فهد العتيق - هاوية معتمة وحالمة .. قصة قصيرة

هاوية معتمة وحالمة
قصة قصيرة . فهد العتيق


لا يعرف على وجه التحديد ماذا حدث له بعد أن سقط هكذا فجأة . هل تلقفته أيادي أصدقائه وأذرع جماهيره الغالية في شارع حارتهم الجميلة والصغيرة ، أم أنه سقط على الأسفلت فانكسر مثل زير قديم وقع من بلكونة فقيرة بعد إغمائه قصيرة وغامضة ومفاجئة . وجد نفسه ممددا ويتحرك بصعوبة في مكان مظلم ضيق ورائحة التراب الرطب تملأ صدره، نهض بصعوبة ودفع السقف بيديه، رفع صوته بلا صدى. قال في نفسه: لا فائدة من الناس وعلى أن أعتني بنفسي، دفع السقف بيأس وهو يسأل نفسه : هل هذا هو القبر، دفع السقف مرة أخرى بقوة فانهال عليه التراب والنور في وقت واحد فانتعشت روحه القانطة ، خرج من هذه الحفرة المظلمة ثم وقف بخوف يتأمل المكان الغريب . خرج يبحث عن روحه التائهة في هذا الفضاء الرمادي الغامق، نفض ملابسه ومشى في مكان مظلم ورطب وموحش، واصل المشي في أرض خلاء حتى رأى بابا صغيرا واطئا ، اقترب منه وطرق الباب، لم يرد أحد فعاد للمشي يحاول الخروج من هذا المكان الذي يشبه المقبرة، مشى دقائق مليئة بالخوف والهواجس السوداء، رأى فيها وجوها يعرفها لأناس ماتوا أو لازالوا أحياء، وجوه قديمة يعرفها تذهب وتغيب مثل أشياء غير مرئية فتنقبض روحه، استمر يمشي وذاكرته صارت مثل شريط سينمائي يقدم له موجز حياته التي مضت وانقضت , حكايات ومواقف تنقطع فجأة, ظل يمشي فرأى أمكنة خضراء ورائحة الزهور تعبق في الهواء فتزدهر روحه وتزدهر رؤية جديدة في رأسه، واصل المشي فتبخرت هذه الأمكنة وصارت مثل سراب بعد منحدر كبير وحل مكانها شوارع ضيقة ومستنقعات وروائح رطوبة . سأل ربه أو نفسه وهو في حيرة : هل هذه هي الجنة أم النار.
دخل شارع معتم ، دخل مثل رجل غريب أو مثل رجل غير مرئي ، رأى محل بقالة فركض له، وحين وصله سالما معافى جلس على كرسي خشبي جوار بابه ، كان جائعا وعطشان وبلا ذاكرة والمحفظة والمفاتيح ليست في جيبه. الرجال والنساء والأطفال يدخلون البقالة فرحين ويخرجون منها محملين، لا أحد يلتفت له ، كأن لا أحد يجلس على هذا الكرسي الخشبي القديم أو أنهم لا يرونه فعلا . ربما أنهم لا يرون سوى أشباههم . ترك الدكان وظل يمشي مثل شبح ، مشى حتى دخل شارع صغير قليل الناس. وكل شارع صغير يفضي به الى آخر يشبهه . يبحث عن أحد ليخبره ماذا رأى في العالم الآخر أو يبحث عن شارعهم الصغير يبحث عن بيت فقد أثره منذ أزمنة قديمة ، يمشي في الطرقات الضيقة يتفرج على البيوت وأبوابها المفتوحة حتى وجد شيئا يشبه بيتهم ، دخله وكأنه في حلم، دخل الغرف المظلمة، ربما يجدها بعد غياب طويل . ربما يجد حبيبة تنظره. دار في البيت ولم يجد أحدا . وجد ملابسهم معلقة على مسامير طويلة في الجدران تنبعث منها رائحة زهور قديمة تأتيه من أزمنة قديمة فشعر كأنه على وشك أن يلمس هذه الرائحة من شدة عمقها ، قال في نفسه : ربما هذا هو العالم الآخر الذي نسمع عنه ولا نعرفه. استراح بيأس وتعب على كنبة في مدخل الباب المفتوح ، ظل وقتا طويلا وهو على وشك النوم، نظراته الناعسة معلقة في الجدار أمامه كأنه ذئب جريح، الناس في الشارع قليلون وأصواتهم خافتة وهو يشعر بما حوله على نحو خفيف . يفكر في عمره الذي مضى وانقضى دون متعة صريحة لا لبس فيها، يتذكر متع قليلة كانت عابرة، أو يهجس بتلك المتع التي أفسدتها عليه ظروف ومفاجآت الحياة ، ظل في المنطقة الوسطى بين النوم واليقظة ، وبعد حزن صغير ويأس جليل نام بخجل، نام بخجل ووجل، دخل في ملعب النوم، دخل مثل انسان يدخل البحر للمرة الأولى، نام مرتبكا ثم فجأة دخل في لحظة حلم دافئة وعذبة وحالمة، تلك اللحظة التي كان ينتظرها منذ زمن طويل ، دخل في مشهد غاية في اللذة وظل مستمتعا باللحظة وهو بقربها، يشعر بحرارة جسدها اللذيذ، ولأن الحياة لها مفاجآتها المزعجة أحيانا، فقد أحس بضيق في التنفس، ومعه أحس بألم مفاجئ في صدره ثم شعر بدوار مؤلم، نهض بنصف جسده مختنقا بريقه وهو يهجس بضغط الدم، لم يكن يفكر في شيء لأن تنفسه كان معلقا، يحاول أن يبتلع ريقه الناشف ليتنفس براحة، مؤجلا التفكير في الحياة والموت وما بينهما من مشتبهات، سعل بقوة، تنفس بهدوء فارتاح قليلا، حاول العودة للنوم مرة أخرى، أغمض عينيه وراح يبحث عن تلك اللحظة الدافئة واللذيذة، ظل يبحث عنها عبثا، لكنها كانت قد تبخرت، ذهبت في حالها، تبحث عن نائم جديد، سليم ومعافى، لا يتركها ويصحو مختنقا بريقه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى