حنان حلبوني - ألزهايمر.. قصة قصيرة

يجلس أبو أمجد - رفيق عمرها - إلى جانب سريرها، يتجرّع من آلامها ويخفّف عنها، يمسح بيده شعرها الأبيض ويقبّل جبينها، ثم يمسك بيدها وكأنه يمدّها ببعض القوة لتتمكن من تحمّل ألمها.
يقضّه أنينها ومحاولاتها المستمرة لتحدّي الألم والبوح بما يجول في خاطرها.‏‏
يطلب إليها مراراً أن تتكلم، أن تنطق بأيّ شيء، أيّ شيءٍ يخفف عنها وهي في لحظاتها الأخيرة، لكن الحروف تخونها كل مرة، ثم تستجمع قواها وتطلب منه بصوتٍ متقطع وحشرجة أن يحضر إليها أولادها لتراهم قبل أن تموت.‏‏
ينظر أبو أمجد إلى السقف ليخفي دموعاً تتراقص في مقلتيه، ثم ينظر إليها مجدداً بنظرة مشفقة لتبدأ بعد ذلك بالبكاء، ويختلط أنينها بالنشيج؛
‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏_ أين أمجد الآن؟ هل تستطيع أن تخبرني؟ بالله عليك أرح قلبي المكلوم وأخبرني أين هو.... إنها الحرب اللعينة التي تأبى أن ترحل وتتركنا نعيش بأمان، أولادي.... كل واحدٍ منهم في مكان، أمضيتُ عمري في تربيتهم وهأنذا أموت وحيدةً كالمجذومين؛ سمر تبعد عني آلاف الأميال، لن أتمكّن من رؤيتها لا هي ولا أولادها قبل أن أموت، أمجد... أكبرهم وأحبّهم إلى قلبي، لا أحد يعرف مكانه... هل هو حيٌّ أم ميّت؟ لا أحد يعلم، اشتقتُ لعينيه، لا أعرف إن كان جائعاً أم متعباً أم.....‏‏
تنتابها نوبة سعالٍ شديدة، فتقطع كلامها، يحاول أبو أمجد أن يهدئ من روعها...‏‏
_ اهدئي قليلاً، ليس باليد حيلة، هذا نصيبنا وقدرنا، ارحمي جسدك المتهالك.‏‏
_ وأغيد؟ هل أنسى أغيد؟ صغيري البعيد... لو كان في الشام لما تركني وحيدةً أبداً، كان أحنّ أولادي عليّ.....‏‏
_ هوّني عليكِ يا امرأة، ألا تكفيكِ آلامكِ؟‏‏
_ لا أبداً، لا تكفيني، بل عليّ أن أموت ألف مرّة، لمَ لا وأنا الثكلى؟ أنا التي فقدتْ أولادها.... أعِد إليّ هدى التي قطّعتها الشظايا إرباً، وسليمى التي سافرت إلى المجهول، وميّار؛ صغيرها الذي لم أرَه إلى الآن، وتقول لي ألا تكفيكِ آلامكِ؟ بل أنا أشعر بقوة رهيبة تسري في جسدي... هيا ساعدني كي أقوم من السرير.‏‏
حين سمع ذلك الطلب الغريب لم يعد يطيق صبراً؛ فهي تحتضر وتريد أن تقوم من فراش الموت لكي تبحث عن أبناء مبعثرين، لقد طفح الكيل وضاقت به الدنيا، ألهذا الحد وصل بها الأمر؟!‏‏
يبتسم ابتسامةً ساخرة، تحمل في طيّاتها أكواماً من الألم، ويسألها متهكّماً.....‏‏
_ هه، إلى أين؟‏‏
_ أريد أن أبحث عن أولادي.... سأعيدهم إلى حجري، سأراهم قبل أن أموت، سأعانقهم بكل ما أوتيت من قوة، هيا ساعدني أرجوك.. ألم أشقى في إنجابهم وتربيتهم؟! لقد ربيتهم كل شبرٍ بنذر.‏‏
_ لكنكِ متعبةٌ جداّ، إنكِ بالكاد تنطقين، لن تستطيعي الوقوف، ارتاحي أرجوكِ.‏‏
_ لا لا، أنا لستُ متعبة، أنا قوية... قوية للغاية، ساعدني يا جميل أرجوك ساعدني، سأبحث عنهم واحداً واحداً وسأراهم قبل أن أموت، هيا ساعدني.‏‏
يبدو جميل غاضباً جداً، لقد احمرّ وجهه، وبدأ يرتجف ويستشيط غضباً وحنقاً، ثم بدأ يصرخ بأعلى صوته والشرر يتطاير من عينيه....‏‏
_ كفّي عن هذيانكِ أيتها المرأة، كفّي عن هذا الهراء، افهمي أنكِ عاقر! أدركي أنني احتملتكِ ثلاثين عاماً واحتملتُ حماقاتكِ، وبقيتُ بلا أولادٍ من أجلكِ كي لا أجرح مشاعركِ، لقد تعبتُ منكِ ومن الشياطين التي تسكنكِ وتلقّنكِ هذه الأفكار، هيا موتي وأريحيني من جنونكِ موتي أيتها المجنونة أيتها العاقر! أنتِ لم تنجبي يوماً ولم تربّي طفلاً، أنتِ عاقر يا سعاد... عاقر... أنا لم أعد أحتمل جنونك.‏‏
وبينما هو يصرخ ويرعد، دخلت الممرضة الغرفة
_ اخفض صوتك يا عم... مع من تتكلم؟! هل تتكلم مع الجدران؟! لا يوجد أحدٌ في الغرفة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى