شوقي بزيع - المتعلقة بالحب العذري والبحر الطويل

تتابعاته الصوتية أشبه بتواشجات النفس وتموجات المكان الصحراوي
البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان
شوقي بزيع


لم تكن البحور المختلفة التي اختار العرب الأقدمون أن ينظموا قصائدهم وفق أنساقها الايقاعية خاضعة لمنطق الصدفة العارضة , بقدر ما تبدو متصلة بروح المكان الصحراوي من جهة , وبشجى النفس المتقلبة في انفعالاتها توتراً وعصفاً وتشظياً وانبساطاً , من جهة أخرى . ومع أن معظم القبائل العربية كانت تترحل في الصحارى القاحلة بحثاً عن الماء والكلأ , فإنه لأمر لافت أن تُنعت الأنساق الوزنية بالبحور , لا بشيء آخر متصل باليابسة . فقد وجد العرب في المتتاليات الزمنية للايقاع ما يجافي الصلابة والثبات , ليتماهى مع حركة الأمواج في صعودها وهبوطها الدائمين من جهة , ومع التموج المماثل للكثبان الرملية التي تعيد الرياح نسجها وتشكيلها بشكل دائم , وفق ما يعبر امرؤ القيس من جهة أخرى . ولأن للأمواج هامشاً أوسع للتبدل , وللتعبير عن الوداعة أو الاضطراب , فقد وقع الاختيارعلى " البحور " لكي تكون أحوالها المتغايرة معياراً لوتائر الايقاع وتشكيلاته الصوتية والعصبية .هكذا بدت البحور الشعرية بجوازاتها المختلفة , ترجمة إيقاعية وزمنية لمكابدات الشعراء ومشاعرهم المتباينة , ولضبطهم أثناء الكتابة, متلبسين بحالات الزهو أو الغضب , الانتصار أو الانكسار , وبنشوة الحب أو مرارة الفقدان . ولعلهم لا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يتحدثون عن أن الارهاصات الأولى للقصيدة تحضر على شكل غمغمات إيقاعاتية غامضة , ما تلبث أن تنحو في فترة لاحقة نحو تجسدها اللفظي والأسلوبي . وهو ما يؤكده قول الشاعر الفرنسي بول فاليري بأن "على الصوت أن يكون صدىً للمعنى " .
وإذا كانت العلاقة بين الانسان وبيئته الحاضنة, هي التي تحدد الكثير من سلوكيات البشر وطبائعهم وصولاً الى تعبيراتهم الابداعية , فإن الأنساق الايقاعية للشعر العربي لم تكن منفصلة بأي حال عن طبيعة الحياة العربية الموزعة بين الرحابة والانغلاق , بين الرومنسية المفرطة والقسوة المفرطة ,بين الحب والموت . ومن بين البحور الستة عشر للعروض العربي , قد يكون البحر الطويل , القائم على تعاقب تفعيلتي " فعولن " و " مفاعيلن " مرات أربع في البيت الواحد , هو الأكثر تعبيراً عن روح المكان الشاسع , والذي يمتد بلا نهاية في أفقٍ غامض المعالم . وكما أن الصحراء العربية مؤلفة من كثبان رملية مقوسة , تحولها الريح والمطر وعوامل الطبيعة الأخرى الى متتاليات شبه متناظرة من الصعود والهبوط , فإن تفعيلتي البحر الطويل تحققان الأمر نفسه , حيث يرمز الجزء الأول من " فعولن " الى حالة الصعود , بينما يرمز الجزء الثاني الى حالة الهبوط . وكذلك هو الأمر مع " مفاعيلن " , مع تعديل طفيف متعلق بتكرار الجزء الثاني من التفعيلة .
أما الهدف الآخر الذي يصيبه البحر الطويل فهو يتعلق بتناغمه الصوتي والدلالي مع حالة التنقل والترحال في المكان الصحراوي , والذي تمثله حركة الإبل على وجه التحديد . فإذا كان بحر الخبب , وبخاصة في صيغتي " فعِلن " و " فعْلن " , متصلاً بإيقاع الخيول خلال سيرها , السريع أو البطيء في المفازات الشاسعة , فإن هذا البحر يبدو متناغماً مع الإيقاع المتفاوت في وتيرته لحركة الإبل المترحلة , حيث يتناغم المقطعان الأولان من " فعولن " و " مفاعيلن " مع حركة قائمتي الجمل المرفوعتين الى الأعلى , فيما تتناغم المقاطع اللاحقة مع حركة هبوط القائمتين نحو الأرض . وإذا كان التناظر الشكلي واضحاً تماماً بين تحدّب المكان الصحراوي وتحدّب الإبل , وبخاصة ذات السنامين , فإن الايقاع " المحدودب " للبحر الطويل , يقع على المستوى الرمزي في السياق نفسه , معبراً ليس فقط عن تضاريس المكان وجغرافيته , بل عن السينوغرافيا الموازية لحركة الجسد المندفعة الى الأمام تارة , والى الوراء تارة أخرى .
