عباس عبد جاسم - هكذا أفهم اليسار الجديد

من الخطأ إلحاق اليسار الجديد بالتبعية السياسية والأيديولوجية المذيّلة بالشيوعية والماركسية، فاليسار الجديد ليس حزباً أو حركة أو طبقة اجتماعية، فـ»اليسار عمل مفتوح، والماركسية مذهب أو نظام مغلق»، (ياسين الحاج صالح «أي يسار، وأين، وأية سياسات يسارية؟»).
لقد دخل اليسار الجديد ــ الفضاء التداولي، بعد انتفاضة الطلاب في مايو/ أيار 1968 في فرنسا، وقد قادت هذه الانتفاضة «مجموعات يسارية غير شيوعية، تنتمي الى طبقات اجتماعية ميسورة نسبيا ومرفهة في حياتها اليومية»، (وليد نويهض «اليسار الجديد وخروجه على الماركسية الكلاسيكية»),
من هنا أفهم اليسار الجديد، بوصفه رؤية جديدة للتغيير، من أهم سماته: الإيمان المعلمن بالتغيير، وتفكيك أوهام الخرافة: عبادة الفرد/ تقديس الماضي/ النموذج الأمثل. ومع انهيار النموذج القومي للدولة العربية، وانهيار النموذج الأممي للدولة السوفييتية، اتجه اليسار الجديد نحو أفق أوسع، حيث اقترن بأطروحات ما بعد الحداثة، خاصة معطيات ما بعد الثورة الصناعية الثانية، على مستوى انتقال علاقات الإنتاج من طور الآلة إلى طور التقانة. وإن كان الانهيار، قد استدعى الحاجة إلى يسار جديد، يضع أمامه مهمة: تغيير المجتمعات العصّية على التغيير، بالعنف القائم على التغيير، أو بما يسميه سلافوج زيزك في كتابه «العيش في نهاية الأزمنة» بـ(العنف الثوري)، بعد فشل العنف في تحقيق الأهداف الشيوعية.
ومع بزوغ العولمة، تراجعت مفاهيم: الطبقة العاملة/ الصراع الطبقي/ رأسمالية الدولة/ دولة الرفاه/ التنمية الوطنية المستقلة، لصالح تقدم مقولات: اقتصاد السوق/ الديمقراطية/ الليبرالية/ الهيمنة المضادة، وبذا كان لابد من استبدال الشيوعية بالديمقرطية والماركسية بالليبرالية، فالشيوعية لم تعد متماسكة، بعد أن تشققت، ابتداء ً من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956، وما تبع ذلك من أحداث في المجر وبولونيا وغيرها.
ومن تناقضات العمق الاجتماعي، ومن أزمة البراكسيس بين النظرية والتطبيق، ومن نهاية الشيوعية الشمولية، وزوال ما تبقى من القوى النيوماركسية – طلع اليسار الجديد برؤية جديدة، رافضة لما يسميه ياسين الحافظ بـ«الماركسية المسفيَتة» ورافضة أيضا ً لـ«ديكتاتورية البروليتاريا» التي تضخمت فيها المركزية اللاديمقراطية. لهذا لم يتمأسس اليسار الجديد على أنقاض ما يسمى بـ«اليسار التقليدي»، وإنما تمأسس على مبدأ تجاوز التبعية والذيلية، والتجاوز هنا «ليس إجراءً، وانما هو رؤية للعالم»، (الطاهر لبيب «اليسار العربي والتباسات النقد الذاتي»). وبذا أخذ اليسار الجديد يستند إلى أطروحات عبر سياسة أو عبر أيديولوجية، فقد زحزحت الأطروحة الانقلابية لروجيه غارودي في كتابه «البديل» – ستاتيك النظام الاشتراكي، والخروج عليه بفهومات جديدة، منها: «إن ضرورة الاشتراكية ليست محض ضرورة اقتصادية» و«ليست المشكلة الأساسية مشكلة عنف التغيير أو مشروعيته، بل مشكلة مضمونه واتجاهاته»، و«ليس المطلوب إلغاء السوق، وانما المطلوب على العكس إنقاذ القيم المتولّدة من السوق»، (روجيه غارودي «البديل» ترجمة جورج طرابيشي).

كما ابتكر غارودي فكرة «الكتلة التاريخية الجديدة»، التي قامت ضد التصورات الميكانيكية للنزعة المادية التاريخية، بل ذهب إلى وجود ثلاث وقائع أساسية، خلقت شروط التجديد:
ـ نهاية الاستعمار.
– الانقلاب العلمي والتقني الكبير.
– قيام الاشتراكية وانحرافاتها.
وبذا تشكل «الكتلة التاريخية الجديدة»: ( البديل) الموضوعي الجديد لـ «ديكتاتورية البروليتاريا».
لهذا لم يتبنّ اليسار الجديد – الماركسية في التفسير المادي للتاريخ، وإن السلطة لم تعد مركوزة في جهاز الدولة، ولم يعد فائض القيمة هو المصدر الرئيسي للإنتاج، ولكل ذلك لم تعد أفكار ماركس تنسجم مع تغير الظروف الزمنية وتبدل الشروط التاريخية. ولعدم قناعتي بما يسميه ماركس بـ«الوعي الزائف» في كتابه «الأيديولوجيا الألمانية»، أعتقد مع سلافوج زيزك بـ(نظرية التوسير)، بأن ليس هناك «وعي زائف» و«وعي حقيقي»، لأن أعمق دوافع الذات تكمن في اللاوعي، وهناك ثلاث مراحل من اللاوعي، هي: (الواقعي/ المتخيل/ الرمز)، و«إن الأيديولوجيا، هي تأويل الواقع وقراءة له»، (ذياب فهد الطائي «سلافوج زيزك – هل يمثل اليسار الجديد حقاً؟»).
لقد اكتشف ماركس نظرية الثورة، ولكن ما جدوى فاعلية النظرية من دون براكسيس؟ واكتشف قانون تطور التاريخ البشري، ولكن التاريخ تطور خلافاً لتصوره المادي للتاريخ، واكتشف قانون نفي النفي (الهيغلي) القائم على حتمية زوال الملكية الرأسمالية لصالح الملكية الاشتراكية، ولكن النتيجة جاءت عكس استنتاجه، فقد زالت الملكية الاشتراكية لصالح الملكية الرأسمالية، واكتشف القانون الخاص بنمط الإنتاج الرأسمالي، والمجتمع البورجوازي وقانون القيمة المضافة، ولكنه لم يكتشف قانون السوق الذي أبطل مفعول مركزية هذه القوانين كلها. لهذا كان اليسار الجديد يتحرّك بقوة الاختلاف مع الإرث الماركسي والشيوعي، ليتجه نحو بناء ذاته اليسارية، من دون أن يكون شيوعيا ًأو اشتراكيا، ومن أهم تمثيلاته المضادة: معارضة تمركز القوة والثروة في بوتقة واحدة، كما كان يتشكل من حركات احتجاج (حقوقية) متمردّة على نحو مغاير للأحزاب الشيوعية المأزومة القائمة على مفهوم المركزية الديمقراطية.
إذن اليسار الجديد، يعنى بـ: الحرية والمدنية والتخيّل والاختلاف والثورة، من دون اعتقاد دوغمائي بالشيوعية والماركسية، وبذا فهو نفي لعالم قائم بإثبات عالم ممكن جديد.
* ناقد وكاتب من العراق
أعلى