حنان حلبوني - حبٌّ في الثلاجة.. قصة قصيرة

كانت ترتجف من البرد والخوف حين دخل آخر شخصٍ يخطر في بالها أن تراه. مضى عشرون عاماً على آخر لقاءٍ بينهما، لم ينتبه لوجودها أو اصطنع اللامبالاة، لكنها انتبهت تماماً إلى وجوده وعرفته مباشرةً، ‏‏‏‏‏‏‏‏رغم شحوب وجهه، ورغم قسوة الأيام التي نحتتْ تضاريس وجهه بعناية.‏‏‏‏

أرادت أن تلفتَ انتباهه إلى وجودها، لكن صوتها خانها. حاولت أن ترفع يدها، لكن قواها كانت خائرة. لم تستسلم لضعفها، بل عاودت المحاولة، حتى استطاعت إخراج حروفٍ مبحوحةٍ من حلقها... تميم... ألستَ تميم؟‏‏‏‏
فتح عينيه، وحاول الإصغاء، فأتاه صوتها مرةً أخرى... ألستَ تميم؟‏‏‏‏
استجمع قواه وأجابها بصوتٍ متهدّج: أجل هو بعينه، ولكن من أنتِ؟ وكيف عرفتِ اسمي؟‏‏‏‏
أنا نوال، هل نسيتني؟‏‏‏‏
فكّر قليلاً، ثم نظر إلى وجهها الشاحب، وارتسمت ابتسامةٌ عريضةٌ على وجهه المنهك:‏‏‏‏
نوال! لطالما انتظرتُ مصادفةً تجمعني بكِ إلى أن رأيتكِ حيث لم أتوقع أن أراكِ أبداً.‏‏‏‏
- وكيف ستتوقع أن تراني هنا؟! فعلاً إنها مصادفةٌ عجيبة، بعد السنوات الطويلة من الفقدان والانتظار يجمعنا مكانٌ كهذا! كم هي الحياة قصيرة!‏‏‏‏
- ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟‏‏‏‏
لا أذكر أبداً ما الذي حدث بالضبط، كنتُ أقطع الشارع وأحمل همومي في قلبي وعلى عاتقيّ حين شعرتُ بضربةٍ قوية على رأسي، لستُ أدري إن كانت صدمة سيارة أم شظية قذيفة، بجميع الأحوال كانت الضربة على ما يبدو قويةً جداً، لم أشعر بعدها بشيءٍ سوى عندما فُتح الباب وأتوا بشخصٍ أعرفه منذ زمنٍ بعيد وآمل أن ألتقي به يوماً.‏‏‏‏
- أخبريني عنكِ ... هل تزوجتِ؟ وماذا تعملين وأين تسكنين؟‏‏‏‏
- لا لم أتزوج، قضيتُ حياتي في ملجأ للأيتام أرعاهم وأعتني بهم حتى غدوا كأولادي تماماً. كانت تلك الطريقة الوحيدة التي تجعلني أعوّض غيابك عني بعد أن تمّ رفضكَ من قِبَل أهلي، وأنت؟ كيف قضيتَ أيامك بعد أن تركتني وسافرتَ وانقطعتْ أخباركَ عني؟‏‏‏‏
- لقد تعرّفتُ هناك بسيدة أعمالٍ عملتُ عندها كسائق، وبعد سنواتٍ من العمل وبعد أن وجدتني مخلصاً لها أميناً على أملاكها وأولادها عرضتْ عليّ الزواج فوافقتُ من دون أيّ تردد. كان لديها ابنتان وولد من زوجها الأول وسنّها لم يسمح لها بالإنجاب بعد ذلك، فبقيتُ وحيداً بلا ولدٍ يحمل اسمي، ولم أشعر يوماً برابطٍ يربطني بها. كانت حياتي معها أشبه بالجحيم، وكنا نتشاجر بشكلٍ شبه يوميّ. لقد اعتقدتْ بأنني عبدٌ لديها وعليّ أن أطيع أوامرها، لكنني لم أحتمل ذلك وحزمتُ حقائبي وعدتُ.‏‏‏‏
وما إن وطئتْ قدماي أرض المطار حتى شعرتُ بألمٍ شديدٍ في صدري، ثم لمحتُ بعض الوجوه تحوم فوق رأسي إلى أن فقدتُ كل إحساس، وهأنذا الآن بقربكِ. أتصدقين أنني أعيش الآن أجمل لحظةٍ يمكن أن تصادف إنساناً؟ مع أننا في هذا المكان البارد الموحش، إلا أنني أراه روضةً أو حديقةً أو ربما جنة.‏‏‏‏
- قصتكَ حزينةٌ جداً، لكن نهايتها جميلة. تُرى هل سيقف أحدٌ في وجهنا الآن ويقطع علينا الطريق كما حصل منذ عشرين سنة أم أننا سنبقى معاً؟‏‏‏‏
- وهل يعرف أحدٌ مكاننا؟ لا أتصور ذلك أبداً، بل إن أحداً لم يعد يهتم لأمرنا.‏‏‏‏
- علينا أن نصمت الآن، فقد جاء الموظف المسؤول عن الثلاجة، إنه رجلٌ لئيم لقد عاملني بقسوةٍ حين أدخلني إلى الدُرج وكأنني بلا إحساس.‏‏‏‏
- فعلاً، أنا أيضاً شعرتُ بذلك، فلنصمت الآن، يبدو أن أحداً ما يريد التعرف على إحدى جثتينا.‏‏‏‏
صمت الاثنان، لكن ليس تماماً؛ فهما ما زالا يتهامسان ويضحكان من دون أن يشعر الآخرون بذلك.‏‏‏‏


حنان حلبوني



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى