أحمد الوارث - تواطؤ.. قصة قصيرة

كان عقربا منتصف الليل متعانقين حين تركت الغرفة ومن فيها، تلك الليلة المشهودة من أيام العطلة الصيفية. فرشت لحافا فوق الحصير بالهواء الطلق، وسط منزل الأسرة في البادية. تمددت على ظهري، يداي خلف رأسي، ورفعت عيني إلى السماء. لم أر شيئا سوى نور خافت، ينبعث من نجم هناك في السماء البعيدة، يراقص حبات السحاب الشاردة. ولا أسمع شيئا غير صوت الليل.
ما أن استسلمت للنوم، حتى ظهر لي رجل، يرتدي لباسا أبيضَ كأنه في محرم. لمّا اقترب مني فاح منه عبقٌ كمطر العَشيّ، لم أشك لحظة أنها رائحة المقابر. لكنني ازددت اقترابا منه، كأنما هو مخدر دفعني نحوه، حتى صرت بمحاذاته. وجدته آدَم اللّون، ذا ذقن كثٍّ، دون أن أتمكن من التعرف عليه. حينما تنبه إلى حيرتي، قال لي: لا تهتم بمن أكون، ولا تتعب نفسك .
سرنا معا مسافة معتبرة، نحادث بعضنا بعضا. والحق أني لم أكن أراه وهو يتكلم، لكني كنت أسمع صوته، وأتبيّن أقواله. أسأله فيرد علي بهدوء، أقاطعه فيسكت، ثم يعقب بأدب راق جدا، مما جعلني أثني عليه ثناء عاطرا، فرد علي: لا تحكم على الظاهر يا بني... أنا متأكد أنك لم تعرف إنسانا أكثر قسوة مني...
أصابني الذهول، فقلت باندفاع شديد: استر يا رب... هل تعي ما تقول يا سيدي؟
ردّ علي بهدوء أكبر: صدقني، لقد اقترفتُ جرما أستحق عليه العقاب الشديد... نعم أنا مجرم كبير، وإلا ماذا تسمي الذي يزهق روحا، ويقتل نفسا شر قتلة؟
كررت عليه الكلام كالأول، فكرر علي الكلام ذاته؛ رماني به في غياهب يمّ عميق من الحيرة والهلع. فقلت له مستغربا: أ لهذا الحد؟ وهذه الابتسامة التي أراها تكسو ملامحك كلها؟
أجاب بسرعة، كأنه كان ينتظر سؤالي: هذه ابتسامة قديمة، عندما كان قلبي على قيد الخفقان، وإلا فقد حلت محلها ضحكة مدوية، لكن لا هوية لها، عشت أمثل بها سنوات ذوات العدد. أو رأيت كم أنا مخادع أيضا؟
- كلامك كبير جدا، وبه ألغاز. لكن، قل لي: كيف كنت تستطيع النوم وأنت قاتل؟
هنا، ضحك كمن يبكي، وأجاب: فقدتُ طعم النوم زمنا طويلا، صرت أكتفي بالقليل، ثم أخمد في مكاني كالميت، وأبيت خامدا في عز الليل تكاد الأسلاك تحرق بعضها في دماغي من شدة الاشتغال ...
-حَنانَيْك ربي... يا لك من صابر صبور. ليتك تخلصت من هذا العبء، حتى تحيا بسلام. ليتك اعترفت بجرمك وارتحت... كيف تنقل معك همك إلى القبر، يا رجل؟
تمتم بحرقة، وقد تحولت ابتسامته إلى ظلمة حالكة، ثم قال: كنت أماطل القدر، أنتظر أضواء تنير درب حياتي، أرنو إلى مطلع فجر ولو كان كاذبا. كانت تنتابني أحيانا الرغبة في التمرد، بل الصراخ، لكن الصمت كان يأخذني فيغُلّني، لتعود الهمهمات أدراجها نحو ظلمات الفؤاد ... إلى أن طال التماطل، وتغلّب التواطؤ، فانهدت الأسس، وانسدت السبل، وضاع مني العمر...أكتفي بالقول : أفّ لمن كان السبب.
كان الرجل يحدثني بألم شديد، وقد صار يمشي بسرعة أكبر مني، فناديته: انتظر يا سيدي، انتظر بربك ... لمْ تخبرني بالضحية، عسى أن يقبل أهلها بالفدية.
قال: أو تظن ذلك يغفر لي، أنا الذي تواطأت على الضحية كثيرا، وتفننت في تعذيبها قبل أن أقتلها. ألم أقل لك: حتى طعم النوم لم أتذوقه كاملا كسائر الناس... ؟ لكن، كما تريد ... فلا تستغرب إذن، أنا هو الجاني القاتل كما قلت لك، وأنا الضحية أيضا. إنها نفسي أيها الحبيب... نفسي التي قتلتها شر قتلة...
استفقت من الحلم مذعورا، وجدت والدتي تصلي بالقرب مني. انتظرتُ حتى أنهت دعاءها، وقلتُ لها: التقيت ميتا في المنام، يا أمي، يا له من كابوس !
حدّقت في وجهي طويلا، ثم ضمتني إلى صدرها، وقالت: الحمد لله أنك لم تذهب معه، لله الحمد والشكر.
كانت أناملها ترتجف وكأن برودة الجبال اجتمعت فيها، ثم استجمعت قواها، وسألتني: ماذا قال لك يا بني؟
رددت عليها: لا شيء .. لا شيء يا أمي، وهل الموتى يتكلمون ؟
همْهَمت، وانصرفَتْ. لكني كنت على يقين تام أنها كانت تسائل نفسها قائلة: وهل أنت على قيد الحياة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى