محمد خضير - أشياء لا تمحى.. أسم لن يزول

روى محمود عبد الوهاب خبراً عن زميل له ألِفَ المعتقلات , قال ان هذا الأليف دقَّ مسماراً على حائط المعتقل , وعلّقَ عليه سترته , فكان هذا المسمار في انتظار سترة الأليف كلما عاد إلى خان الشرطة حيناً بعد حين.
هذا المسمار لن يمحى من ذاكرة محمود , ولا من ذاكرة جدران المعتقلات , وقد تعلّق عليه دلالاتها الغائبة وأنت تقرأ قصصه. أشياء لن تمحى من ذاكرة أصحاب المسامير : بقعة دم جافة على رصيف , شحاذ غافٍ في باب مسجد , صوت أم كلثوم في قبو التعذيب , وجه الأخت الراحلة في عيني محمود الغائمتين.
يقترع محمود على قائمة الانتخابات , فيرسم علامة المسمار في المربع الخالي , المسمار المعقوف مثل جسد أخته المسجاة على سرير الغيب , إلى جانب الأسماء المسمارية المطروحة على القائمة.يكتب محمود صفحات من سيرته الذاتية , على ترتيب خاص بيقظة ذاكرته الحالمة , فيتذكر وجه أبيه أول من يتذكر وهو يصطحبه إلى صالون الحلاقة , ثم وجه أمه تابعاً إياها بفانوس وهي تلبي نداء امرأة حبلى تُطلق في ليل المحلة . شعاع الشمس المتسلل إلى مرآة الحلاق , وضوء الفانوس المفروش على أرض الزقاق , خيطان يشدان محموداً إلى الأشياء التي لا تنسى , صفحتان في روزنامة السيرة الذاتية الناقصة لحياته الكاملة .
يضيف محمود ما ينقص حياته إلى حياة شخصياته , فيؤلف من سيرهم المتفرقة سيرة موحدة لقصة يؤلفها عن نفسه , بل يستأنف هذه السيرة القصيرة برواية عنوانها ( سيرة بحجم الكف ) . يحذف محمود ما ينبغي تفصيله في سيرة حياته , ويضيف إلى شخصياته ما يفيض على مقادير سيرهم , ويكتم عن قرائه ما لا يستوجب الإسرار , ذلك أن قدرة محمود على الكتمان والاختصار هي أقوى من قدرته على الإباحة والتفصيل . هذا ديدنه , وتلك طباعه , يؤثر على نفسه ما يسفحه على الآخرين , فكأن قصصه المفصلة لحياة أصدقائه ترجمة لسيرته المختصرة بحجم الكف , واختزال قصصه إلى أقصر الحدود تعبير عن رغبته المكبوتة في سرد التفاصيل. تعكس قصص محمود القصيرة طريقته المهذبة في ارتشاف كأس الحياة حتى الثمالة . وما يزال محمود يختصر ما يريد تفصيله , ويفصل ما يشاء اختصاره , في تأليف قصصه , مثل الإسـكاف الذي يقص الجلود ويلصقها ويخصفها مرتدياً قفازاً أبيض , معتكفاً على عملـه بطريقة الأسلاف المتمسـكين بعطر لغةٍ تفوح بها نصوصهم.
يعمل محمود في زاوية مشغل ضيق مدفون في بازار المؤلفين والقارئين المشغولين بتسويق نصوصهم والصياح على بضاعتهم والتدافع لزيادة عدد كتبهم . لكن صانعاً مثل محمود يشتغل بمزاج النهايات القصيرة , يحتسب عدد الخطوات التي تفصله عن النص المأمول , يحبكه فيأتي سعاة النصوص بين المراحل الألفية ويحملونه إلى ما يعلم صانع ولا بائع في بازارات الصناع المهرة . لا يراسل الصانع القابع في زاويته قارئاً يعرفه , ولا يأمل في خطوة نهائية تختتم عمله . فهو يعمل كما يعمل قصاص النهايات المفتوحة على مقايضة قصصه بدلالات عابرة , وإيحاءات ماكرة , محمولة على احترام العقد المبرم بينه وبين شخصياته المتوارية في الظل بكتمان أسمائها . وهنا يعمل محمود ببند ثمين من بنود كتابة القصة القصيرة , غير بند الاقتصاد والايجاز , هو بند الوصاية أو الوكالة عن ضحايا الحياة . تلقى الضربات والصفعات , وصنوف الهزء والسخرية , وأعباء الشيخوخة والمرض , نيابة عن شخصياته , وأغلبهم شيوخ ومرضى وعاجزون وقانطون , بصبر وأناة وتفهم , فكان أميناً للروح الإنساني الذي استدفأ بوهج حقيقته نصوص آباء القصة العراقية الأوائل . يرتحل محمود في رؤاه السردية بعيداً عن واقع (( الدهشة الأولى والحادثة الأولى والمشهد الأول )) كما يقدم لمجموعته القصصية ( رائحة الشتاء) . إلا أن ذاكرته الأمينة لأصولها تأبى إلا أن تعود إلى دهشتها المرتحلة إلى تلك المواقع التي جزأت سيرته إلى بيوت وعتبات وثريات ووجوه ترتسم في مجرى حياته البطيء. إن رؤاه التي ترتقي في (( قطارها الصاعد )) إلى أعلى التقنيات السردية تشرف على مشاهد لم تزل آثارها من تضاريس الأرض الأولى : جدار مثلوم في زقاق ترابي , جسر خشبي متداع على نهر صغير امتلأ قاعه بالقناني الفارغة وأطر السيارات التالفة , مدفأة علق بها الغبار , ردهة مستشفى في آخرة الليل , كتاب وقدح شاي ومضربة ذباب ومنديل على طاولة في شرفة . قدمَ محمود عبد الوهاب من الموقع الأساسي الذي شاده قصاصو العراق في نهاية الحرب العالمية الثانية , أما أشخاصه وأبطاله , سيرهم ووقوفهم وكبواتهم , ثيابهم وكلامهم وطعامهم , بلاهتهم وسخريتهم وفطنتهم , فقد صعدوا قطاره من محطات متفرقة على السكة الملتوية في فيافي الأرض العراقية المترامية الأطراف . كيف لنا أن ننسى أجواء عربة (( القطار الصاعد إلى بغداد )) ووجوه ركابها : الطالب البصري والمسافر البغدادي والقروية العمارتلية : (( آه ما أضيق هذا المكان ! ما أتعس هؤلاء ! )) يفكر الطالب . وعلى الجهة الأخرى من القطار المارق بركابه يفكر قراء قصص محمود في أثر الدخان والهدير المتصاعد من العربات المقطورة : (( آه ما أوسع هذه البلاد ! ما أعجب هذه الوجوه. لقد مضى الزمان سريعاً بهم وبنا وبالقصاص الذي هبط من قطاره . إننا نصادفه اليوم جالساً في مطعم إلى جوار بطل قصة ( الملاعق ) يتلوى بخار الحساء بين عينيه خيوطاً سائبة , يطرق لحظة كأنه يتأمل حياة كاملة سقطت في طبقه , ثم يطبق على الملعقة مستديراً صوب طبق الحساء, في اندفاعة لا حدّ لها , إلى التهام طعامه . أو إننا نتذكر المفتش الذي استخرج من ذاكرته صورة معلمة الأطفال التي ترتدي ثوب البازة المشجر بأكمامه الطويلة الضيقة المطرزة بالدانتيلا . أو إنه ذلك (( العابر الاسـتثنائي )) الذي يعبر بتثاقل الشارع إلى الرصيف الآخر , مطرقاً كانه يحسب خطواته بانتظام , وكأن شيئاً في داخله ينكسر , يجرّ أقدامه مثل حيوان جريح . أو نتخيله قارئاً فطناً لكتاب ( البخلاء ) ينقب في زوايا حكاياته عن شخصية ينتسخ منها بطل قصة ( رائحة الشتاء ) سلمان ذا المسحة الغوغولية . ما أفطن هذا المنتسخ , المتنكر في إهاب شخصياته ! وما أكثر تحولاته في مجموعة قصصية واحدة ! سنفاجئه متحولاً إلى نورس في نهاية قصة (عين الطائر ) : يفرد جناحبه ويصفقهما محاولاً النهوض من الأرض والاستدارة صوب النهر , مخترقاً فضاء المدينة ومبانيها , مغادراً مكانه القصي , غائراً في الالتماعات الفضية الجميلة .



أعلى