أمين الزاوي - نوال السعداوي تواصل معركة التنوير من قبرها.. ما عاشته خلال 70 سنة من الكتابة والسجالات عاد دفعة واحدة مباشرة بعد الإعلان عن موتها

لم يحصل لميت أو ميتة في العالم العربي وشمال أفريقيا كلها أن أثار ضجة بعد الموت، مثلما حدث للباحثة والكاتبة نوال السعداوي التي غادرتنا في 21 -3 2021، لا الرؤساء ولا الملوك ولا الفنانون ولا العلماء على اختلاف طرق مرورهم في الحياة وما اكتنفها من ضجيج سياسي أو حربي أو أخلاقي، لا أحد منهم خلّف ضجيجاً بحجم الضجيج الذي أثاره خبر الإعلان عن رحيل الدكتورة نوال السعداوي.

على الرغم من أن حياتها الفكرية والأدبية والسياسية، ومنذ الخمسينيات، كانت عبارة عن حلقات مسلسل لا ينتهي من السجالات وارتدادات لهذه السجالات التي تشبه الزلازل الفكرية، إلا أن كل ما عاشته خلال 70 سنة من الكتابة والمعارك عاد دفعة واحدة مباشرة بعد الإعلان عن موتها. فلمدة ثلاثة أيام متتالية، أخرجت جميع القنوات التلفزيونية العربية والمغاربية الأحاديث المسجلة معها وأعادت بثها، ونشرت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لها ومقتطفات من حواراتها المكتوبة وبعض مقولاتها الشهيرة حول المرأة والحرية الشخصية وأمراض سلطة الذكورة العربية، وعلى "يوتيوب"، اقتُطعت آلاف المقتطفات من أحاديثها ومن سجالاتها مع الشيوخ ومع الدعاة لغاية في نفس يعقوب.

لكن كل ما تم تقديمه عن هذه المفكرة وطريقة تقديمه واللغة التي قُدّمت بها على جميع المنصات، لم يكن بريئاً ولا حيادياً من الناحية الفكرية والأيديولوجية والسياسية. فهذا الكم الهائل من الكلام والصور والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، يقدّم لنا صورة قريبة من الدقة عن العقلية العربية والمغاربية تجاه مفاهيم أساسية مثل: "الاجتهاد" و"الاختلاف" و"حرية التعبير" و"المساواة بين الرجل والمرأة"، وهي أيضاً ترمومتر عاكس لمستوى درجة قبول "الحرية الشخصية" في هذا العالم وأيضاً مستوى درجة "التسامح" وقبول الآخر في هذه المجتمعات.

لكن، قبل هذا وذاك، المثير في الأمر، ردّ فعل النخب التي تنتمي إلى الجامعة، وتلك التي تشتغل في الإعلام والإبداع، من أولئك المحسوبين على الأكاديمية والصحافة والكتابة والفن، إذ بدا خطابها -أي النخب- شبيهاً بخطاب العامة "الغوغاء" كما يقول أبو حيان التوحيدي في استعمال ذات القاموس المليء بالشتم والتجريح في الميت.

وفي الجزائر، ومن خلال نظرة على ما نشر في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نستنتج من هذا "العزاء" الغريب الذي خُصّت به الفقيدة الدكتورة نوال السعداوي ما يلي:

مرة أخرى يبدو المجتمع الجزائري وهو يقف أمام رحيل هذه المفكرة والمناضلة النسوية العنيدة، منقسماً وبشكل واضح بين معلّق باللغة الفرنسية ومعلّق باللغة العربية، من دون السقوط في التعميم، وكأن المجتمع مشكّل من مجتمعين، من مخيالين، من شعبين، من مرجعيتين فكريتين، إذ إن غالبية المعلّقين بالفرنسية، أقول غالبية وليس الجميع، تميزوا إلى حد كبير بأخلاق التسامح واحترام الاختلاف وقبول الرأي الآخر وتكريم الميت، وغالبيتهم استعملوا أسلوباً "نظيفاً" خالياً من الألفاظ النابية أو الشتم أو المسّ بعرض الفقيدة أو أسرتها. وفي كثير من التعليقات، هناك تذكير في شكل مقارنة بين نوال السعداوي من جهة ومناضلات نسويات وكاتبات ومفكرات غربيات كسيمون دوبوفوار Simone de Beauvoir أو سيمون فيي Simone Veil أو جيزيل حليمي Gisèle Halimi وغيرهن.

على الطرف الآخر، يتميز خطاب المعلّقين باللغة العربية، سواء كانت عامية أو فصحى، وبعيداً من التعميم دائماً، بروح العضب والتعصب ورفض كل اجتهاد أو تأويل لأي نص تراثي مهما كان، وتبدو الأحكام تعميمية والاستشهادات مقتطعة بطريقة تخفي غرضاً أيديولوجياً معيناً، هدفه الإدانة المطلقة لا النقاش الهادئ، كما أن غالبية المعلّقين لم يقرأوا كتب السعداوي، بل اعتمدوا في هجومهم على بعض التصريحات المبتورة وعلى بعض التعليقات لبعض خصومها الأيديولوجيين.

كما أن الخطاب للمعلّقين باللغة العربية، في عمومه، تميز بمفردات الشتم والقذف والتكفير والتهويد والتخوين والمسّ بشرف الراحلة وعدم احترام كرامة الميت، وبدا الكثير منهم فرحاً لموتها وهو سيرسلها إلى "جهنم" نيابة عن "الله" تبارك وتعالى، والخلط البيّن ما بين السياسي والديني في الحكم عليها.

تميز المعلّقون على شبكة التواصل الاجتماعي بتأثّرهم الكبير بأفكار "الإخوان المسلمين" في الجزائر، ما يبيّن الحجم الأيديولوجي لمثل هذا التيار في أوساط الجيل الجديد.

تبدو الكثير من التعليقات في تطرفها وعنفها وجهاديتها ودمويتها من خلال الدعوة إلى القتل ضد كل من يتبنّى فكر الباحثة نوال السعداوي، متأثرة بالفكر الجهادي الانتحاري الداعشي.

إن ما كُتب على وسائل التواصل الاجتماعي تعليقاً على وفاة الكاتبة المصرية، يبيّن مدى الخلل العميق والخطر الذي يداهم المدرسة الجزائرية، وهذا السرطان ينخر برامج التعليم في العالم العربي وشمال أفريقيا كلها. فالتعليقات مؤشر كبير إلى أن المدرسة هي بين أيدي تيار الفكر الجهادي والإخواني، وأن الجيل الجديد هو ضحية هذين التيارَين، ولا يمكن بناء مجتمع متعدد ومتوازن في ظل هذا العطب الذي ينخر جسد المنظومة المدرسية. والأدهى من كل هذا، إن السرطان قد تجاوز مقاعد المدرسة في مراحلها الأولى ليصل إلى مدرجات الجامعة.

كشف لنا رحيل المفكرة نوال السعداوي، عن هشاشة قبول الاجتهاد والاختلاف والحرية الفكرية في أوساط المثقفين والجامعيين أنفسهم، فـ"الإنتليجنسيا" التي من المفروض أن تكون حارسة وحامية حرية الرأي، تمارس نوعاً من الإرهاب على جزء منها.

إن غياب قبول الآخر سواء على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي لا يمكنه أن يؤهل مجتمعاً للدخول في معركة المنافسة الإقليمية أو العالمية على المستوى الاقتصادي والعلمي والإبداعي، وقد كشف لنا موت نوال السعداوي عن أي درك نحن فيه، أخلاقياً وسياسياً وفكرياً.
أعلى