ريتا الحكيم - الرّجُلُ الّذي ماتَ مِنَ الضّحِكِ هو أنا.. قصة قصيرة

للموتِ طقوسٌ خاصةٌ في مدينةٍ أقصى أحلامها تأمينُ مساحةٍ ضيّقةٍ تتّسِعُ لقبرٍ، الجميعُ هُنا لا يملكونَ أسْقُفاً يلوذونَ بها منْ بردٍ أو حرّ، لكنّهم يقتطعونَ منْ لحمهِم ليسْتروا آخرَتَهم. أم هادي الدّاية تأخذُ على عاتقِها مسؤوليةَ تشجيعِ المتزوجينَ على كثرةِ الإنجابِ، رغم معرفتِها التّامةِ بحجمِ الفقرِ المُدقعِ الذي ينهشُ السّكان. أبو سامي الفوَّال يدورُ بعربتهِ في الأحياءِ البعيدةِ، ويعتاشُ مما يبيعُهُ مِنَ الفول، وفي آخرِ النّهار يعودُ وكأنَّهُ كانَ في كوكبّ آخَرَ، لا يكفُّ عَنِ الشَّكوى وهو يضحكُ، ويسردُ على مسامعِ زوجتهِ ما رآهُ هناكَ في الطَّرفِ الآخرِ من العالمِ. أنا بهيكلي العظميّ الذي يكاد ينكسرَ من كثرة ما نابَني من هذا الدَّهر العفِنِ من لطماتٍ وصفعاتٍ، أجلسُ على قارعةِ الوهمِ، وأتسلَّقهُ غيرَ آبِهٍ باحتمالِ سقوطي على جمرِ الواقع، وبتوقُّعاتٍ تؤكّد أنَّني سأحترقُ بهِ وسأبدو عاريًا تمامًا من أحلامي الورديَّة، التي أدمنتُها، وبسببها صرتُ وصمةَ عارٍ في تاريخِ المدينةِ الحديثِ، والتي لا تجيزُ الحلمَ الذي يعرِّشُ على أسوارِها ليقفزَ بعدَ ذلكَ، مُعلنًا رحيلَ صاحبِهِ عنْها قبلَ أنْ تواريه الثَّرى في تربتِها. الحدثُ الأهَمّ والأكثرُ تشويقًا للجميعِ هي تلكَ المراسِمُ الغريبةُ العجيبةُ التي يمارسونَها عندَ دفنِ الموتى. صلواتُهم كانتْ أغانٍ من الفولكلور المُتوارَثِ أبًا عنْ جَد، وبينَ كلِّ أغنيةٍ وأخرى، كانوا يريقونَ دمَ فكرةً منْ أفكارهِ إلى أنْ يغدوَ رأسُهُ خاليًا تمامًا منها، يهيلون عليه التُّرابَ بعدَ ذلكَ، ثمَّ يعلِّقونَها على حبالِ مشنقةٍ، كشاهدِ عَيانٍ على ما ارتكبَهُ صاحبُها في حياتهِ من خرقٍ لقانونِ المدينةِ الصَّارمِ. سارة أقدمُ عاهرةٍ في المدينةِ، بلغتْ منَ العمرِ ما بلغتْ، تنتظرُ إسدالَ السِّتار على حياتِها الماضيةِ بفارغِ الصَّبرِ، بعدَ أنْ اعتزلتِ المهنةَ، وأسلمتْ زِمامَ الأمورِ لابنتِها رولى التي وسَّعتْ نشاطَها خارِجَ المدينةِ وانتقلتْ للعيشِ في العاصمةِ حيثُ الثَّراءُ الفاحشُ والسُّلطةُ المطلقةُ لمَنْ كانتْ بمهارتِها في استقطابِ ذوي الشَّأن، رحلتْ قبل أن تموتَ من الضَّحِكِ، هكذا كانتْ تقولُ دومًا، حينذاك لمْ أفهمْ مراميها البعيدةَ. بعدَ كلِّ أوبةٍ منْ تسلُّقي لجدار الوهم الذي اعتدتُ أن أعبرَهُ بحبالٍ منْ أفكاريَ المُشوَّشةِ، أجدُ في انتظاري رَجُلًا عجوزًا يبتسمُ لي، وكلَّما مددتُ يدي لمصافحتِهِ، يختفي فجأةً، ويبقى صدى قهقهتهِ المجنونةِ يتردَّدُ في تجويفِ أذنيَّ، وأضطرُ إلى أنْ أخفيَ رأسي تحتَ الوسادةِ، في محاولةٍ منّي لحجبِ هذا الصَّدى الذي يرهقُني ويعكِّرُ صَفْوي. في الليلةِ التّالية، قرَّرتُ أن ألازمَ الحيِّز المكاني الذي فُرِضَ عليّ ولمْ أخترْهُ، ربَّما أتمكنُ من معرفة سرِّ هذا الرجل.. ولأنّني فَوَّتُ رحلتي الأثيرةَ في انتظارِه؛ فقدْ أصِبْتُ بحكاكٍ فظيعٍ، أنا المدمن العتيق على أوهام أقطفها من شجرةٍ وراء سور السَّماء العالي، أغمضتُ عينيَّ لأحلمَ، أحسستُ بيدٍ خشنةٍ تربِّتُ على كتفي، تُمسِكُني من ياقةِ القميصِ وتسندُني على إفريز النافذة، وبإصبعٍ تكسوها أوردةٌ صفراءَ، تشيرُ إلى ذاك الرّجُلِ القابعِ في مُخيِّلتي والذي يُقهقهُ وهو يحتضرُ، فمُهُ كان خاليًا مِنَ الأسنان،ِ ويبدو كحفرةٍ فارغةٍ، لكنَّهُ لا يتوقَّفُ عنِ الضَّحِكِ، وكلُّ أحلامي تسقطُ من حفرتهِ تلك، تمعَّنتُ في وجههِ جيدًا، ورأيتُني نسخةً منهُ. لم أعدْ أميِّزُ بيننا، لكأنني واقفٌ أمام مرآةٍ، صرختُ في وجههِ: مَنْ أنتَ؟ لم أسمعْ جوابًا، لكنْ تناهى إلى سمعي صدى ضحكتي تشقُّ السُّكونَ، تذكَّرتُ مقولةَ “سارة” سأرحل قبلَ أنْ أموتَ من الضحكِ، وفهمتُها الآنَ وأنا واقفٌ، ألفظُ أنفاسيَ الأخيرةَ على عَتَبةِ ضَحِكاتِنا على أنفسِنا وسُخريةِ أوهامِنا مِنَّا..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى