محبوبة خليفة - قطرات الزَهَرّ*.. قصة قصيرة

لم يفتح الباب بمفتاحه كما تعود أهل بيته، طرقه طرقاً ضعيفاً بيدٍ واهنة وجسد خذل صاحبه. اسرعت إبنته لتفتح بقلبٍ متوجس حذر ، راقبت من العين السحريةوأدركت أن أمراً غير طبيعي يحدث. إنه والدها سريع الحركة قوي البنية،يدخل هذه المرة مجرجراً قدميه ويجلس على أول كرسي يصادفه في صالة البيت المقابلة للمطبخ ويشير بيده للسيدةالجميلة-التي تستعجل إبنتها وزوجة إبنها لتجهيز الطعام ولم تنتبه للدقات الواهنة ولا للجالس في الصالة أمامها-يطلب قطرات من ماء الزَهَرّ-فنفَسه متقطِّع ويحتاجه لينتعش ويستعيد قواه.

أسرعت للميزانا*الكبيرة ذات الحجم العائلي بسائلها المبارك الذي تخزنه الأسرة سنوياً لإستعمالاتٍ متنوعةكالطبخ،وللطبابة أيضاً.أحضرت الكوب وجلست بجانب الرجل الذي سكن قلبها منذ، منذ؟ بدتْ وكأنها تحاول أن تحصي سنين رفقتهما ،لكنها تجاوزت ذلك،وسقته ماء الزهر ثم مسحت بمنديل مبلل بالقطرات العجيبة على رأسه وجبهته،وبدرت إبتسامة من الجالس بقربها فهدأ القلب الواجف وبادلته ابتسامة إطمئنان .

ليس هذا وقته ياحويج؟ أجّل مانويت لازلنا بحاجتك، وضحك الحويج اللطيف واستكان قلبه العزيز واستعاد هدوئه. حكى لهن عن (اللي صار) وكن ينتظرن تفسيراً ، قال: كنت أسرع الخطى محبَطاً وعائداً للبيت وقد تركت كل شيء، كل شيء ورائي، ويبدو أن القلب الموجوع أثقل خطاي وهذا ما جرى.

لقد أنهيتُ يوم مراجعة طويل لمحتويات المحل وللخزنة ولأوراقي المهمة التي كنت أجمعها وأضعها بحقيبتي فلم يعد المكان آمناً ،هكذا نصحني زملائي في السوق، قالوا لي إن الوضع مريب ولا ينبىء بانفراجة قريبة.
فتوجست مما يجري واستمعت لنصيحتهم،غير أن شابين ضخمي الجثة كانا أسرع مني، اقتربا-وقد فوجئت بدخولهما مكتبي داخل المحل دونما استئذان- وطلبا مني ترك الخزينة مفتوحة بما حوته، ومفاتيح المحل! أخافني الوضع ولم أناقشهم،وتركت عمراً بأكمله يبعثرانه بعنجهية وسخرية وقلة احترام.

اقتربت إبنته مواسيةً وسعيدة بسلامته وقد أخفت حزنها لما جرى،وأعطته رسالةوصلت في غيابه، فتحها وتأمل صورة بداخلها قبل ان يقرأ مافيها. إبنته التي يحب، والتي اختار لها القدر غياباً طويلاً تخللته سنوات من العتمة لم يكن يعرف خلالها أخبارها إلا خلسة ودون علم السلطات ، فلا مكالمات ولا زيارات.لا شيء يطفىء لوعة البعد ولاوسيلة متاحة تعلمه بأحوالها. تأمل جمالها وقوة شخصيتها الظاهرة والتي يعرفها وارتاح لهذا التطور،فوصول صورة منها يعني انفراجة لابأس بها-رغم الأخبار الغريبة ورغم ما يجري في المدينة- باقي الرسالة محبة وتطمين ودعاء بقرب اللقاء وهكذا كانت رسائلها بلا تفاصيل. يالهذا القلب كم يثقله الشوق والكتمان والصبر .

عافر هذا الرجل الحياة طويلاً مارس مهن كثيرة .. وفي شبابه لم يبخل على نفسه بشيء يكدُّ في العمل ويستريح ويسافر ، يجوب العالم مع أصدقائه المقربين ، كانت هذه إحدى متعه التي لا يفرِّط فيها ولا يتنازل عنها. هذه الرحلات أكسبته ليونة طباع عابرة للمكان والزمان وحتى لجيله .
غير أنه لم يحسب حساباً لهذا الذي يجري حوله.لا والله ولا حتى داربخلده ولا، ولا ، هكذا كان يحكي لنفسه ولمن حوله. يقول: اصدقائي في طرابلس استبَقوا العاصفة وربما لأنهم قريبون من موقع هبّتها العنيفة، نصحوني وضحكت من تخيلاتهم. في الواقع لم تكن تخيلات،كانوا قد قرأوا النوايا ولم يكن المناخ يوحي فعلاً بالهدوء، كان هدوءً مخادعاً.

تحرك في الصالة الفسيحة ذات الأثاث الجميل الذي أشرف ورفيقته على كل تفاصيله،كان المكان مهيئاً لمرحلة أخرى في حياته خطّط لها لكنه لم يكن يتوقع أن تجري الأمور بهذه السرعة.
اتجه لنساء الأسرة الصغيرة وأخذ حفيده وسميه بين ذراعيه وتأمل وداعته وجماله ثم أعاده لجدته ووضع في يدها -المشغولة بحمل الحبيب الصغير-نسخة أخرى لمفتاح محله فبهتت النساء لما يجري، أما هو ففتح باب الحديقة الخلفية فباغته الهواء البارد فزادت راحته وأخذ نفساً عميقاً، وتبادل مع قطعة الأرض الصغيرة النظرات!كانت تبثه الشوق منذ زمن بعيد وكان يؤجل الردَّ لزمن آخر لكن يبدو أن ذلك الزمن جاء غريباً وحثيثاً وسريعاً، أسرع مما تصور.

محبوبة خليفة

* قطرات الزَهَرّ: قطرات ماء زهر النارنج وصناعة تقطير زهر النارنج تشتهر بها مدينة درنة الليبية
* الميزانا :زجاجة مدورة الشكل بألوان جميلة وبحجم كبير تستعمل لحفظ ماء الزهر المقطّر. والكلمة محرَّفة عن الإيطالية

# قصص قصيرة-محبوبة خليفة
نشرت على موقع السقيفة الليبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى