مـيخائيـل نـعيمـه - فتاة وفتاة

ما نسيتُ لحظةً حبَس فيها العالم أنفاسه لدن أذيع عليه نبأ فتاة انطلقت وحدها في سفينة فضائية لتدور حول الأرض بضعة أيّام ، لا بضع ساعات . لقد كانت أوّل فتاة تخترق جوّ الأرض إلى الفضاء الخارجي حيث لا جبال ولا بحار ، ولا مروج ولا قفار ، ولا قرى ولا مدن ، ولا دروب ولا شعاب ، ولا أيّ أثر لنبات أو حيوان أو إنسان .
وحدها ، وحدها في ذلك الفراغ الهائل . نهارها غير نهار الذين على الأرض ، وليلها غير ليلهم ، ودنياها غير دنياهم . أمّا روحها فأبدأ على كفّها ، وقد تُنتزع منها في أيّ لحظة . فهي رهن بشبكة عجيبة من الأجهزة الدقيقة التي إذا تعطّل بعضها تعطّلت السفينة عن الحركة ـ وتعطّلت الحياة في راكبة السفينة ، فما درى أحد أين تموت ، وكيف ، وهل يبقى منها أيّ أثر يحدّث عمّا كان .
إنّها ما رضيت أن تُقذف من الأرض إلى الجوّ هرباً من قيود الأرض أو طمعاً بحريّة الجوّ . فقد كانت الأرض بساطاً فسيحاً جدّاً لرجليها ، ومَشغلاً دائماً ليديها ، وفتنة أبديّة لعينيها وأذنيها ، ومرعى خصباً لأمانيها العذاب ، ومِرخماً دافئاً لأحلامها ــ أحلام الشباب . ففي الأرض فكرها . وفي الأرض خيالها . وفي الأرض قلبها وكلّ جارحة من جوارحها . أمّا في الجوّ فهي تدور وتدور في مركبة كأنّها القفص ، وكأنّها فيها العصفور السجين .
ولا هي قفزت قفزتها الرائعة إلى الأعالي لتقطف من الفضاء عناقيد النجوم ؛ أو لتبحث فيه عن مقابر الأحلام والأوهام التي يحملها ويتوهمها أبناء الأرض ؛ أو لتحمل إلى أبناء الأرض أكياس الفضّة والماس والزمرّد والياقوت .
ولكنّ فالنتينا تيريشكوفا أقدمت على مغامرتها المذهلة . وروحها على كفّها ، لتوسّع في (( المدى الحيويّ )) لإخوانها الناس ، ولتبرهن لهم أن حدود ذلك المدى هي حدود الزمان كلّه ، والمكان كلّه . وأنّهم ، وإن سكنوا الأرض ، لأعظم بكثير من الأرض وأعجب وأوسع . وأنّ حوّاء لا تقلّ في شيء عن آدم من حيث قدرتها على تحمّل الأعباء الجسام في سبيل دفع الإنسانيّة إلى الأمام . فكلاهما من هذا القبيل فرسا رهان . وحتى اليوم لم يسبق الرجل المرأة مقدار قمحة ، ولا هي سبقته مقدار شعرة . فلا هو سيّد الميدان . ولا هي سيّدته . بل الاثنان معاً هما سيّدا الميدان . ولكلّ منهما الحقّ بأن يقطع شوطه بالقوى التي زوّدته بها الحياة .
ذلك هو المعنى الأبعد والأعمق والأهم لقفزة تلك الفتاة الروسيّة التي أدهشت العالم . أما أنّها قفزة جلبت أمجاداً ضخمة للفتاة ، وللبلاد التي أنجبتها ، وللعلماء الذين دبّروها ويسّروها ، فأمور ثانويّة القيمة والأهميّة . إذ أن تلك الأمجاد لن تلبث أن يخبو بريقها ، وتنصل جدّتها . أمّا الإنسان التوّاق إلى الانعتاق من كلّ ما يقيّد خطاه في سيره نحو الحريّة ، وكلّ ما يقف حاجزاً بينه وبين المعرفة التي لا حريّة إلّا بها ، فبريق إيمانه بنفسه لن يخبو ، وعزيمته أبداً في تجدّد .
***
في اليوم الذي وقف فيه العالم مشدوهاً أمام فتاة تقفز وحدها إلى الفضاء الكوني ، في ذلك اليوم عينه وقفتُ مشدوهاً أمام خبر نقلته إليّ جرائد بلادي في ثلاثة سطور . وكان خبر فتاة ذبحها شقيقها من الوريد إلى الوريد ليغسل بدمها عاراً ألحقَته بعائلتها . وكان (( العار )) أنّها أحبّت فتى من أبناء جلدتها ، ولكن من مذهب غير مذهبها ! ! !
***
هناك فتاة يهلّل لها العالم ويكبّر لأنّها أقدمت على مغامرة لم تقدم على مثلها أيّ فتاة منذ عهد الناس بالتاريخ . إنّها لشجاعة خارقة . إنّها لبطولة تفوق كلّ بطولة . إنّها لمأثرة تقلّ في تقديرها أكاليل الغار وأروع الأشعار .
وهنا فتاة أقدمت على (( مغامرة )) لا مناص لكلّ أنثى من الإقدام عليها ولو مرّة في الحياة . بذلك تقضي أنوثتها . ولا مردّ لذلك القضاء . هكذا كان منذ كان الناس على الأرض وهكذا سيكون حتى ينقرض الناس من الأرض . أمّا تلك (( المغامرة )) فهي الحبّ ــ سيّد الأرض والسماء ، وسيّد الأرواح والأجساد ــ تبارك اسمه وتقدّس !
ولأن تلك الفتاة طاوعت طبيعتها ؛ لأنّها استجابت لنداء قلبها ؛ لأنّها امتثلت لإرادة ربّها الذي خلق الناس ذكراً وأنثى ليتجاذبوا ، فيتعارفوا ، فيتناسلوا ؛ لأنّها كانت ما أرادها الله أن تكون ؛ لأنّها أحبّت ــ فقد حُزّ حلقومها ، وأُزهقت روحها من بين جنبيها . وهكذا غُسل (( العار )) الذي لطّخت به (( شرف )) أهلها و (( شرف )) مذهبها . . .
أرجو أن لا تسمعني الأرض في مدارها ،
ولا الطير في أوكارها ،
ولا السباع في أوجارها ،
ولا الأسماك في بحارها .
فهي إذا سمعتني لم تُصدِّق ما أقول . . .

# هوامش

ميخائيل نعيمه
أعلى