلمي في مصر وفي الأقطار العربية ضئيلة بحيث لا يمكن بحال ما أن تعتبر ممثلة لحالة العلم في العالم اليوم، ومن ناحية أخرى يعوز المؤلفات العلمية الموجودة التهذيب كما يعوزها التجانس في المصطلحات، فكثير من المدلولات العلمية لا توجد الصيغ اللفظية لها، وبعض المدلولات توجد لها صيغا ما ضعيفة أو غير صالحة، كما أنه توجد في بعض الأحايين صيغ متعددة للمدلول الواحد مما يؤدي إلى نوع من الفوضى في أدبنا العلمي يجب علينا تلافيها. والطريقة المثلى للتقدم تكون بتأليف لجان من الإخصائيين لمراجعة المؤلفات الموجودة وتهذيبها والعمل على تجانسها كما تكون بتكليف القادرين منا وتشجيعهم فرادى ومجتمعين على وضع المؤلفات في مختلف الفروع العلمية حتى تتألف لنا ثروة من الأدب العلمي يصح أن يعتمد عليها علماء اللغة في استخلاص المصطلحات والعبارات العلمية في لغتنا الحديثة وتحديد معانيها ومدلولاتها بمعاونة العلماء الإخصائيين في ذلك. ويجب أن أذكر بهذه المناسبة أن من العبث أن يحاول علماء اللغة وضع المصطلحات العلمية وضعا قبل ورودها في المؤلفات العلمية وشيوع استعمالها فإن ذلك يكون من باب التسرع وقلب النظام الطبيعي لتطور اللغة وهو في الغالب مجهود أكثره ضائع إذ لا يمكن التنبؤ بما إذا كان مصطلح من المصطلحات سيبقى ويدخل في صلب اللغة أو سيموت ويحل غيره محله.
بقيت نقطة أريد أن أتعرض لها وهي العلاقة بين المصطلحات العربية ومصطلحات اللغات الحية الأخرى. ففي رأيي إنه من الجائز استعمال مصطلح أجنبي في لغتنا (بعد تحويره ليتفق مع ذوق اللغة وأوزانها) بشرط أن يكون هذا اللفظ مستعملا في جميع اللغات العلمية الأخرى أو في معظمها. ومثل هذه الألفاظ تكون في الغالب مشتقة من أصل إغريقي أو لاتيني لا جناح علينا نحن إذا اشتققنا منه كما اشتق غيرنا. أما الألفاظ الأجنبية المقصورة على لغة واحدة أو لغتين فرأيي أن يكون له عندنا لفظ عربي مرتبط بأدبنا وتفكيرنا.
ولا يتسع المجال لزيادة التفصيل فليس المراد من هذا المقال أن أدخل القارئ في مسائل فنية هو في غنى عن بحثها وإنما أرجو أكون أثرت من نفسه الاهتمام بهذا الموضوع الذي هو من أهم المواضيع المرتبطة بحياتنا وتقدمنا. ‏
____________
نقلا عن مجلة الرسالة، العدد الأول 15 – 01 – 1933م
أعلى