محسن الطوخي - لون الحناء .

"حبروك" صديق طفلتى .. عندما حكت لى عنه لأول مرة، ضحكتُ حتى دمعت عيناى .. فى دار الحضانة قالت لى المربية الشابة وهى تشرق بابتسامة: لدينا أكثر من طفل يُدعى أحمد، نميز بينهم بالألقاب. ترددتْ وأنا أطلب عنوان حبروك، علَّقتْ علىَ نظرة، نصفها مكر، ونصفها دهشة. كان النطاق الأبيض العريض يضيق حول الخصر فى توافقٍ تام مع دم الغزال المنسدل حتى أطراف الركبتين. قلت: زوجتى تنتظر فى الخارج. توارى المكرُ خجلاً، قالت: تعال لتقابل القبطان.
قادتنى إلى غرفة المدير .. قال العجوز: لم أترك البحر بإرادتى. ولما تساءلتْ نظرتى قال: الربو، ومال يشعل غليونه. كان الطفل قد دخل، وقف صامتاً على بعد ذراع، تلامس رأسه المتوهجة بلون الحنّاء - بالكاد - حافة المكتب. راح ينظر إلى مرة، وإلى القبطان مرة، بينما تدفّقتْ فى المكان رائحة الطباق. حرك لون الحنّاء جناحَ فراشة بجوار القلب.
قال الطفل: هى تعثّرتْ فى الدَرَج .. لم أدفعها.
قلت: أعرف .. هى لم تتّهمك.
ثبّتَ نظرته علىّ ولم ينطق .. قلت: ماذا تظننى أحضرت لك ؟
قال وهو يتملص من بين ركبتى: ربما طائر البطريق . .
ابتسمتُ، كنت أعرف خيال ابنتى، وأحفظ كرّاسات صورها الملونة.
********
كوب الشاى الدافىء، وفوق المنضدة أشياء صغيرة. لفافة حلوى مأخوذ منها قضمة، حبات فيشار، وشاح زوجتى الأزرق، مزقٌ من ضوء الشمس. وهى هناك فى الركن، ترقب من تحت النظارة الشمسية لهو الطفلين.
أتذكر كيف تلون وجه القبطان وأنا أطلب عنوان حبروك. لمعت فى عينيه ابتسامة، نصفها مكر، ونصفها ريبة. تلاشى المكرُ فى صفاقةٍ وأنا أذكر له الأسباب. كان يجد الوسيلةَ ليحدثنى عن البحر. قال لى أن البحر ليست به عناوين.
قال: فى البحر تتلقى الإنذار قبل مجىء الأنواء. تتساءل عيناى فيقول: من لون الماء.. قبل هبوب الريح يتغير لون الماء .. حين يدور الماء ويدور، تتكون عين الإعصار .. هل تعرف عين الإعصار ؟
( أعرف نظراتك تلك، من تحت النظارة الشمسية. منذ خرجتُ إليك أسعل من رائحة الغليون، وكأنك عرافة جبل الأوليمب. هل تقدر أن تُخفى كيف يحرك فيك الأشواق، لون الحناء.)
********
هتَفت زوجتيْ محتدة: عجوزٌ مراوغ. أنت تطلب عنواناً .. لا أكثر من عنوان. وافقتُ مرغماً على الانتظار ، استدارتْ، عبَرَتْ الطريق، توارت خلف الباب الشاهق..." قبل هبوب الريح ... يتغير لون الماء " .
********
عادتْ والبشر يزاحم فى عينيها الريبة: هاكَ العنوان. راحت تتلو من ورقة، اسم الشارع، رقم البيت. وأخيراً، نحن أمام البيت المطلوب. لم أفتح باب السيارة. قالت وبريق الريبة يتكاثف: سأذهبْ، لن يتعدى الأمر دقائق. رحتُ أفتش عن قرص الشمس خلف ركام السحب الفضية، وأُعَرِِّضْ صفحة وجهى الساخن لرذاذ المطر المتساقط. عادت لتداعب طفلتنا وتقول: تحيا السيدة فى قصر .
قالت: فى الغد نمر لنصحب "حبروك" فى نزهتنا.
لم أجرؤ أن أسأل، هل شعر الأم بلون الحنّاء. هل تعلو الصدغ الأيمن شامْة ترقد باستحياء ؟
********
حبروك ذو السنوات الخمس الغضة يعرف نقطة ضعفى، يقبلُ، يعبثُ بالحنّاء المشتعلة فوق الجبهة ويقول: فى المرّة القادمة، هل تأتى ماما معنا ؟
أنت ذهبت .. وأنت أتيت بحبروك .. وأنا مزروعٌ تحت الظل الوارف .. وشظايا البقع الشمسية، تتراقص فوق لفافة حلوى، مأخوذ منها القضمة .. وحبّات فيشار .. ووشاح أزرق .. وأحدِّقُ فى عين الإعصار تحت النظارة الشمسية.
تسكبُ بسمة، وتقبّل خد الطفل، وتقول: أجل، سندعو ماما لتلهو معنا .
يتهلل وجه الطفل.

محسن الطوخي




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى