مـيخائيـل نـعيمـه - عظة الغراب

علّمتني جدّتي في صغري أن أكره الغراب . أولاً لسواده الشبيه بالحداد . وثانياً لتنعابه المنذر بالبين . وثالثاً لأنّه خان سيدنا نوحاً ــ عليه السلام ــ يوم أطلقه في الفُلك ليأتيه بخبر عن الطوفان فلم يرجع .
غير أني ما كرهت الغراب لسواده وتنعابه وخيانته قدر ما كرهته لأنّه ــ على زعم جدتي رحمها الله ــ شاء يوماً أن يقلد الحجل في مشيته فلم يحسن التقليد ونسي مشيته . فأصبح من ذلك اليوم يمشي بين جمز ونقل .
ما برح كرهي للغراب ينمو مع السنين إلى أن جمعتني ظروف غريبة بشيخ فلاسفة الغربان . وكان ذلك في يوم صيف تسعرت أنفاسه . فخرجت فيه إلى البريّة أقصد بلوطة قديمة أعرفها لأقيل في ظلّها . وما ان التصق جسمي بجسم الأرض وأحسست بلهاثها المنعش يتمشى في مفاصلي الذاوية حتى دخلَت الطمأنينة قلبي فاحتلته . واخترقت هيبةُ السكينة معاقل فكري فاستسلم لها . فكنت كالطفل في حضن أمّه تهدهده فتنقله بتهاويدها من عالم إلى عالم .
وأنا كذلك وإذا بصوت يرنّ في أذني . صوت عرفته أذناي من زمان فكرهتاه : قاق . قاق . قاق . ـــ فأجفلت كالملذوع .
التفتّ إلى فوق وإذا بغراب جاثم على جذع من جذوع بلوطتي يرمقني بعين واحدة , فصحت والغيظ يمزقني كلّ ممزَّق :
(( خسئت من بين كل الطيور ! أو مَا كفاك أن عكّرت عليّ صفاء قيلولتي حتى أراك تضحك مني كذلك ؟ وماذا الذي يضحكك ؟ ))
فقال وكل ريشة فيه تنتفض من القهقهة :
(( اعذرني ، اعذرني ، فإني لا أملك نفسي عن الضحك كلما رأيت إنساناً . لأنّكم ، معشر الناس ، أغرب ما في الكون وأدعى إلى الضحك من كل ما فيه ، اعذرني ! ))
قلت : (( أراك تؤنّبني بحسن لباقة . وتضحك مني ضحكة فيلسوف من أبله . ولو عرفت كلّ ما في قلبي نحوك من الكره وما في فكري لك من الاحتقار ، لما أمِنْتَ على نفسك أن تبقى على قيد باع مني . فأنت أسود بلون الحداد ، وأنت المنذر بالبين ، وأنت أخوَن الخائنين ، وأول المقلِّدين ، وأنا أكره الخائنين ، وأكثر منهم أكره المقلِّدين . فاغرب عني ! ))
عند ذاك انقطع الغراب عن الضحك ، وعاد إلى وجهه الجِدّ ، ونظر إليّ بعينيه الاثنتين ، ثم نعب ثلاثاً . وإذا بغيمة سوداء تحجب وجه الشمس ، وإذا بالغيمة سرب من الغربان لا يُعَدّ . وما هي إلاَّ لحظة حتى هبطت تلك الغربان عليّ ومناقيرها مفتوحة ، ومخالبها محدّدة مسلولة . وكان أول ما انقض عليّ الغراب الجاثم في البلوطة فوق رأسي . فأعمل منقاره في عيني . وعلى الأثر نشبت مناقير ومخالب كثيرة في لحمي ، فارتميت على الأرض بلا حراك .
عند ذاك وقف الغراب الفيلسوف على صدري . واصطف الآخرون من حولي في شكل نصف دائرة ، وفتح الفيلسوف منقاره وكلّمهم هكذا :
(( هوذا الإنسان !
هوذا الكون الذي تلتقي فيه سائر الأكوان .
هوذا الجبار الذي يتعثَّر بخيال جبروته ، والملك الذي يذعره اتّساع ملكوته .
