شعبان يوسف - انفراط عقد جيل الستينات:

برحيل الكاتب والمبدع والرائد محمد حافظ رجب، تكون حبات العقد فى جيل الستينات، قد فقدت عددا نوعيا كبيرا فى الظاهرة الستينية، وذلك بعد أن رحل سيد خميس وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطى، ومحمد إبراهيم مبروك، وجمال الغيطانى، ومحمد كامل القليوبى، وسعيد الكفراوى، وغيرهم، وأطال الله فى عمر بهاء طاهر ويوسف القعيد، وصنع الله إبراهيم، ومن مازالوا يبدعون من هذا الجيل العظيم، ذلك الجيل الذى أعطى إبداعا بلا حدود، وقدّم تنويعات مختلفة على وتر يكاد يكون واحدا، الوتر هو حالة التمرد التى كان يعيشها ذلك الجيل بلا حدود، التمرد على شكل الكتابة التى استقرت نسبيا، بعد أن قدّم يوسف إدريس عددا من المجموعات القصصية، وأحدث حراكا كبيرا فى الحياة الثقافية، ثم اتجه إلى المسرح، فكتب فى 1957 مسرحيتى جمهورية فرحات، وملك القطن، وبعدها قدّم "اللحظة الحرجة"، ثم كتب روايته البيضاء، وبذلك تكون القصة القصيرة أصبحت همّا إبداعيا ثالثا، كذلك كان يوسف الشارونى بمجموعته الأولى "العشاق الخمسة"، والتى صدرت فى ديسمبر 1954، وظلّ حتى انصرام العقد الخمسينى لم ينشر مجموعات قصصية، وانشغل بشكل ما فى كتابة النقد والصحافة الثقافية، لذا أصبح الطريق شبه معبّد للجيل الجديد لكى يقدّم نفسه، ولكن القبضة التى كانت شبه حديدية لكى لا تمر إبداعات هذا الجيل، وقفت بشكل صارم أمام مرور هذا الجيل، ولكن كانت هناك إرادة صارمة من بعض الكتّاب الشباب فى اختراق ذلك الحاجز، وفى مواجهة تلك القبضة.
الكاتب
بائع لب فى محطة الرمل:

وكان كاتبنا الراحل محمد حافظ رجب أحد هؤلاء المثابرين، والصامدين بلا كلل أو ملل، ودأب منذ السنوات الأولى فى عقد الخمسينات من القرن العشرين، يرسل قصصه القصيرة إلى كافة الصحف والمجلات الأدبية والفنية المتخصصة، منها مجلات "قصص للجميع والنداء وقصتى والرسالة الجديدة"، وغيرها من مجلات أخرى، وكانت قصصه تحظى بالاهتمام، رغم أن عمره لم يكن قد تجاوز السابعة عشر آنذاك، إذ أنه ولد عام 1935 فى مدينة الإسكندرية، وكان يذيل قصصه بصفات متنوعة ومثيرة، فمرة يكتب: "بائع لب فى محطة الرمل"، ومرة أخرى يكتب: "رئيس رابطة أدباء إسكندرية"، ومرة ثالثة يكتب "كاتب حر"، ولكن صحف ومجلات ذلك الزمان لم تكن تعطى أدنى انتباه لتلك الصفات، ولا تلتفت لوظيفة الكاتب، ولكنها كانت تلتفت لقيمة النص الأدبى، وهناك نماذج كثيرة فى ذلك المجال، وعلى رأس هذه النماذج الكاتب محمد سالم، الذى كان يعمل مجرد ساع فى مجلة روز اليوسف، ثم أصبح كاتبا ذا تأثير بالغ الأهمية، وكذلك عبد المعطى المسيرى الذى كان صاحب مقهى فى دمنهور، وبعد أن قرأ له الدكتور طه حسين، قدّم له كتابه الأول، ولذلك حظيت بعض قصص حافظ بالنشر، وبعضها حظى بردود وتعقيبات مطولة من أدباء ونقاد ومبدعين بارزين، وبالتالى هو لم ينقطع عن الإرسال، وظل مثابرا على هذا الدأب طوال مرحلة الخمسينات، حتى انتبه له يوسف السباعى، واستدعاه من الإسكندرية ليعمل فى المجلس الأعلى للثقافة، وبالفعل أتى إلى القاهرة، ليتعرف على أبناء جيله الجديد مثل إبراهيم أصلان وضياء الشرقاوى ومحمد البساطى وعز الدين نجيب والدسوقى فهمى والسيد خميس شاهين "سيد خميس فيما بعد".
وكانت الضربة الأولى لحافظ رجب فى مطلع عقد الستينات، ومع مجموعة من رفاقه، إصدار مجموعة قصصية مشتركة عنوانها "عيش وملح"، وكان المشتركون "سيد خميس وعباس محمد عباس ومحمد جاد ومحمد حافظ رجب والدسوقى فهمى وعز الدين نجيب"، وكانت هذه المجموعة بمثابة الصرخة الأولى التى انطلقت فى ذلك المناخ الشائك، كما أن الجيل السابق مباشرة لهم، رفض أى منهم لكى يقدّمهم، ولكن الذى كتب، واحد من الجيل الأسبق، واحتفى بهم كما يليق بمبدعين طليعيين، وهو الكاتب والمبدع يحيى حقى "راعى جيل الشباب دائما والكتابة الجديدة"، كتب مقدمة قوية لهذه المجموعة، وكتب فى مطلعها : "هذه المجموعة ما أحبها إلىّ، إنها تنطق بمعان حلوة جمة، عطر الربيع، وندى الزهر، وهبّة النسيم تنشط له النفس، يبدد خمولها ويجدد الأحلام، لم تستأثر بها أنانية فرد، يظل يصحبنا _ارتفع أو هبط_ من أولها لآخرها، إنما هى عمل جماعى متساند، تعاون عليه ستة من الأدباء فى زهرة العمر"، ولم يتردد يحيى حقى فى إطلاق صفة الجيل ومدرسة "عيش وملح" ليسم بها هؤلاء الكتاب الشباب، واعتبر أن هذه المدرسة لها معالم وقسمات ولمحات تجديدية : "..ومن معالم هذه المدرسة أيضا إنها مع العطف الشديد الذى تبثه فى قلبك على أبطالها فى صراعهم للحياة تثبت فى نفسك الإيمان بابخير وبالمستقبل وبمقدرة الإنسان على النجاة، فهى مدرسة متفائلة غير متشائمة، إيجابية غير سلبية".

محمد عبد الحافظ رجب محمد حافظ رجب

كانت هذه المقدمة المتفائلة والمشجعة، دافعا قويا لهؤلاء الأدباء الشباب الجدد، وكذلك كانت جسرا تعريفيا بينهم وبين جمهور الأدب فى مصر، حيث انطلق كل كاتب من الستة المشاركين فى المجموعة إلى العمل الجاد والطموح فى ممارسة الفن والكتابة، وقدّم محمد حافظ رجب فى هذه المجموعة قصتين، هما "البطل، والجنيه"، وقدّم لهما سيد خميس، الذى لم يتوقف فى مقدمته عند المعلومات الشائعة عند حافظ رجب، مثل أنه كان بائعا للب، ثم "بائعا للصحف"، ثم "جرسون"، حتى استقر فى وظيفة ثابتة، وكذلك لم ينشغل بكونه ولد بالباب الجديد بأحد أحياء الإسكندرية، ولكن المهم فى مقدمة خميس، أنه ألحق حافظ رجب بظاهرة جديدة حيث بدأ قائلا: " كانت ظاهرة جديدة، وكان فنانا جديدا، أما الظاهرة الجديدة، فكانت دخول الطبقات الشعبية العريضة إلى ميدان الحياة الثقافية، تشارك، وتطوّر، وتقدّم أدبا وفنا نابعين منها، حاملين خصائصها، معبرين عن حياتها، مكتوبة بيد أبنائها"، وبعد أن رصد خميس عنوان وملامح الظاهرة، استطرد قائلا: "وأما الفنان الجديد، فكان محمد حافظ رجب، إنه أحدهؤلاء الأبناء المخلصين الذين قدمتهم هذه الطبقة إلى حياتنا الثقافية، ورحلة المعاناة التى قطعها هذا الفنان ليصل إلى التعبير الفنى الناضج، رحلة طويلة مريرة، تحمل نفس المرارة والألم اللذين تمتلئ بهما حياة النماذج التى رسمها بقلمه".

سمات وبدايات واقعية مفرطة:

ولا يخفى على الذين قرأوا تلك الاقتباسات من ما كتبه حقى وخميس، أنه سيدرك على الفور أن واقعية ما هى التى تحكم كتابة حافظ رجب، وسوف يتأكد القارئ من تلك الواقعية عندما يقرأ القصتين، أو يعرف فحواهما، فالقصة الأولى، وهى قصة "البطل" كانت تتحدث عن شخص يدعى "عبده أفندى"، والذى كان يمارس عمله الوظيفى بإتقان شديد، رغم صعوبته ورتابته، مراجعة دوسيهات، وتدقيق معلومات، وهو دائما يحاول أن يحظى برضا مديره، ذلك المدير الذى يوبخه دوما، وبالطبع فالقصة لم تبدأ هكذا، ولكنها تبدأ بموكب صغير، ظل يكبر ويكبر حتى أصبح مظاهرة واسعة، ذلك الموكب بدأ بعسكرى بوليس، ومعه امرأة منكسرة ترتدى قميص نوم، ومعه كذلك رجل مهزوم للغاية، وفى حالة ارتباك، وعدد من الصبية والنساء والرجال، ويتكشف الأمر رويدا رويدا عن أن هذه المرأة خانت زوجها الموظف البائس، والمجتهد، والغافل كذلك عن بيته، والذى ضبطها فى حالة تلبس مع عشيقها، وتمت الفضيحة الكاملة، دائرة من الصبيان والجيران، والعشيق، ثم الزوجة الخائنة، ثم عسكرى البوليس، وقد ضمه الموكب كذلك، ليذهبوا جميعا إلى قسم البوليس، ومن باب الفجيعة أسماه البطل.
كتابات جديدة
وجدير بالذكر أن الزوج لم يكتشف تلك الخيانة وفق خطة محكمة، ولكن الاكتشاف كان بمصادفة بحتة، ودون أى ترتيب، عندما ذهب إلى عمله بالدوسيهات المطلوب تدقيقها ومراجعتها، والتى كان يريد - بذلك - نيل الرضا من مديره، ولكنه اكتشف أنه نسى أحد الدوسيهات فى المنزل، فبسمل وحوقل وأسرع مهرولا عائدا إلى بيته، حيث اكتشف تلك الفاجعة، ومن ثم لم يترك الموقف عائما، أو مبهما، ولكنه لمّ وجمع الجيران لكى يشاهدوا الجريمة، والذين سارعوا بإبلاغ الشرطة، وسار الجميع فى ذلك الموكب المأساوى والدرامى.

ودون استدعاء الميلودراما التى فرضها مضمون القصة، فإن القصة تنمّ عن موهبة جديدة وواضحة دون التباس، موهبة مدرّبة على التقاط التفاصيل الحادة فى المشهد الرئيسى فى القصة، موهبة انطلقت حادة ومتمردة ومثيرة - فيما بعد - فى مجال كتابة القصة القصيرة، والمفارقة التى نخرج بها من القصة، أن حافظ رجب أراد أن يبنى مأساة القصة الواقعية على نحو جديد، واتضح ذلك فى التقديم والتأخير للأحداث، فلم يضع القصة فى انتظام زمنى تقليدى، وكذلك أراد أن يقول بأن الناس من الممكن أن يعيشوا بطولات وهمية، وهى بطولات تنطوى على مآس فادحة، إذ أن الناس والجيران اعتبروا أن "عبده افندى" صار بطلا، لأنه لم يكن نائما على أذنيه، واستطاع أن يدبّر للخائنة خطة لاكتشافها، ومن ثم استحق لقب "البطل" عن جدارة، إنها بالفعل واقعية تنضح بالمأساة.
أما قصة "الجنيه"، فهى لا تختلف فى واقعيتها عن واقعية القصة سالفة الذكر، إذ أن رجل أعمال معروف وكبير، التقط اثنين من الجالسين على المقهى، وهما فى حالة عطل عن العمل، وأوكل لهما أن ينقلا بضعة صناديق من مكان إلى مكان آخر، وبعد أن أخذهما فى سيارته، وأنجزا المهمة الثقيلة فى وقت قياسى، أعطاهما الرجل "جنيها" كاملا نظير ذلك العمل، على أن يتقاسماه معا، ولم يكن مع أحدهما "فكّة"، ولذلك طمع الأقوى فى حق الأضعف، وبالفعل تعارك الاثنان، ولكن الأضعف راح يستدر عطف الأقوى، لدرجة أنه استمال قلبه بعدما كادا أن يفتكا ببعضهما، وعندما أدرك الأقوى المشترك الإنسانى بينه وبين زميله، استجاب له، وكفّ عن ممارسة طمعه، واستمرا معا حتى يجدا "الفكّة" التى ستحلّ ذلك الموقف، ومن ثم فالقصة تعكس معارضة للقصة القديمة لقابيل وهابيل، ويعيد رجب إبداعها بشكل إنسانى مغاير، ورغم هذا البعد الأسطورى الذى بدا على ملامح القصة، إلا أنها اتسمت بحكمة واقعية مفرطة، ولكنها كانت مدخلا إلى عالم آخر سوف ينخرط فيه حافظ فيما بعد.

ماذا قال عنه إبراهيم أصلان:

كانت هذه هى السمات والخصائص الأولى لقصص محمد حافظ رجب، تلك القصص التى جمع بعضها ونشرها فى مجموعته الأولى "غرباء" عام 1968، ثم نشر مجموعة أخرى فى العام نفسه، تختلف تماما عن ما كان يكتبه، تلك المجموعة التى كتبت له شهرة واسعة، إذ أنه بدأ يكتب كتابة ذات أبعاد غرائبية حادة، وبدأ يبتعد رويدا رويدا عن بداياته الأولى، ولا بد أن نستشهد بما كتبه صديقه ورفيق جيله إبراهيم أصلان، حيث يعود بالزمن إلى تلك الفترة، فيقول فى كتابه "خلوة الغلبان" : "..وأنا كنت، زمان، غادرت منزلى والكاتب الراحل ضياء الشرقاوى واتجهنا إلى ميدان (الكيت كات) بحثا عن سيارة أجرة يعود بها إلى منزله، إلا أننا رحنا نتجول ونتحدث على شاطئ النهر مثلما اعتدنا أن نفعل كلما جاء لزيارتى، كان ذلك فى وقت متأخر من إحدى ليالى الصيف، بداية الستينات، وكنا نجلس على السور الحجرى القصير الذى يعلو الشاطئ المنحدر، والأشجار الهائلة التى يحتلها طائر أبو قردان تحجب السماء من فوقنا، وأمامنا كانت الأغصان القوية لهذه الأشجار قد تدلّت وصنعت لنفسها جذورا أخرى فى أرض الرصيف المغطاة بالأسفلت، عندما لمحت شابا يعبر كوبرى الزمالك (الذى أزيل الآن)، ويتجه نحونا فى خطوات متباطئة وهو يتأبط حزمة من الورق، صافح ضياء دون أن يلتفت إلىّ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا تخلو من استهجان.. تبادلا عبارات قليلة، ثم سمعته يقول لضياء، الذى كان واقعيا اشتراكيا فى ذلك الوقت:
- "أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دى"
ورأيت ضياء يبتسم ويهزّ رأسه بما يعنى:
- نعم
وقال الآخر - أى حافظ رجب-
- "داحنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة فى القصة")




أعلى