أحمد الديب - الولد والخاتم..

كان ذلك البحر أكثر زرقة من كل البحار، وكانت أسماكه شفافة تمامًا كدموع الولد ذي البشرة المائلة قليلًا إلى الزرقة، وكان الولد جالسًا وحده أمام البحر في تلك الليلة، حين انتبه إلى صوت ترقرَق على جدران قلبه:

"أبشِر أيها الولد. إن مَلك هذا البحر قد عرفك فأحبك، وقد أمرنا بصنع هذا الخاتم لك أنت. لكنه لن يناسبك حتى تناسبه، فاصبر أيها الولد."

وبسَط يمناه فوجد خاتمًا من فضة لم ترَ عين مثلها، فوق سطحه المصقول تبددت ظلمة الليل، وانعكست صورة سماوية لقمر يموت، ونجوم ماتت بالفعل. ورأى النقش المُبهم على الخاتم فانقبض قلبه لكنه لم يعرف السبب. جرَّب أن يضعه حول إصبعه فتأكد له أنه أكبر من أن يناسبه.

لبث أيامًا يسأل البحر: "كيف أناسبه حتى يناسبني؟" فلم يُجِبْه إلا صدى صوته الذي بدا له غريبًا ممطوطًا.

عَزَمَ أن يأتي المدينة ليسأل أهلها، فأجابه شيخ لا يَرى: "هناك، في (الحَوافريّة)، قرية الحدّادين. يعرفون كيف يتصرفون مع تلك الأشياء. اتبع الدخان تصِل."

ومضى يتبع الدخان حتى وصل إلى أول نار في القرية، وجد عندها رجلًا أسود الجبهة والكفين، عرض عليه خاتمه وسأله إن كان يستطيع تضييقه، قلّبه الرجل بين أصابعه الغليظة وأجاب: "طبعًا. لكنه ليس من هنا. صَح؟ عليه صورة بُرج حظّ. صَح؟ انتظِر هنا." وغاب الرجل خلف النار بُرهة امتزجَت فيها دقات طرق المعدن بدقات قلب الولد، ثم عاد الرجل وألقى بالخاتم في إناء مليء بالماء الكَدِر، وقال: "خمسة وعشرون درهمًا."

نظر الولد إلى خاتمه فلم يعرفه. انقطعت أنفاسه حينًا وهو يرى ذلك الظل المعدني القاتم الذي أخذ يزحف فوق سطح الفضة. سأل الحدّاد وروحه تتمزق بين الحزن والغضب، فأجابه: "لا أرى ظلالًا، وكل المعادن لا بد أن تصدأ قليلًا في النهاية، صَح؟"

أعرض ومضى يضرب الأرض بلا هُدى فلم يوقفه إلا البحر. نظر إلى الخاتم فوجد الظل مستمرًا في التهام الفضة. صوت ناعم غريب أتاه من البحر لكن هدير الموج حال بينه وبين تمييزه. قبض على الخاتم بيُمناه وألقاه إلى أبعد موجة فهدأ صخب البحر وسكت الصوت الغريب، وفوق دمعته الدافئة – التي تحررت أخيرًا – انعكست صورة سماوية لقمر يُولد، ونجوم لم تولد بعد.

* * *

يزعم شيوخ الصيادين أن ذلك البحر كان يومًا أكثر زرقة من كل البحار، وأن أسماكه كانت شفافة تمامًا كزجاج واجهات المتاجر الجديدة في أقصى المدينة. لكن بقية سكان البلدة يعرفون جيدًا أن ذلك البحر يشبه كل البحار، وأن أسماكه – ككل الأسماك – تخرج من البحر بلون الفضة لكنها عندما تصل إلى السوق تكون قد أخذت لون الحديد.


أحمد الديب

من قصص "حكايات بعد النوم"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى