محمد دياب - ومضات من وحى البحر.. قراءة في "رجل وامرأة " لـ منار حسن فتح الباب

قبل المقدمة :
معذرةً : إذا أعطيت ظهرى للنقاد ، ووليت وجهى قبلة النص. النص ، ثم النص ، ثم النص ، مرحبًا بالنظريات الأدبية ، والقضايا الأدبية ، والمناهج إنْ وُجدتْ. النص لايقبل أن يفرض المنهج فرضًا عليه ، النص وحده هو الذى يحدد المنهج ، ويخلق نظريته.
مقدمة :
الكاتبة الروائية ، والقاصة "منار حسن فتح الباب "
تمشى بخطىً متزنة ، ثابتة ، واثقة من إبداعها الرصين ، تعرف ما تفعله ، كأنها البحر يحدث أمواجه ، ربما يرجع ذلك ؛ لكونها ابنة الشاعر الكبير أستاذنا الدكتور" حسن فتح الباب " فلقد ورثت منه هموم الإبداع ، مشاتل الأروق ، سماء الكتابة التى تظلل نفسها بها ، مستظلاً معها القارىء ، تتقلب فى فراش الرواية تارة كيمامات الكاتبات ، تلتحف بالقصة القصيرة تارة من شبه الإبداع المتجمد على الساحة ، تارة ترتدى القصة القصيرة جدًا جدًا ، أو فيما يسمى بـ : " الومضة " مع كل ذلك هى تستقل مراكب النقد ، قد تتوقف لتشاهد أمواج الكاتبات ، ونتاج البحر ، تحمل سفنًا من الكتابة المميزة ، تسافر للبعيد فى عالمها الخاص الفريد الذى تشكله ، تصيغه بذهب لغوى مصقل ، تنوعها الإبداعى ما هو إلا قدرة على الخوض فى شتى الفنون التى توافق روحها المبدعة ، يماثل تكوينها النفسى فى أرض الفنون الملونة بريش المحابر ، بأجنحة الخيال المحلِّق ؛ فطوبى للقابضين على جمر الحروف الحارقة ، السائرين على نار الإبداع المتقدة ، الذين يتنفسون دخان الصور، يستنشقون عبير الأسلوب من أجل الخلق الفنىّ فى طريق الكتابة التى لا تتوقف ، لا تنتهى ، لا تحد . تلك سنة التطوير ، معالم التجديد فى كل شىء طالما أن هناك نبضًا للحروف فى وريد الأقلام القلقة التى لا تهدأ ، ولا تستقر إلا بإخراج العالم من داخلها إلى خارجها ؛ ليرى القراء ما تراه من دهشة بعد فراغها من شحنة الإبداع ، كى يستمتعوا معها بما أوجدته من عالمها الخاص المتخيل فى خليط من الواقع ، فى مزجٍ من مدارس الكتابة ، فى لغة تتميز بشعرية القصة ، أو بالقصة الشعرية فى قدرة أن تضع الأرض كلها فى سطر ، أو سطرين ، أو ثلاثة سطور فى هذا النوع الكتابىّ الجديد "الومضة" أو القصة القصيرة جدًا جدًا جدًا . فهي مبدعة تحمل صوتًا جليًا ، مميزًا ؛ فهى:"تنتمى إلى جيل التسعينيات ، لها ستة مؤلفات ، وأربعة كتب مشتركة ، لها تحت الطبع ثلاثة كتب ، أصدرت "لعبة التشابه" و"القطار لا يصل إلى البحر" و"ظلال وحيدة". كما أصدرت "الخطاب الروائى عند غسان كنفانى.. دراسة أسلوبية". وفى مجال الكتابة للطفل أصدرت "أحلام صغيرة" و"مملكة الفراشات"(1). وفى رسالة الماجستير – التى حصلت عليها - تحلل كناقدة أكاديمية " فى كتابها عن الشهيد الفلسطينى "غسان كنفانى" علاقته بالموروث الحضارى الكنعانى القديم فى "فلسطين" . واستلهامه لعنصرىِّ : الموت والبعث من خلال بنية أسلوبية مميزة جديدة"(2). وهى من الكاتبات اللواتى حين ينادى عليهن النص ؛ فتقوم احترامًا له ، لا تعصى له أمرًا ، تحترم اللغة احترامًا شديدًا حين تحضر اللغة / النص تفسح له المكان ، تجلسه فى موضعها ، تقدم له طعامًا فنيًا جديدًا ، وشراب الصورة المسكر حدَّ التخيل ، حدَّ التوهم ، حدَّ الالتهام ، والسقوط أرضًا ، أو تغدو "بالونة" سابحة فى محراب الفضاء ، ثم تحلِّى بالأسلوب ، لا تهين اللغة كبعض الكاتبات ، والكتَّاب ، لا تخرج عليها ، ومن أبرع المبدعات خيالاً ، واستقامة لغوية .
الومضة تفجيرٌ فى شكل الإبداع :
آن لى أن أركب "المغامرة بتحديد سمةٍ ، أو بعض سمات القصة القصيرة جدًا، جدًا ، التى يبدعها - الآن - جيل جديد - مثل كاتبتنا "منارحسن فتح الباب" - تمكن بالمحاولة الدؤبة الواعية أن يفجر - عبر الشكل الأدبى - ثورةً فكرية ، وفنية بددت - لحد ما - الركود الأدبى ، والفكرى الذى عاشته الحركة الثقافية فى السنوات الأخيرة "(3) .
لعل هذه الومضات القصيرة الموجزة ، والأشد إيجازًا تكون من أهم أنواع الإبداع المتفجر : شكلاً ، الحامل خصوصيةً من حيث الحجم الكلىِّ للعمل ، من حيث الشكل المتناهى فى الصغر ، الضارب فى القصر كملفٍ "الكترونىٍّ" مضغوطٍ حين نفكه يعود إلى حجمه الطبيعى من حيث تعدد صفحاته ، مع قوته فى التأثير لما يحمله من تركيز لغوى ، مع فيض تأويلى مزدحمٍ ، مع قدرته على البقاء ، لسهولة تداوله فى أى وقت ، فى أى مكان ، تحت أى ظرف ؛ ليسر استرجاعه - دون جهد – أو إرهاقٍ فى تنشيط للذهن . مع ذلك هو : أبعد ما يكون من الكتابة المجانية ، أعظم من رغوة التسطيح المتطاير الذى ينطفىء سريعًا ، والاستشهاد به فى حياتنا ، مع تمكنه من ذاكرة القارىء العادى والمتخصص – على السواء - حتى الذين لا يجيدون القراءة ، ولا الكتابة ؛ إذا استمعوا له يفهمونه ، ويعلق فى ذاكرتهم ؛ لأنه يشبه : المثل ، أو بيت القصيد ، أو الأقوال المأثورة ، مبتعدًا عن : الثرثرة ؛ فهو ضد كل ثرثرة تخرج الفن من صومعته ؛ لأن بناءه لا يحتمل ثرثرة فى محرابه ، هاجرًا كل زائدٍ يعيق حركة الكلمات كجزيئات المادة فى حركتها . إنه تصميم فريد يرفض : النتوء المشوه ، يتجاهل البروز الغبىِّ ، يمقت الحشو ؛ لأنه ليس من سماته البنيوية ، جاعلاً الكون مهمته الإنسانية الأولى والأخيرة ، مع جريانه على الألسنة بسرعة تكاد تضاهى الصوت ، والضوء معًا ؛ لأنه ينقل "الأرض" فى كلمات موجزة ، يصور " العالم " فى جملة مغلقةٍ تنفتح على المدى ، يختزل الكون فى سطر بكفاءة إبداعية إذا أخلص الكاتب لهذا الفن الذى لا يتركه صغيرٌ ، ولا كبيرٌ إلا ومرر عينيه عليه ؛ فيسقط فى ذهن المتلقى كأنه : آية قد حفظت ، أو حكمة راسخة ، أو قولاً مأثورًا ، وبالطبع بعيدًا عن : الوعظ ، والخطابة ، والنصح ، والإرشاد ، هذا هو التفجير الجيد بحيث يصير العمل الإبداعى كله : خامة واحدة ، كتلة واحدة ، روحا واحدة ، جسدًا واحدًا ، لا تستطيع أن تحذف منه كلمة ، أو تضيف إليه كلمة ، تلك هى الصعوبة لمن أراد أن يسلك هذا الطريق الصعب ؛ فإما أن تضل فيه ، وإما أن ترقى .
تقول الكاتبة فى نص "التهام" : [ وقفت التهمته بعينى ..كان البحر يلتهم أنثى وهمية ، ثم يحطمها فوق صخرة مدببة].
هذه الومضة تتكون من أربع لقطات ، وهى المشهد الواحد متعدد القطات .
القوة المتبادلة / الالتهام عن بعد :
قوة القاصة من ناحية ، وقوة البحر من ناحية أخرى ، السلاح المستخدم عند كل من الكاتبة والبحر هو : "عيون الكاتبة" . سلاح البحر هو "الأمواج" . حالة القاصة لا كلام ، لا حديث ، لا حوار ، لا نقاش ، الحالة هى حالة "فعل" عبر "قوة خاصة" تنبعث من العيون ، االتركيز البصرىّ النهم ، القوى العينية المركزة تجاه البحر – عن بُعد - ثم تعطى فرصة ، أو نقاطُا فارغة يستدعيها زمن فعل الالتهام حتى تنتهى منه ، تركيز النظر صوب علاقة "خيالية" لجوع للحب ، العطش الأنثوى ربما ، العلاقة الطبيعية ربما ، المفاجأة أن البحر يلتهم "أنثى وهمية" أنثى الخيال ، أو أنه لا توجد أنثى - من الأصل - .
لكن هل أكملت الكاتبة التهامها بعد أن أبصرت الأنثى الأخرى الوهمية ؟ أم اكتفت بما حدث لهذه الأنثى غير المحددة وتراجعت ؟ . الكاتبة لم تحكِ ، لم تقل ، لم تفصل ، ففى حال وقوفها ، واستعدادها للالتهام ، كان البحر يحطم ملتهمًا نظيرتها ، إنه لم يلتهم شيئًا إلا الوهم ؛ لأن الأنثى مجرد وهم يخرج من عينى الكاتبة ، ويحضرنى قول كاتبنا الراحل "محمد مستجاب" – الأب – حين يقول عن كاتبتنا : "استطاعت أن تخلق لها عالمًا مبكرًا يبرز شخصيتها الإبداعية ، وهو ما يسهل لها حرية التناول خلال سباحتها بين : الشيطانية الملتوية ، والمتعاكسة ، والتى استفادت من كثرة ثناياها المتلاطمة مع موج كتابتها ، تذيب فيها خبراتها ، ورؤاها ، وتحيلها إلى انسياب جميل شديد الوخز ، والضغط"(4).
ثم يكمل كتابته عنها قائلاً :" ثم الانفلات من بين الخلجان الصخرية ؛ لتنعكس فى كتابتها البديعة آثار الحزن ، العصرىِّ ، الذى يجعل للقراءة متعةً ، نادرًا مانجدها فى كتابات الأخريات"(5). وصدق الكاتب الراحل فيما قال .
المكان :
المكان الذى تحطمت فيه أنثى الوهم تحديدًا هو : الصخرة ، الشكل الخارجى للصخرة هو : السن المدبب الذى يخترق الجسد نافذًا من اللحم ، مفتتًا العظم فى حالة السقوط ، وانفجار الدم ، هذا الشكل المدبب قد يأخذ شكل المثلث ، أو شكل الهرم ، النتيجة هى : الموت الفورىّ ، الموت الحتمىّ . ربما تكون علاقة " الالتهام " غير متكافئة ، فالأنثى ضعيفة ، البحر أقدر ما يكون ، لا مجال للأنثى ؛ فالغرق والتحطيم ، هذا هو حدث الومضة ، ثم نجد أن : "دراما الحياة ، وإيقاعاتها ، وتلاطم أمواجها تحتاج لسرد غير ذاتى ٍّ - فى جوهره - لخلق عوالم ، وأكوان مصغرة ، تحاكى الكون الأكبر – الذى نعيشه – وتبرز قوانينه "(6).
وفى هذه الومضة الصغيرة التى تضغط الكون بما فيه ، ومن فيه فى بحر الحياة ، تنجح بمهارة عالية إذا صار الضغط الكلى لهذا الكون الشاسع فى : هى / المرأة ، هو / البحر ، فعل الحدث / الالتهام ، المكان الكبير / البحر ، المكان الذى استقبل الجثة هو : الصخرة التى تتميز بالجمود ، مما يعنى أنها دخلت عمق البحر ، وأن العواصف العاتية ، والأمواج العاصفة قذفت بها أعلى الصخرة ، ودليل ذلك : أنها لو لم تدخل للعمق البعيد ، لكان البحر رماها على رمال الشاطىء ، ولم تسقط على الصخرة المدببة التى تخرق الجسد .
دلالة البحر :
البحر هنا قد يكون الحبيب ، قد يكون الحياة وما يحدث فيها ، قد يكون الكون بكل ما فيه من علاقات ، وصراعات ، وشد وجذب ، وحروب واقتتال ، هنا أستطيع القول : إن الومضة هى كبسولة مضغوطة يحتشد فيها العالم احتشادًا طبيعيًا ، نجحت الكاتبة فى هذه الومضة الصغيرة ، القصيرة جدًا والتى تتكون من ثلاثة جمل تعطى الشكل "الهرمى" إذا قمنا بترتيبها ، أو شكل المثلث إذا أقمنا منها بناءً ، أو صنعنا منها هيكلاً شكليا يتساوى مع حافة الصخرة المدببة المثلثة ، يتساوى مع عدد الجملة الأولى فى مفتتح الومضة ، وعددها ثلاث كلمات ، وأيضا إذا رسمناها – أى : الجملة الأولى - ستعطى شكلا هرميًا أو مثلثًا ، الغريب فى هذه الومضة أنها تتكون من " 13 " كلمة ، وهو رقم غير محبب عند البعض ، ويتشاءمون منه ، لذا : يتماشى مع نهاية المؤلمة التى وضعتها القاصة .
الحركة فى الومضة :
كانت مجرد الوقوف ، لم تتحرك ، لم تمشِ ، لم تتجه لأى تجاه ، كأن الحدث حدث فى مخيلة الكاتبة من موضع الوقوف ، أو الحركة فى المكان ذاته .
تقول الكاتبة فى ومضةٍ بعنوان "ولادة" : [ فى الصباح ارتفعت أمواجه الصاخبة ... بدت كأنها حواجب الدهشة البيضاء وسط الزرقة ... جرفت الأمواج الفتاة ؛ فتحولت الى عروس بحر جميلة . فى المساء ... ولدت العروس عرائس صغيرة تشبه البحر] .
هذه الومضة تتكون من : ثلاث لقطات فى مشهدىِّ الصباح والمساء .
زمن الومضة لا يشبه زمننا :
الولادة هنا طبيعية ، الحدث هو تلك العلاقة الجميلة ، وهى " الحب " . البحر هو الرجل / الحبيب الذى شدت أمواجه قلبها ، الزمان هو : الصباح المبكر ، الوقت الذى تتفتح فيه الأزهار ، تضحك فيه الأشجار ، تكلم الأشياءُ فيه الأشياءَ ، كلٌّ بلغتها ، تسير فيه المخلوقات ، لولا أن شدت الأمواج أى : المشاعر "الفتاة" لما تحولت لعروس بحر ، تعدد البياض ، والزرقة ، والفستان الأبيض للعروس البحرية الجميلة ، هنا - فى هذه الومضة - الحرارة العاطفية ، سرعة الحدث الذى تم بين جذب الفتاة / العروس ، وتحولها إلى عروس بحر بكامل زينتها ، وألقها ، ثم انجاب عرائس صغيرة تشبه الرجل / البحر .
من الصباح إلى المساء تمت أحداث متلاحقة ، متسارعة ، متتالية ، متعاقبة ، لكن المساء هو كل المساءات التالية ، تم عجن اللغة بروح التكثيف البرقىّ . حدثُ الليالى القادمة هو " الصغيرات اللائى يشبهن الأب ، جاءت الولادة مناسبة لهذا الإيقاع العصرى – رغم أن الزمن ليس هو الزمن - للومضة حيث ولادة الحب ، الارتباط السريع ، انجاب عرائس البحر اللاتى يشبهن أمواج أبيهن ، المسافات الزمنية بين كل هذى الأشياء لا توجد ؛ فلقد أكل التركيز اللغوى الوقت ، عصرَ الزمن ؛ فشاهدنا أحداث هذه المياه البحرية التى جاءت أجيالا أخرى صغيرة ، كل ذلك حدث فى صباح واحد ، ومساء واحد .
لا أستطيع أن أجزم أن المقصود : هو كل صباح آتٍ ، وكل مساء آتٍ ؛ لأن "الزمن" هنا زمن خاص جدًا ، زمن تولد فيه العلاقة فى الصباح ، تزف قبل غروب الشمس ، فى المساء يتم الإنجاب ، الزمن هنا ربما يكون افتراضى ، ربما يصلح هذا الزمن فى كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية بين كائنات أخرى ، وربما يكون زمنًا خيالًا ، فى واقعٍ خيالىٍّ ، فى علاقةٍ خيالية ؛ لأنها لا تصلح للحياة الآدمية المتعارف عليها ، ومن هنا أستطيع الجزم : أن الومضة أكلت الزمن – إن كانت تتحدث عن واقعنا المعروف - حيث جعلت الشهور ، أوالعام الواحد ، أو العامين ، أو الأعوام يومًا واحدًا صالحًا للتعارف ، والزفاف ، والإنجاب ، وهذه سمة الزمن الومضىِّ ، أن تصبح الومضة زمنًا كاملا تامًا طبيعيًا حتى وإن جاء للحظة ، أو ساعة ، أو يومٍ .
تقول الكاتبة فى ومضتها "تدفق" : [ وقفت أنظر الى زرقته الممتدة ... ثمة قارب يترنح فوق أثداء الموجات ... فجاة تدفق اللبن الأبيض الدافىء ليغطيها ... تنتفخ بطن القارب ... يضيع القارب وسط البحر] . هذه الومضة تتكون من : خمس لقطات فى مشهد واحد .
التأمل من بعدٍ أقرب :
كعادة الكاتبة تبدأ بعض " وماضتها" بفعل الوقوف " وقفت " مثل ومضات : [ تدفق - تحت المطر - عزلة - عن بعد - تطلع - قط ] . هذا الفعل يمنحك نوعًا من : التأمل المرتقب ، التبصر بنتيجة المرئىِّ ، والرؤية فى بحر الحياة العاصف ، كما نرى : أداة المشهد هى : هو القارب ، حالة القارب هى :
الترنح ، وفى طريقه للغرق ، امتلأ القارب ، ما هى النتيجة ؟. - تماما - هى الغرق ، لم نشاهد أحدًا فوق القارب ؛ لأنها تنظر - من بُعد قريبٍ - فى زرقة البحر الممتدة ، الرؤية منعدمة للأشخاص ، لكن ما الذى يفعله القارب وسط هذه الزرقة الواسعة وحده ؟ لا قارب دون أناس فوقه ، تقول الكاتبة : إن هذا بديهيًا ؛ لذا : لم تشر ، اكتفت بالإشارة إلى أن القارب يضيع وسط البحر ، نتيجة حتمية من يستطيع أن يرى كل هذى المسافة ؟ لا أحد ، صاحبة الرؤية هى : الكاتبة التى شاهدت الحدث ، وهى على شاطىء الحياة البحر مما يعطيك حسابا آخر ، هو : أن القارب هو حياتنا نحن التى تتأرجح بين العواصف ، أو هى بلادنا التى تغرق كما غرق القارب ، كأنها نقلت الحياة على سطح القارب ، أو الوطن فى باطن القارب ، وحدث ما حدث ، أو ما "يحدث الآن فى مصر" وهى ومضة أخرى للكاتبة تحمل هذا العنوان .
تكوين الومضة :
كما نرى تتكون الومضة من : خمسة جمل ، لا تستطيع أثناء القراءة أن تقف على كلمة واحدة ، أو كلمتين ، لابد أن تكمل الجملة كلها حتى تشعر بحلاوة المعنى القصصىِّ من ناحية ، حتى تتذوق جمال التقسيم بين الجمل من ناحية ثانية ، حتى تستشعر تناسق الجمل من حيث الترتيب ، كما تتميز هذه الومضة بـ : التدفق ، والتدرج ؛ فتبدأ بالوقوف على الشاطىء ، ثم المشاهدة / الرؤية ، ثم المفاجأة من الزبد / اللبن الأبيض ، ثم نتيجة ارتفاعه / تغطيته ، ثم انتفاخ "القارب" ثم ضياعه ، هذا "التكنيك" فى تصاعد الحدث المرئى – من بعد – يتدرج من البدء - فى هدوء – مع تصاعد درامى للحدث المرئى ، خطوة بعد خطوة ، مشهدًا بعد مشهدٍ ، حركةً بعد حركة بالقرب من الشاطىء حتى وسط البحر ، كأنك أمام رواية كاملة ، بفصولها الكاملة التامة تم حشدها حشدًا فنيًا فى جملٍ خمس موقعة إيقاعًا عامًا .
سمة أسلوبية للومضة :
ومما زاد جمال "الومضة" هو "النقاط" بعد نهاية كل جملة ، هذه "الومضة" وهى أن "نقاط الترقيم" - بعد كل جملة تامة من هذه الجمل - هى "الماء". فهى تقول : [ وقفت أنظر إلى زرقته الممتدة ... ( بالماء ) ثمة قارب يترنح فوق أثداء الموجات ... ( المائية ) فجأةً تدفق اللبن الأبيض الدافىْ ليغطيها ... ( بالماء ) تنتفخ بطن القارب ... ( بالماء ) يضيع القارب وسط البحر ... ( المائىِّ ) ] . من ندرك أن عنوان "الومضة" موفق ، يسير مع تدفق الماء ، مع تدفق الحدث ، مع تدفق الكاتبة .
تعد هذه "سمة أسلوبية" لهذه "الومضة" وليست من المسكوت عنه فى شىء ، ليست نوعًا من الإرجاء ، ولا نوعًا من المُكمِّل ، لكنها بداهةً تعرف من السياق دون الحاجة إلى ذكرها فى تركيب الجملة ، كما أن ومضاتها فى كتابها "التهام" تستعصى على التصنيف ، فقد نقول : إن ومضاتها هذه قصص قصيرة جدًا جدًا ، وقد نقول : إنها قصائد نثر ، وقد نقول : إنها وسط بين قصائد النثر والقصة القصيرة جدًا جدًا ، لعل الفضل يرجع إلى مهارة الكاتبة فى : التشكيل اللغوى الزئبقىِّ ، كأنها تبنى قصصها على سطح من الزئبق ، أو"سوستة" تميل بك يمينًا ويسارًا حين تصطدم بقارعة التصنيف ، بجدار اللون ، وقيامة النوع ، أقول : آن للنوع المصفى أن يسكت قليلاً ، أو يختلط ، مستعيرًا من الأنواع الأخرى ما يشاء دون أن ينتسب لأى نوع إلا نوعه الذى فرضه ، ويظل يفرضه إلى أن يأتى قانون يفرض ما فرضه علينا هذا النوع الجديد المهجن وراثيًا فى معامل الإبداع الأدبية لأصحابة : المبدعين والمبدعات .
وتقول فى ومضة بعنوان : "اقتراب"
🙁
اختلطت قطرات المطر برذاذ الموج ... اقترب منى البحر حتى لامسنى ... كان يتمنى لو ينثرنى بعيدًا فوق صخوره لكنى طرت منتفخة مثل البالون].
تتكون هذه الومضة من عدة لقطات فى مشهد واحد .
المرأة المطر / دورة حياة المطر/ اختلاط الذات بالذات الأصل :
هكذا هى دورة حياة المطر ، يتم تبخيره ، تصاعده ، ثم العودة مرة أخرى ، كأن الكاتبة تحتضن نفسها ، كأن المطر يحتضن أصله الذى صعد منه ، أفلحت "القاصة" فى توظيف مفردة"رذاذ" لأن المطر لا يتحمل البحر ، ولا أمواجه الكاسرة ، ولا عواصفه الغارقة ، إن الموج تناثر ، تفتت ، تشظى ، تحول من قطرات أكبر إلى قطرات أصغر ، إلى أصغر منها ، وهكذا ، حتى يطيق المطر رذاذ الموج ؛ لأن حجم الموج أكبر من قطرة المطر ، إنها تتخير موعد / نقطة "التماس" بينها وبين البحر ، وما بين "رجاء" البحر ، و"استدراك" القاصة كانت صارت كفقاعة الماء الشفافة مليئة بالهواء ، تسبح فى غيوم الفضاء ، نلاحظ أن : اختلاط المطر برذاذ الموج ما هو اختلاط الذات بالذات ، امتزاج النفس بالنفس ، الروح بالروح ، الجسد بالجسد ، ولقد خلقنا من الماء كل شىء حى .
حتى الماء يحيا بالماء ، فى منتصف الومضة تجىء : [ القطرات ، والمطر ، رذاذ ، الموج ، البحر ] دليل حياة ، مع اخضرار الروح ، وارتواء الجسد ، لكن الملامسة لم تنتج عن شىء ، لم تثمر عن فعل ، لم تكتمل ، عاد المطر ؛ ليكمل دوة الحياة بين : الصعود والنزول ، والنزول والصعود ، تلك صيرورة الكون حتى نهايته ، ولعل تحولها إلى "بالون" ذلك التكوين الضعيف الذى يسقط سريعًا نتيجة تفريغ الهواء ، ينبىء عن مدى ضعف المتكلم ، وأن أى ريح قوية ، أو ضعيفة تؤثر فيه ، ترفعه أو تخفضه ، تسير به فى أى اتجاه حتى يحدث فرقعة ، بعدها يسقط على الأرض ، أو يعلق فى أى مكان ، أو يذوب محترقًا من سخونة الفضاء .
هنا تتجلى سمة أسلوبية فى مواضع "الترقيم" فإذا كتبنا الومضة كالآتى سنجد أن "الماء" يحتل موضع "النقاط" : [ اختلطت قطرات المطر برذاذ الموج ... ( المائى) اقترب منى حتى لامسنى ... ( بمائه) ] . ستجد أن : الماء هذا الحاضر الغائب معروف بداهة ؛ فهو البحر الذى نعيش فيه ، ويعيش فينا ، بحر الحياة الأعظم الذى يغرق فيه من يغرق ، ينجو فيه من ينجو لكنه يبقى عاجزًا ، ويصل فيه من يصل متصلاً غير منقطع مع بحر الحياة ، والحياة البحر.
المشهد الختامى للومضات :
فى الومضة الأولى بعنوان : "التهام" جاءت النهاية تحطمها فوق صخرة مدببة ، فى الومضة الثانية بعنوان : "ولادة" كان هناك نوع من الأمل ، استمرار لبقاء النوع ، التناسل الطبيعى فى زمن غير طبيعى بالمرة ، هذا إذا قسنا زمن الكاتبة إلى مقياس زمننا الذى نعيشه ، فى الومضة الثالثة : "تدفق" يضيع القارب وسط البحر ، والقارب كان رمزًا موفقًا لتصوير جال البلاد ، وما آلت إليه من ضياعٍ ، فى الومضة الرابعة : "اقتراب" لم يتم ، كان مجرد ملامسة طبيعية ، لم تؤدِ إلى ثمرٍ ، متحولة إلى شكل من أشكال "البالون" الذى لا يصمد فى وجه أى تيارٍ ، أو ريحٍ ، أو عاصفةٍ ، ربما ؛ لأن الكائنات الضعيفة تصير : ريشًا ، أو "بالونًا" فى مهب الريح ، وإن سقطت على الأرض تدوسها الأقدام قصدًا ، أو دون قصدٍ .



الهوامش:
(1) - جريدة الخليج . الإثنين 27 رجب 1435 هـ . 26 مايو 2014 م .
(2) - المرجع السابق- بتصرف .
(3) - البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية – عبد الرحمن أبو عوف" . ص 153 - بتصرف- كتابات نقدية – الطبعة الثانية - العدد/ 64 - يونيه 1997م . الهيئة العامة لقصور الثقافة .
(4) - بوابة جبر الخاطر- محمد مستجاب – كتاب الثقافة الجيدة – ص 283- بتصرف - العدد / 36 - الهيئة العامة لقصور الثاقفة – أغسطس 1996م.
(5) - المرجع السابق – بتصرف .
(6) - أساليب السرد فى الرواية العربية – دكتور " صلاح فضل " . ص 161- بتصرف – دار سعاد الصباح – الطبعة الأولى : 1992م .

1615824706383.png






أعلى