على أن الدلالة الثالثة لإيقاع هذا البحر , فهي تلك المتصلة بخلجات البشر ومكابداتهم الصعبة , وسط قفار شاسعة مأهولة بالخوف والقلق والمجابهة الدائمة مع الآخر الجحيمي . ولعل ما يعطي للبحر الطويل مكانته التفضيلية بين نظرائه , ليس ناجماً عن طوله اللافت الذي يشي به النعت فحسب , بل عن كونه الأقدرعلى صهر الشحنات الوجدانية والتأملية للشعراء , في بوتقة إيقاعية شديدة المرونة والتنوع والانسياب الصوتي .ففي تفعلتيه المتعاقبتين ما يتسع لانقباض النفس وانفساحها وأنينها , وما يواكب تطلعها المثلوم بالشكوك الى المستقبل , أو التفاتاتها المتحسرة الى أطلال الماضي . وهو يتسع للصيغ الكلامية المتبدلة بين الخبر والانشاء , ولصيحات التعجب والاستفهام عند المنعطفات غير المنتظرة للمصائر , ولصيغ المرارة والتفجع في قصائد الرثاء , كما لصرخات النداء الغامض في براري الفقدان .
وليس من قبيل المصادفات البحتة تبعاً لذلك , أن يعمد امرؤ القيس الى نظم معلقته المعروفة ,والتي تشكل إحدى النصوص المؤسسة للشعرية العربية , على البحر الطويل بالذات , بل إن اختياره لهذا البحر ناجم عن كونه الأكثر مواءمة لترنحات نفسه المثلومة بسيف الغياب , فضلاً عن أن تفعيلاته هي الأكثر قدرة على احتضان حروف العلة , المرافقة لاعتلال الروح , وعلى حمل الترجيعات المتولدة عن صيغ النداء والشكوى والمناشدات المُرة . وهو ما لا تنحصر تمثلاته الواضحة في مناجاة الشاعر لليله الأبدي المشرع على الأرق والخوف فحسب : " ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ \ بصبحٍ وما الأصباح منك بأمثلِ", بل في ندائه المماثل للحبيبة المتمنعة حتى تخوم القتل :
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّلِ / وإن كنت قد أزمعتِ صَرْمي فأجملي
وإن أكُ قد ساءتك مني خليقةٌ / فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنْسلِ
وما ذرّفتْ عيناك إلا لتضربي / بسهميْك في أعشار قلبٍ مقتّلِ
وإذا كان الامتداد الزمني المؤثر والرحب للبحر الطويل , سيجعله محطاً لأنظار البعض من شعراء المعلقات , مثل طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى , والكثير من شعراء الأطلال , فإن أكثر ما يمكن التوقف عنده , هو الشغف البالغ الذي أظهره شعراء الحب العذري بهذا البحر , الذي بدا وكأنه " المطية " الأمثل لحمل وجيب قلوبهم الى مسامع حبيباتهن النائيات والمتشحات بثوب الغياب .كما أن الطول الملحوظ لهذا البحر ,يتناسب تماماً مع ما يتمتع به العاشق العذري من نفَس طويل في الحب والانتظار الدهري للحبيبة الغائبة , كما في الصبرعلى آلام الفراق . ومن يقرأ دواوين العذريين في مصادرها المختلفة لا بد أن يصاب بالدهشة حين يكتشف بأن أكثر من ثمانين بالمئة من قصائد هذه الدواوين قد تم نظمه على البحر الطويل بالذات , في حين يتوزع الباقي على البسيط والكامل وبعض البحور الأخرى . وهو ما ينسحب على معظم ما كتبه جميل بن معمر الذي يبدو وكأنه , كسواه من العذريين, مكتوب على خطوط التماس الفاصلة بين ضوء الحب وعتمته , كما بين سطح الأرض وباطنها :
ألا ليتنا نحيا جميعاً , وإن نمُتْ / يجاور , في الموتى , ضريحي ضريحّها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ / إذا قيل قد سُوّي عليها صفيحُها
أظلّ نهاري مستهاماً , وتلتقي / مع الليل روحي في المنام وروحُها
ولم تكن تجربة قيس بن الملوح العاطفية بمنأى عن الاحتفاء المماثل بهذا البحر , والاتكاء شبه الدائم على إيقاعاته المثخنة بالأنين والشجن وتمزقات النفس . وإذا كان البعض قد شكك بوجود قيس الفعلي , معتبراً بأن قصة عشقه الهذياني ليست سوى ضرب من الأساطير التي ابتدعتها مخيلات الرواة , فإن الشعر الذي بين أيدينا هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك , بكل ما يختزنه من لهب الداخل وفورانات العاطفة المحمومة , وهو ما منح " المجنون " فرصة الخلود , بقدر ما حوّله الى ملهم حقيقي للعشرات من شعراء العالم وكتابه اللاحقين . كما لا نملك في هذا الخصوص الا أن نلاحظ الفارق الشاسع بين شعر الطرديات والشعر السياسي في العصر الأموي من جهة, وبين شعر الحب عند قيس وأترابه العذريين من جهة أخرى , حيث النوعان الأولان يكرران الصيغ والنماذج الجاهلية بكل ما تتسم به من خشونة وتعقيد وإغراب لفظي وتعبيري , في حين أن شعر العذريين كان يشف مع الحب الى أبعد حدود الشفافية , ويبدو لشدة صدقه وكأنه يسيل كما الماء , من أكثر جهات القلب صلةً بالعذوبة والتفجر التلقائي ومناجاة الغياب :
ألا زعمتْ ليلى بأنْ لا أحبّها / بلى وليالي العشْر والشفْع والوتْرِ
بلى والذي لا يعلم الغيبَ غيرُهُ / بقدرته تجري السفائن في البحرِ
بلى والذي نادى من الطّور عبْده / وعظّم أيامَ الذبيحة والنّحرِ
لقد فُضّلتْ ليلى على الناس مثلما / على ألف شهرٍ فُضّلتْ ليلةُ القدْر
لا يعني ذلك بأي حال أن الشعراء ليسوا قادرين على تطويع البحور وتوسيع آفاقها واحتمالاتها الايقاعية , وفقاً للحالة النفسية التي يمرون بها لحظة الكتابة , وهو ما يساعدهم على تحقيقه هامشٌ غير قليل من الجوازات وسياقات النبر والاشباع والتوتر, إضافة الى حذف التفعيلات واجتزائها . وهو ما أتاح للشعراء أن يستثمروا البحر المذكور في موضوعات متنوعة كالوصف والفخروالخمريات والتأمل الوجداني والمديح الملحمي . ومع ذلك فإن الجغرافيا الايقاعية الحزينة للبحر الطويل , هي التي دفعت هؤلاء أنفسهم الى توظيفه الناجح في مجال الرثاء , كما فعلت الخنساء في رثاء أخيها صخر , والمتنبي في رثاء جدته , وابن الرومي في رثاء ولده الأوسط , ومالك بن الريب في رثاء نفسه . وحتى لو لم يكن هناك موتى " مؤهلون " لرثاء الشعراء , فإن البحر الطويل قادرعلى بث روح الأسى في باطن الكلمات , ونقل عدواها دون إبطاء الى نفس المتلقي . كأن إيقاع هذا البحر مصنوع من غروب الأشياء , أو من مادة هاربة ومفتوحة على التلاشي . وليس أدلّ على ذلك من أبيات ابن الدمينة , التي لا تنفك تقودنا الى منابعها المترعة بالحنين الى كل مكانٍ نأى بعيداً , أو كل حبيبٍ فقدناه :
ألا يا صبا نجدٍ متى هجْت عن نجدِ/ وقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أإنْ هتفتْ ورقاء في رونق الضحى / على فننٍ غضّ النبات من الرنْدِ
بكيتَ كما يبكي الوليد , ولم تكن / جلوداً , وأبديْتَ الذي لم تكن تُبْدي
رعى الله من نجدٍ أناسٌ أُحبّهمْ / فلو نقضوا عهدي حفظتُ لهم ودّي
إذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارها / وإن بخلتْ بالوعد , متّ على الوعدِ
أعلى