عبد العلي الودغيري - مَن مِنكمُ خَذلَ الربيع؟

1 ـ
قضَى الربيعُ ساعةً مِن يومهِ
مُستَرخِيًا، مُنتَشِيًا،
بصَحْوهِ، وشَمسِهِ، وبامتدادِ ظِلِّهِ،
ومائِهِ المُنسابِ في حُقولِهِ
مُستَسلِمًا لحُلْمهِ، مُراهِنًا
على صَفاءِ عيشِهِ في غَدِهِ.
لكنْ، تَراءَتْ غَيْمَةٌ، ونشَرتْ جَناحَها،
سَرعانَ ما تَلبَّدتْ خُيوطُها،
وأَحكَمَتْ قبضَتَها.
تَكدَّرتْ لَحظَتُهُ، وأَظلمَتْ طريقُهُ،
وانهزَمَتْ أمامَها
جُيوشُهُ.
تَوَلَّى عنها راجعًا، مُنكَسِرًا.
تَقَطَّعتْ أنفاسُهُ،
تَشَقَّقَتْ أَقدامُهُ،
مِنْ جَرْيهِ خلفَ السَّرابْ.
فمَنْ أَباحَ سِرَّهُ؟
ومَن يكونُ خانَهُ، وباعَهُ؟
مَنِ استَباحَ عِرْضَهُ، ودَمَهُ؟


يا سادةً مُعَظَّمينَ، دائِمينَ، خالِدينْ.
عُدنا إليكُمْ صاغِرينَ، خاسِئِينَ،
أظفارَنا مُقلِّمينْ
أعلامَنا مُنَكِّسينَ،
حامِلينَ ضَعفَنا، وجُبْنَنا، وقُبْحَنا
وخَلفنا أَثقالَنا،
مِنَ الجُروحِ والقُروحِ والوَجَعْ.
أَطفَأتُمُ شمسَ الربيعِ...
فاتركُوا لنا الصَقيعْ
نموتُ فيه كلَّ يومٍ جاثِمينَ، جامِدينْ،
وفي الخريفٍ والمَصيفْ
نَذوبُ في أوساخِنا، وذُلّنا، وقَهْرِنا.
تَقتُلنا أَحقادُنا،
وبَينَنا بَأسٌ شديدْ.
فلتَشرَبُوا كُؤوسَكُمْ، وتَرقصُوا
على هزائِم الربيعْ.
دُقّوا الخيامَ والأوتادَ في مُروجهِ الخضراءِ، واعبَثُوا
بعُشبهِ، وزَرْعهِ، وضَرْعهِ،
وجَفِّفُوا
كلَّ منابِع السَّواقِي والعُيونِ والغُدرانِ،
وازحَفُوا زَحْفَ الجَرادْ.

3 ـ
حلَّتْ مَواسِمُ الحَصادِ، فاقصِفُوا،
أحلامَنا،
وفتِّشوا عمّا يدورُ في جَماجِم الصِّغارْ
مِنَ الخَواطرِ التي قد أرَّقَتْ
مَضْجَعَهمْ، وأَجَّجَتْ
ما كان في خيالِهمْ من الجُمُوحِ،
والغُرورِ، والطّموحِ،
وابحَثُوا عن الأصوات في حَناجرِ الطُّيورِ...
قد يكون بَينها لحنٌ نَشازْ.
ثم اقطَعُوا رأسَ الزَّنابقِ التي تَرونَها
سوف تَبوحُ للحقول بالأسرارْ
وحاصِرُوا تلك الفراشَةَ التي
كانت تَحُومُ حولها،
لعلها تَحكي لها هُمومَها،
تبُثُّها أشواقَها وحُزْنَها،
وربما تَحثُّها
على التفكيرِ والكلامْ
أوِ الهُروبِ والعِصْيانْ.

4 ـ
هيّا ازحَفُوا، لا تَخجَلوا.
ومَن نكونُ نحنُ حتى تَخجَلوا أو تُحْجِمُوا؟
قُولوا لنا إن شِئتُمُ:
« مَنْ أَنتمُ ؟ مَنْ أَنتُمُ؟»
نحنُ مُجرَّدُ ذُبابٍ وبَعُوضٍ حَشَرِي
نحنُ الرَّعاعُ الأبَدِيْ
نحنُ كِلابُ صَيدِكُمْ، حاشاكُمُ،
نَنْبَحُ أَنَّى شِئتُمُ وراءَكُمُ،
نَسيرُ في رِكابِكُمْ
نُهَيِّجُ الصيدَ لكُمْ
ثم نَصِيحُ: نَعَمُ.
كلُّ الخِرافِ إنما قد خُلِقَتْ
لكيْ تقولَ للذِّئابِ: نَعَــمُ.
نحنُ مَراعِي خَيْلِكِمُ وبَهْمِكُمْ
نحن خَشاشُ أرضِكمْ.
فلتَرتَعُوا، وتَمرَحُوا، وتَعبَثُوا.
وأنتمُ، مَنْ أنتُمُ؟
أنتُمْ مُبيدٌ بَشَرِيْ
فدَورُكمُ أن تَقتُلوا،
ودَورُنا أنْ نُقتَلاَ.
وبَعدها نَدعو لكُمْ:
عِشتُمْ لنا، يا سادةً،
مُعظَّمينْ، حاكِمينَ، خالدِينْ.

5 ـ
جَرَتْ أنهارٌ بالدموعِ والدماءْ،
فَلتَشرَبُوا أنهارَنا،
مَنْ مِنكمُ أحسنُ غَوصًا في الدماءْ؟
لكنَّني أُوصِيكُمُ:
لا تَأْمَنُوا يومَ تَفيضُ بالسُّيولِ الجارفاتِ،
عاصفاتٍ مُظلِماتٍ
زاحِفاتٍ ماحِقاتْ.
تَسوقُها أمواجُنا،
تَحملُها أَرواحُنا.
ويَومَها،
لن تُوقِفوا سُيولَها،
لنْ تَأْمَنُوا شُرورَها.

عبد العلي الودغيري (ملحق العلم الثقافي لجريدة العلم).
الرباط، 2013م.
أعلى