هوذا الضرير الحامل النور في يمناه ، والمبصر الحامل الظلمة في يسراه .
هوذا المغفَّل الذي يهرب من نفسه إلى رمسه . ثم يبحث في رمسه عن نفسه .
هوذا الإله المنقسم على ذاته والضائع بين ما خلقَه من الآلهة .
هوذا قطب الآزال والآباد الذي جعل لآزاله بداية ، ولآباده نهاية .
هوذا القائل : (( أنا )) ـــ و ـــ (( العالم )) .
* * *
(( إني محدثكم عن هذا الإله الذي خلق من نفسه عدوّاً لنفسه فأوجد حرباً حيث لم يكن إلاَّ سلام ، وشقاء حيث لم يكن إلاَّ غبطة . وإليكم الخبر :
في البدء الذي لا بدء له كانت (( أنا )) وكان (( العالم )) . وكان (( العالم )) (( أنا )) . وكانت (( أنا )) (( العالم )) ، وكان الاثنان واحداً لا ينفصل ولا يتجزأ . وكان الواحد جميلاً وكاملاً .
وفي فجر الزمان الأول وُلد للعالم وَلد ، ودعي الولد (( إنساناً )) . وكان الإنسان جميلاً وكاملاً ، وكان واحداً مع العالم , إلى أنْ سأله العالم مرّة ، (( مَن أنت ؟ ))
فأجاب : (( أنا ـــ أنا . ))
فسأله العالم : (( ومن أنا ؟ ))
فقال : (( أنتَ العالم . ))
حينئذ خلق الإنسان الشقاء ، لأنَّه شطر نفسه شطرين ، فدعا الواحد (( أنا )) ودعا الآخر (( العالم )) . ومن ذلك الحين راح يقيم الفواصل بين ما ليس ينفصل ـــ بين (( أنا )) وبين (( العــالــم )) . ولأن شطري نفسه لا ينفصلان فهما أبداً يدمّران ما يقيمه بينهما من الفواصل : وهو أبداً يقيمها من جديد . وهكذا تتنقل من هنا إلى هناك إلى هنالك تنقل الظّلّ . وهو يحاول اللحاق بها ، والقبض عليها . وهل أشقى ممّن يحاول القبض على الظلّ ليلبسه وشاحاً ؟
عندما قال الإنسان : (( أنا ـــ و ـــ العالم )) فكأنَّه قال لكل ما في الفضاء وما وراء الفضاء من شموس وأقمار ونجوم ، من عوالم منظورة وغير منظورة ، ولكل ما في الأرض وتحتها وعليها : أنا غير أنتم ؛ وأنتم غير أنا ، فلا أنا منكم بشيء ، ولا أنتم منّي بشيء .
ولعمري أنَّى لِمَنْ يعيش على الأرض ومع الأرض أن يقول : (( أنا ــ و ــ الأرض )) ؟ أوَ ليس هو الأرض والأرض هو ؟
كيف له أن يقول لدودة تدبّ على الأرض : لستِ مني ولا أنا منك . وهي شريكته في كل الأرض والسماء . في التراب وما يولده التراب ، وفي البحر وما يهبه البحر ، وفي الهواء وما يحمله الهواء ، وفي حرارة الشمس ، ونور القمر ، وشعاع النجوم ؟ أوَ ليس أن القوة التي تحييه تحييها ؟ أوَ ليس أن حياتها تتصل بأطراف كل حياة ؟ وإذ أن أطراف الحياة تمتدّ إلى الأزل والأبد ، والإنسان ضمن الحياة ، فكيف له أن يقول لدودة : (( لستُ منك ولا أنت مني بشيء )) ؟
كيف له أن يقيم فاصلاً بينه وبين الجبال والبحور ، والأسماك والطيور ، والبذور والأشجار ، والأعشاب والأثمار ، والدبابات والحشرات ، والناس والحيوانات ؟ بين ما يبصره وما لا يبصره وكلُّها شريكة في حياته ؟ ما يأخذه منها إنَّما يأخذه من نفسه ، وما تأخذه منه إنَّما تأخذه من نفسها . وفي الحالتين هو العالم الأكبر يأخذ من نفسه ويعطي نفسه . لذلك لا يأخذ شيئاً ولا يعطي شيئاً . كما أن البحر لا يعطي الجبال شيئاً عندما يصعد إلى رؤوسها لينحدر من هناك جداول وسواقي وأنهاراً ، ولا يأخذ منها شيئاً عندما يسترجع تلك الجداول والسواقي والأنهار إلى صدره الواسع العميق . فهو المعطي والآخذ في الحالتين . وهو هو في كلّ حال .
أمّا الإنسان فعندما يأخذُ شطرُه الذي يدعوه (( أنا )) من شطره الذي يدعوه (( العالم )) لا يقول : قد أخذَتْ نفسي من نفسي ، بل يقول : لقد غلبتُ العالم وسلبته خيراته . وعندما يأخذ (( العالم )) من (( أنا )) لا يقول الإنسان : لقد أعطيت نفسي من نفسي ، بل يقول : لقد سلبني العالم حقّي .
أجل ، عندما قال الإنسان : (( أنا ـــ و ـــ العالم )) عندئذٍ خلق من نفسه ضدّاً لنفسه . وإذ خلق لنفسه ضدّا خلق ضدّاً لكل شيء ، وأصبح ينظر إلى كل شيء بعينين : عين يرى بها (( أنا )) وأخرى يرى بها (( غير أنا )) . وهكذا ازدوجت الأشياء في نظره وهي واحدة . فأضحى لا يبصر شيئاً إلّا أبصر معه في الحال نقيضه . ولأن النقيض يمحو نقيضه ، فالإنسان لا يبصر في الواقع إلاَّ خيالات أوهامه .
هكذا جزَّأ الإنسان نفسه التي لا تتجزَّأ , وبعثرها في كلّ أنحاء الكون .
وهكذا يسير هذا الإنسان المبصر ـــ الأعمى متلمساً سبيلَه في الكون ، وملتقطاً عن جوانب السبيل ذرّات نفسه المبعثرة . غير أنَّه لا يلتقط ذرة من (( أنا )) إلا التقط معها ذرة من شطرها الثاني الذي يدعوه (( العالم )) أو (( غير أنا )) . وكلَّما التقط ذرة قال في نفسه : سأحتفظ بما في هذه الذرة من (( أنا )) وأطرح ما (( ليس أنا )) . وإذ يحاول ذلك يجد أنَّه قد طرح (( أنا )) مع ما (( ليس أنا )) . لأن الاثنين لا يفترقان . فيتألم ويعود يلتقط ذراته من جديد .
هكذا يلتقط الإنسان العافية ومعها المرض .
والحبّ ومعه البغض .
والإيمان ومعه الإلحاد .
والقوّة ومعها الضعف .
والراحةَ ومعها التعب .
والوفرة ومعها القلة .
والفرح ومعه الحزن .
والطمأنينةَ ومعها الخوف .
والأمل ومعه اليأس .
والمعرفةَ ومعها الجهل .
والنور ومعه الظلمة .
والصدق ومعه الكذب .
والجمال ومعه الشناعة .
والثقةَ ومعها الشكّ .
واللابداية ومعها البداية .
واللانهاية ومعها النهاية .
والحياةَ ومعها الموت . وهلمّ جرّاً . وبعد أن يطرح من كل ذلك ما يدعوه (( غير أنا )) يفتح يده وإذا بها أفرغ من الفراغ . فيشقى وأيّ شقاء شقاؤه ! أوَ ما سمعتموه يتكلَّم عن جهنَّم النار ؟ تلك هي جهنّم النار؟ وهو موقدها ، وهو وقيدها .
ولأنَّه يشقى تراه لم يدع حيلةً للتخلُّص من شقائه إلا لجأ إليها , وآخر حيلة هي حيلة (( الخير والشر )) ، فقد جلس بعد أن مرّت به دهور من العذاب طويلة ، وقال في نفسه :
(( لقد اهتديت ! لقد اهتديت ! فسأخلص من جهنم النار إذا أنا ابتعدت عن الشر ولم أطلب سوى الخير . ))
فرتَّب الإنسان لنفسه لائحةً بالخير والشر . لكنَّه ما عتَّم أن رآه في حاجة إلى تعديلها ، إذ وجد أن كثيراً ممّا دعاه شرّاً كان خيراً . وخيراً كان شرّاً . وإذ عدَل لائحةَ الخير والشرّ مرة اضطرّ إلى تعديلها ثانيةً وثالثة . وهو يعدلها اليوم . وسيبقى يعدلها إلى أن يدرك أنَّه يستحيل عليه الحصول على الخير دون الشرّ ، أو نبذُ الشرّ دون الخير ، لأن شرّه ليس إلا خير شطر نفسه الثاني . وخيره ليس إلّا شرّ ذاك الشطر .
ومتى اتَّحد الشطران توازن شرّهما وخيرهما . فكان لا خيراً ولا شرّاً ، بل كمالاً لا يُحَدّ .
ألا واهاً وألف واهٍ للإنسان كيف يحاول المستحيل . فيقيم من وهمه فاصلاً بين نفسه التي هي العالم ، والعالم الذي هو نفسه . ثم ينظر إلى الغراب الذي هو في العالم ومعه يقول له : (( أنا غير أنت ، وأنت غير أنا . وأنا أكرهك . ))
واهاً وألف واهٍ له كيف قنَّع بالوهم عينيه حتى إنَّه يرى لون الغراب في شعره وشعر من يحبّها جمالاً ، ويراه في ريش الغراب شناعة . ولماذا ؟ لأنَّه يذكِّره بالحداد . ولَعمري ما همّ الحياة من الحداد وهي لا تفرح ولا تحزن ؟ أيحدّ بعض الحياة على بعضها ، وحزن الواحد هو فرح الآخر ، وفرحه حزنه ؟
واهاً وألف واهٍ له لأنَّه من خلال قناعه الكثيف قد لمح الجمال . لكنه لمح مع الجمال الشناعة ، ولذلك لم يعرف الجمال ولا الشناعة . إذ كيف لمن عرف الجمال أن يحب لوناً ويكره آخر ؟ بل كيف لمن رأى الجمال أن يبصر لوناً دون آخر ؟ وماذا عسى يبصر الإنسان من الألوان ! أيبصر ألوان مشاعره وأفكاره ؟ أيبصر ألوان أنفاس الأرض والسماء ؟ أيبصر اللون الذي ليس لوناً لأن فيه تلتقي وتندغم كل الألوان ؟ إذن كيف له أن يحدّث عن الجمال ، وجمال العالم التام إنما يتمّ بكل ما في العالم من الألوان ، ولوني ولونكم منها أيها الغربان ؟
أم كيف له أن يحدّث عن الألحان ، وهو ينصت إلى الحياة بأذنين ؟ ـــ أذن يسمع بها صوت (( أنا )) ، وأخرى يسمع بها صوت (( العالم )) ؟ وماذا عساه يسمع ؟ أيسمع العصير يمشي في جذور هذه البلوطة وجذوعها ؟ أيسمع رقصة الحياة في هذه الحجارة ؟ أيسمع الأرض وكل أجرام السماء دائرة في الفضاء ؟ وإن هو لم يسمع هذه فكيف له أن يسمع صوت العالم الكامل الذي تنسكب فيه كل هذه الأصوات وربوات سواها فيتألف منها لحن الآزال والآباد الكامل ؟
إنّ صوت الغراب وصوت الإنسان يتمّمان جوقةَ الطبيعة التامة . إلّا أن الغراب يعرف ذلك فلا يقول للإنسان : ما أكره صوتك في أذني . ويجهله الإنسان فيقول للغراب : إنَّني أكره تنعابك لأنّه ينذر بالبين .
(( البين )) ! وما همّ العالم الذي لا يعرف انفصالاً ولا اتصالاً بفراق الإنسان ولقائه ؟
ثم يكره الإنسان الغرابَ لأنَّه ـــ في زعمه ـــ خائن ، والخيانة في نظره نقيض الأمانة . وهذان النقيضان ، كسواهما من المتناقضات ، هما من خليقة وَهْمِ القائل : (( أنا ـــ و ـــ العالم )) . ولا محلّ لهما في العقل الموحّد ولا لكل ما اخترعه الإنسان من الطقوس والشرائع والأحابيل لحفظ هذه المتناقضات كما لو كانت من جوهر العالم الكامل . وقد عَمِيَ الإنسان عن أن العالم الكامل يحفظ نفسَه بنفسه . فلا خوف عليه من الدسائس والخيانات .
كذلك يكره هذا الإنسان الغراب لأنَّه ــ في زعمه ــ مقلِّد لا مولِّد . ولَعمري كيف للغراب أن يقلِّد أحداً أو شيئاً وهو لا يفصل بين نفسه وأحد ، ولا بين نفسه وشيء ؟
أما الإنسان الذي فصل بين (( أنا )) و (( العالم )) فهو المقلِّد لا سواه ، لأنَّه دائماً يسعى للزيادة في ما يحسبه خير (( أنا )) ، وللتنقيص ممّا يحسبه شرّاً لها .
ومن الأوهام التي يحسبها الإنسان خيراً ـــ الشهرة . ولعلَّها أكبر أوهامه . فهناك شهرة القوة ، والسلطان ، والجاه ، والغنى ، والحَسَب ، والمعرفة ، والفن ، والدهاء السياسي ، والدهاء التجاري ، والدهاء الحربي ، وأنواع عديدة سواها . وما الشهرة هذه بأنواعها المتعدّدة الألوان إلّا أن يبني الإنسان بين (( أنا )) وبين (( العالم )) أسواراً أرفع من التي بناها جاره . لذاك ترى الناس يقلِّدون مشاهيرهم . والذي يفوق في التقليد فهو الشهير الأشهر . أما الذين جاؤوا ليعلِّموا الناسَ كيف يهدمون الأسوار بين (( أنا )) و (( العالم )) ليجدوا شطرَ نفسهم الضائع ، فهؤلاء رَجَمَهم الناس وصلبوهم . وقلّ بينهم مَن قلَّدهم أو يقلِّدهم إلا بلسانه . مع أنهم هم المولِّدون . لأنهم أدركوا وحدتهم مع العالم .
أجل . عجبت للإنسان يتَّهم الغراب وغيره بالتقليد ، وهو أول المقلّدين وأكبرهم . فهو في كلّ ما يقول ، وما يكتب ، وما يرسم ، وما يفعل ، إنَّما يرفع الأسوار بين (( أنا )) وبين ما (( ليس أنا )) . ولا يكون مولداً إلّا عندما يدكّ تلك الأسوار . لأنَّه إذ ذاك يعمل بمشيئة العالم الكامل التي تكوّن مشيئته والتي لا مولّد إلّاها .
لذلك أقول لكم أيها الغربان إنَّكم إذا سمعتم إنساناً يقول (( أنا )) وعرفتم أنَّه يعني بذلك نفسه دون العالم فافقأوا عينيه ، لعلَّه يبصر عالماً واحداً حيث يبصر الآن عالَمين .
أما إذا سمعتم إنسانًا يقول (( أنا )) وعرفتم أنَّه يعني نفسَه ، والغرابَ كذلك ، وكل ما في العالم الذي لا بداية له ولا نهاية ، فخرّوا أمامه ساجدين .
ذلك الإنسان ـــ إله . ))
* * *
هنا ختم الغراب كلامه . فصفَّق الغربان بأجنحتهم ثلاثاً . وإذا بهم سرب من حمام ، وإذا بسرب الحمام جوقة من ملائكة يهللون : (( المجد للقائل : أنا ـــ هو . هو ـــ أنا )) ويصعدون إلى فوق ملاك تلو ملاك . وعندما اختفى آخر ملاك عن بصري سمعت صوتاً هاتفاً : (( قاق . قاق . قاق )) ففركت عيني وإذا بي مستلقٍ تحت بلوطتي ، والعرق يتصبَّب منِّي . وفوق رأسي غراب جاثم على جذع من جذوع البلوطة .
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب ، فنهضتُ أقصد بيتي . وما خطوت خطوة حتى بسط الغراب جناحيه وامتطى الهواء ، فودَّعتُه بنظرة . وودعني بكلمات ثلاث :
(( قاق . قاق . قاق . ))
ولأول مرَة في حياتي فهمت ما قاله الغراب .


المراحل
ميخائيل نعيمه
أعلى