ميخائيل نعيمه - غلطة صحيحة

سألَتْه زوجته عند مغادرة البيت في ذلك الصباح إلى مقرّ عمله أن يأتيها في المساء بليرة إنكليزيّة ذهبيّة لتقدمها هديّة إلى ابنتهما الوحيدة في عيد ميلادها . وكان ذلك اليوم يوم مولدها الثاني عشر . فاغتبط الوالد بفكرة الوالدة ووعدها خيراً .
وعند العصر عادت الصبية من مدرستها وفي وجهها الحلو ما ينمّ عن اضظرابات قد تكون جسدانيّة وقد تكون نفسانيّة . ولكنّها اضطرابات أزعجت الأمّ كثيراً . فما زالت بابنتها حتى باحت لها بسرّها :
(( وأنا في طريقي من المدرسة مررت برجل عجوز جالس على الرصيف لم أرَ مثله في حياتي . آه لو ترينه يا ماما ! ثيابه بالية . جسده بال . شعره طويل . لحيته كأنّها المسلّات . عيناه صغيرتان ، مدوّرتان ، غائرتان تحت حاجبيه الكثيفين . نظراته تبعث الرعب . في يديه تفاحة ذاوية يعالجها بسنّين لم يبقَ غيرهما في فمه . إحداهما من فوق والأخرى من تحت . وهما لا تتلاقيان . ولكنّه لا يظفر من التفّاحة حتى بإحداث ثغرة في قشرتها . فيسيل لعابه على لحيته ، وتنتفخ أوداجه ، وتعمق التجاعيد في وجهه ، وتبدو عيناه كعيني وحش مفترس .
منظرٌ هائلٌ يا ماما . خفت منه كثيراً ، كثيراً . ولكنّني بقيت مدّة مسمّرة مكاني ، وعيناي لا تشبعان من النظر إليه . أخيراً التفت إليّ وتبسّم . فهربت . ))
ــ خوفاً منه ؟
ــ لا يا ماما . خجلاً منه . كان في ابتسامته ما جعلني أخجل من نفسي لأنّني خفت منه في البداية ، ولأنّه لم يكن معي قرش واحد أعطيه إيّاه .
ــ أمر بسيط يا بنيّتي . أهو بعيد من هنا ؟
ــ لا . مسيرة خمس دقائق .
ــ إليك عشرة قروش . خذيها له .
فرحت الفتاة باقتراح والدتها . فأخذت القروش العشرة وهرولت إلى حيث كان الشيخ الفقير . فلم تجده . وفتشت عنه في الجوار فلم تقع له على أثر . فعادت إلى البيت وفي قلبها غصّة .
وفي المساء عاد الوالد إلى البيت . وقبل أن تردّ الوالدة تحيّته سألته عن الليرة الذهبيّة . فابتسم ومدّ يده إلى جيبه وأخرج قبضة من النقود نثرها على طاولة قريبة منه وراح يفتّش بينها عن القطعة الذهبيّة فلم يجدها . ثمّ راح يفتّش باقي جيوبه الكرّة بعد الكرة فلم يجد قطعة النقد الذهبيّة التي تحمل على أحد وجهيها صورة القدّيس جاورجيوس ، قاتل التنين وشفيع الجزر البريطانيّة . فوقف كالمصعوق لا يبدي حراكاً .
بعد دقيقة ضرب الرجل جبهته بكفّه وصاح :
ــ مجنون . أنا مجنون . كان عليّ أن أضع القطعة في جيبٍ وحدها ، لا في جيب واحد مع النقد الصغير . الآن أدركت ما حصل . مررت في طريقي إلى البيت بشحّاذ عجوز يحاول أكل تفّاحة فلا يستطيع . فرميت إليه بقطعة من النقود ظننتها ربع ليرة . من الأكيد أنني رميت إليه بالقطعة الذهبيّة عن غير وعي وإدراك . تبّــاً لي . تبّــــاً لي ما أحمقني !
وانهالت الوالدة على الوالد بالتأنيب والتقريع ، وأمرته أن يعود أدراجه في الحال ليستردّ الليرة الذهب من الشحّاذ ويعوّضه عنها قطعة من النحاس أو الفضّة . فامتثل لأمرها ليعود بعد نصف ساعة بالخزي والفشل . إنّه لم يجد الشحّاذ .
وسمعت الابنة ما دار بين والديها من حديث ، وما نال والدها من تبكيت وتعنيت . فاكمدّ وجهها ، وانعقد لسانها ، وأحسّت أن جوّ البيت بات مكهرباً بسببها . لا كان يوم مولدها ، ولا كان ذلك العجوز الذي يحاول أكل التفّاحة فلا يستطيع ، والذي هالتها تكشيرته وسحرتها ابتسامته .
وهم كذلك إذا بجرس الباب يدقّ ، وإذا الذي يدقّه عجوز متهدّم يقبض بيده الواحدة على تفاحة متجعّدة ، وبالأخرى على عصاً يتوكأ عليها . وما إن وقع بصره على صاحب البيت حتى راح يعتذر عن إزعاجه له . فهو لم يعرف إلّا بعد حين أن قطعة النقد التي تصدّق عليه بها كانت من الذهب . ولأن أحداً لم يتصدّق عليه في حياته بالذهب فقد أدرك أن في الأمر غلطة . فراح في الحال يسأل أصحاب الحوانيت في الجوار لعلّهم يهدونه إلى رجلٍ قيافته كيت وكيت . فاهتدى والحمد لله . وها هو يردّ الذهب لصاحبه ويطلب له طول العمر .
حينئذٍ سرّي عن الوالدة والوالد معاً ، وأخذهما عجب كبير من أمر هذا العجوز الغريب . وشاءا أن يكرماه بالطعام وبالشراب وبليرة كاملة من الورق . فأبَى أن يأخذ شيئاً ، وهمّ بالانصراف . وإذا بالفتاة الصغيرة تبكي وتصيح :
ــ بابا ! ماما ! أين الليرة الذهب ؟ هي لي . هي هديتي في عيد مولدي . هاتها يا بابا . هاتها .
وعندما أعطاها والدها الليرة حملتها إلى العجوز متوسّلة إليه أن يقبلها هديّة منها . فأخذها الرجل وقال :
ــ أقبلها من يدٍ أفقر من يدي ، وقلبٍ أغنى من قلبي . كل عيدٍ وأنتِ بخير .

* هوامش
ميخائيل نعيمه
أعلى