عبد الجبار الحمدي - أحضن خيالي.. قصة قصيرة

لياليي طويلة كئيبة كما يقول المثل فاتني قطار العمر سحق بهوسه وصوت صافرته على أيام سكة زمني الذي اتخذته عربة تنقلني وأمنياتي، جموح احلام شاب، لم تسنح له الفرص أن يخوض تجربة الحب .. كانت للوطن نصيب سنين أنهكت أغلبنا والكثير فارقتهم الحياة باتوا شواهد وصور جامدة دموع أحبة تُذرف لتبرد حرقة الفؤاد من طول بعاد... رسمت شواهد الشيب خطوطها على شعر رأسي إستحوذت على مساحاته تماما كما استحوذ الطغاة أرض وطني، كتبت التجاعيد على عمري اخطوطة الجفاف، لم يكن من بد بأن انزوي فالعالم الذي كان بداخلي حلما لا يمكنه أن يعيش وسط ضباع تنهش القلوب من بين اضلاع سلام وحب... كنت كعادتي اذهب الى المطعم البعيد والمواجه لنهر دجلة الذي اعشق عيناي تتعمد بماءه وهو يتلألئ بضياء المطعم، كان لي شبه ركن فيه يحتويني وهوسي، الجميع يكاد يعرفني فما ان أدخل حتى اجد طاولتي وعليها عبارة محجوز... كنت افرح تجتاحني الغبطة فتلك الطاولة هي التي كل ما املك من أرض الوطن لساعات معدودة... أجلس وأمامي قدح بداخله شمعة تعودت أن أوقدها بعد ان ارسم لنفسي خيال أجالسه... لا ادري فجأة اثارتني رائحة عطر كانت تأتي من ورائي كانت بطعم زهرة البنفسج يا له من أريح أذاب براعم أنفي داهم مساماتي الخاملة، شاع الفضول في نفسي لأن أعرف من هي صاحبة هذا العطر ولكن.. شيء ما قال لي: وما أدراك إنه عطر إمرأة؟ ترددي خفف من ولعي في القيام ثم أجبته قد أكون بعيدا عن عالم النساء لكني بالتأكيد أميز العطر النسائي من الرجالي مالك تسأل هل أنت مجنون؟؟ سارعت لأن اخرج من وراء الطاولة لكن صوت رجل يقول: مساء الخير سيدتي كان بمثابة الصفعة، بت حائرا!! أأجلس أم اتابع النهوض لأرى صاحبة العطر وأثار فضولي أكثر صوتها حينما ردت قائلة: مساء الخير يا الله!!! كم هو عذب؟
عدت الى مكاني أخرجت قداحتي وعلبة سيجائري التي واكبت محتوياتها شفاهِ زمنا، رافقتني حزني وسهدِ، سهري وخوفي، ليلي ونهاري... أشعلت رأسها وانا امتص حرارتها حتى أُشعِرها بارتباكِ، كان دخانها متعرج سابقني في النظر إليها أشبع رغبته في الفضول أما أنا فقد شعرت بالخيانة أطفأتها رأسا.. سارعت أصابعي لإشعال الشمعة كان لها الأثر في نشر خيالي على الجدار الذي في الركن القريب.. جاء النادل الى الطاولة التي كانت جالسة عليها يراها وهي توقد الشمعة تلك هي العادة ما ان يستقر أحد رواد المطعم على الطاولة حتى يوقدون الشمعه إيثارا الشعور بالرومانسية لكنها يبدو تحبذ إيقادها بنفسها.. لم أطلب اي شيء سوى القهوة.. تضارب هوسِ وقلقي وفضولي في شعور غريب لمعرفة صاحبة العطر هوسِ قال: ما يدريك انها جميلة!؟ ربما عطرها يعكس غير ما صوره لك عبقه وخيالك..
قلقِ: لا ابدا فكل عطر جميل لابد أن ترتديه إمرأة جميلة..
فضولي: وما أدراك انها ليست مرتبطة..
رددت ... لا لا أعتقد..
لحظتها شعرت بأن خيالي استطال صار يتحرك بإتجاهها يحاول ان يراها لكنه عاد مسرعا وهو يقول: إنها هنا أمامك... يا الله!!! كم هي جميلة إنها هنا على جدارِ خيالها أشعل روحي، شعرت بإحساس لم يراودني من قبل زاد خفقان قلبي مددت يدي على الجدار أتلمسها يا لولعي أنها ناعمة الملمس.. إنها هي صاحبة العطر أنثى تفوق الجمال، أقتربت أكثر منه صار خيالي ملتصق بها بل كانت هي خيالي نفسه سارعت بلف ذراعي على نفسي أحتضن خيالي شعرت أنها حاولت الهرب لكني تمسكت بها وأنا اقول: أرجوك لا تذهبي بعيدا يا صاحبة عطر البنفسج فأنا كنت أبحث عنك طوال حياتي ربما فارق العمر دافعا لان لا تنصتي لي لكني أرجوك استمعي للحظات فإن راق لك حديثي ابقي وإن لم يعجبك فلك حرية التصرف.. وها أنا اجدك مصادفة فلا تحاولي الإفلات .. لست قاسيا لكني رجل أخاف فقدان من احب فلي تجارب كثيرة مع الذين أحببت وفارقتهم في سنين حرب، لم أكن بوعيي، لم أشعر إلا والنادل يقول: سيد أحمد هل انت بخير؟ يبدو أنك دخلت في نوبة شرود باغتتك فجأة ولم تشعر وأنا انادي عليك إن صوتك مسموع للذين من حولك كنت تتحدث عن مشاعرك والجميع كان منتبها أثارهم تصرفك وجدوك تحاكي خيال وتحتضنه.. عفوا لم أقصد لكن هذه المرة الأولى التي أراك فيها شاردا مولعا بالخيال... أرخى بنفسه على أذني قائلا: إني ارى ما تراه إنه خيال المرأة التي من وراءك يبدو أنك جذبت أهتمامها فهي كانت تبتسم عندما قلت يا صاحبة عظر البنفسج .. كان المفاجأة صاعقة لي، ذهب ماء وجهي خَجِلا مما بدر مني أعتذرت لكنه قال: لا عليك سيد احمد فأنت من الناس الرائعين الذي يحترمك جميع من في المطعم واقعا أقول لك أن لك ميزة ورونق فالجميع يتحدث عن أدب وحسن تعاملك وذوقك الرفيع في الملبس... لا أدري كيف اصيغ لي عبارتي؟ هيا قم الى طاولتها أدعوها للمشاركة في دعوة منك على العشاء.. من رجل الى رجل أخبرك أنها غير مرتبطة.... ادهشني بهذه الجملة فقلت:
كان معها رجل.. لا يا سيد احمد ليس شخصا مميزا إنه سائقها الخاص كان قد أحضر لها علبة سجائرها التي نستها في المركبة فعادتها كعادتك ما ان تجلس حتى توقد بنفسها الشمعة... ليست من رواد المطعم المستديمين فلها المرة الثانية او الثالثة لكنك يبدو لم تلحظها إلا هذه المساء...
كان حديثه يدفع بي يزيح ركود خجلي من الرفض والتردد بعد ان غادرني قائلا: الفرصة لا تأتي دون ان تسعى إليها فأن أجدت التصرف نلت ما تريد عمت مساء سيد أحمد...
نظرت الى خيالي هو الآخر يدفع بي .. هيا تحرك إنه القدر لقد صنع لك اليوم حظا وفرصة مواتية سارع لا تدع خوفك او هوس الخجل يمنعك هيا تحرك... دون أن أدري كنت واقفا أمامها وهي تنظر لي بإبتسامة شفافة أذهلتني عما اردت قوله... فتمتمت سيدتي هل لي بدعوتك على العشاء هنا على طاولتي؟ بعدها شعرت بقشعريرة تسري في جسدي كأن هالة من البرودة حملتها نسمات دجلة لتدخل مساماتِ تهزني كغصن شجرة متيبسة أيقظها هوس الحب.. فردت قائلة:
لا بأس ساقبل دعوتك على شرط ان احمل شمعتي حيث مكانك..
مرتبكا رددت بالتأكيد لك مطلق الحرية دعينس أحملها عنك...
حسنا..
كان ذلك المساء جنونيا بالنسبة لي في تلك اللحظة فقط أحتضنت خيالي بصدق، شعرت أن الكون قد ارتصف ليشاهدني وانا أتحرر من الوحدة... ودجلة تلوح لي كما كانوا طاقم المطعم...
نادية تلك الأنثى التي شاركتني بقية حياتي دون مقدمات، فأمتزجت روحي بروحها، خيالها بات خيالي.. لذا نضحك كثيرا عندما أحضنها وهي تسمعني أقول: كم أنا سعيد عندما أحضن خيالي.
القاص والكاتب
عبد الجبارالحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى