فهد العتيق - شموخ جديد.. قصة قصيرة

أذن الفجر فسمع صوتاً أنثوياً بقلب احتفالي يهمس له برفق : قم .. كأنه صدى صغير لصوت المؤذن ، يتردد في أذنه فيتذكر أزمنة الصباحات القديمة ، حتى إذا ما انتهيا، الصوت والصدى ، شعر بيدٍ باردة على رأسه ، ليرد : أنا مستيقظ ولكن أشعر بالبرد، يقول الصوت ناصِحاً : يجب أن يراك الناس في المسجد ليعرفوا انك كبرت .
في الشارع الرطب القارس البرودة ، بدأ الشاب يشم روائح كريهة كأنها لبول قطط أو كلاب ، روائح قوية ونفاذة كأن بالإمكان لمسها بأصابع اليد من شدتها . وضع كفيه في جيبي ثوبه ، انحرف إلى شارع صغير بإضاءة ضعيفة ، يقود إلى الشارع العام وهو يتأمل حركة الأطفال مطبوعة على أتربة الشارع ، بأقدامهم الصغيرة التي ركضت كثيراً ليلة البارحة ، وهي ترشق مصابيح الضوء الباهتة بالحجارة ، كان يمشي ويفتش في مشاعره العارية ، مثـل طفل ولد تواً ، مشاعره الدخانية في أكثر الأحيان ، محاولاً إعادة كل شيء لم يفهمه إلى أبعاده الأليفة التي تمنحه القدرة على أن يعيش سعادة متوهمة، لكن رائحة بول القطط والكلاب أخذت تفوح في الحارة وتغطي جدران البيوت بألوان مستحيلة، وخارجة إلى فضاء المدينة لتملأه بما يشبه الحريق الهائل، وكانت الذاكرة تعود إلى الوراء ، ذاكرة الأب الذي يملك نصف بيت القديم والأم والأخوة والأخت والحارة، ذاكرة سوداء تُخّلف فيه أثراً من الأشياء المظلمة ، وكان يسمع همس بعض الرجال داخل المسجد يأتي عبر مكبر الصوت الذي يفرحون كثيراً لوجوده ، كأنما يمنحهم القدرة المأمولة على دخول بيوت الحارة قسراً ، كانوا يهللون أو يكبرون بأصوات مسموعة ، كما يسمع وقع إقدام بعيدة آتية إلى المسجد ، أقدام تصدر صوتاً مميزاً في هذا الوقت من الليل.
وصل الشارع وبدأ يمشي تحت العمارات حتى ظهر ظل صغير ، ولم يلبث حتى رأى رجلاً بملابس شبه عسكرية فارتعب خائفاً أن يرتاب من وجوده، اقترب منه الرجل فرأى الشاب جسداً نحيلاً ووجها يشيع صفرة في المكان ، يحمل في يده صافرة إنذار وفي اليد الأخرى عصا سوداء ، سأله هذا الرجل بصراحة صوت يفتعل الخشونة ومفعم بالشعور بالسلطة: ابن من أنت .. قال الشاب في نفسه: ربما إن هذا من جماعة عسس الليل، ثم رآه يتأمله بريبة ، ثم يقترب منه ليسأله مرة أخرى بصوت آخر: ابن من أنت . ماذا تريد هنا في هذا الوقت . أتم أسئلته ولم ينتظر إجابة ، كان يبدو كما لو أنه فرح بمهنته و بوجود هذا الضيف من أجل أن يمارس دورا عمليا ما ، هدأ الرجل قليلاً وكان الشاب يشعر بطعم مرّ في حلقه لإهاناته السخيفة . لهذا رد على الفور: أتمشى. ورأى أن إجابته قد أحبطت داخل الرجل ، ولم يجد الرجل سوى أن يمد يده الطويلة جداً ليقبض بها على اليد اليسرى للشاب : تعال معي .. والشاب ثابت في مكانه بصمت، فيحاول الرجل إقناعه أنه إجراء روتيني فقط في المكتب، لكن الشاب لازال ثابتاً في مكانه ، والرجل لا يدرك أن الولد الذي أمامه كبر فقط هذا الصباح . وفي هذا الصباح فقط امتلأ بأشياء كثيرة . ولهذا راح الولد يتأمل قامة الرجل القصيرة وجسده النحيل ، رأى ضآلة الرجل أمام جسده الفتي والشامخ بشكل احتفالي يليق بهذا الصباح الجديد ، جسد رجل كبر توّاً ، ولم يجد هذا الولد الخارج ردا على مثالية ساذجة كان يزمع أن يرتكبها سوى أن يبدو أما نفسه اكثر وضوحاً ، تاركاً خلفه كل الجوانب الغامضة للأشياء ومنها هذا الرجل ، فاقترب من الرجل الذي يمسك بيده ، اقترب منه وهو يشعر بأنه يكبر كل لحظة أمامه ، اقترب بصمت احتفالي مهيب ، مدفوعاً برغبة عارمة وخطوات فرحة، تشيع بهجة في الفضاء وتكسو جدران البنايات بألوان بهية لها نكهة الربيع. كان الشاب يحارب رغبة داخلية في التعبير عن مشاعره الجديدة التي تملؤه في هذا الصباح التاريخي ، حتى وجد فجأة جسده يتقدم ليصادم جسد الرجل بهدوء ، ثم يرتد قليلاً ويعيد الكرّة مرة أخرى حتى أطلق الرجل سراح يده ، ثم تقدم الشاب مرة ثالثة ودفع الرجل في صدره ، بينما ظل جسده الفتي صامدا وشامخاً لا يتزحزح ، حتى في عنف اندفاعه المثير للمشاعر يظل شامخا وفرحا ، وهو يرى الخوف في عيني الرجل، ذلك الشيء الذي ظل ينتظره منذ أزمنة قديمة ، تراجع الرجل إلى الوراء في خطوات مرتبكة تتعثر وخوف صريح ، جعل الشاب يتشجع كثيراً لدفع جسده اكثر إلى الأمام ، وكان صامتاً يشعر بجمال هذا الفعل الغامض بوقار، هذا الفعل الذي يسري في دمه مع خوف صغير من نهاية هذا الغضب الذي يجتاحه الآن ضد هذا المخلوق، الذي أطلق ساقيه للريح وهو يطلق صوت صفارته بكل ما أوتي من قوة ، كان الصوت يملأ المكان ويهز هدوءه العميق ، وكان الرجل بصفارته وعصاه وخوفه ودهشته يختفي في ظلام دامس ، والشاب يعود إلى بيته يصحبه شموخ كبير وشروق صغير جميل و وغامض له نكهة جديدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى