غاستون باشلار - تحليل رواية (سيرافيتا) لبلزاك.. ترجمة جورج سعد

ولكن يوجد عمل كبير أقرب من المشاكل التي نطرحها في الكتاب الحاضر ، عمل كبير تظهر فيه سيكولوجيا النّفس والنفْس . كجمالية حقيقية للسيكولوجيا . نريد التحدث عن عمل بلزاك الفلسفي الذي يحمل العنوان : سيرافيتا (Séraphîta) . ففي عدد كبير من ميزاتها ، سيرافيتا تبدو كقصيدة شعرية في الخنثية .

فلنذكر أولاً أن الفصل الأول يحمل عنوان سيرافيتوس ، والثاني سيرافيتا والثالث سيرافيتا ــ سيرافيتوس . هكذا فالكائن الكامل ، مجموع القيم الإنسانية ، هو معروض بالتتالي بفضائله الفاعلة كعنصر مذكر ، بقواه المحافظة التي يضمها المؤنث ، قبل أن نصل الي التركيب (Synthese) بما هو تعاون كلي بين النَفَس والنفْس . وهذا التركيب يُحددُ صعوداً (assomption) يحمل طابع ما سيكون عليه القدر ما فوق الطبيعي لمخنث سولوفيف (Soloview) .
قبالة هذا الكائن المخنث الذي يهيمن علي كل ما هو أرضي في هذا العالم ، يضع بالزاك فتاة شابة بريئة ، مينَا (Minna) ورجلاً عاش شغف المدينة ، ولفريد (Wilfrid). فالكائن المخنث هو إذن سيرافيتوس أمام مينا وسيرافيتا أمام ولفريد . اتحادان ممكن حصولهما مع كائنات الأرض لو كان بالامكان أن ينقسم الكائن ما فوق الأرضي وان يُشَخضَ اجتماعياً كلاً من قواه : الرجولية والانوثة . انطلاقاً من هنا ، ولأنهما اثنان ، في رواية بالزاك الفلسفية ، إثنان يُحبان المخنث ، اثنان يحبان الكائن المزدوج ـ لان سيرافيتوس ـ سيرافيتا يملُك المغنطيسية المزدوجة التي تجذُبُ كل الأحلام ، فها نحن إذاً أمام تأملات رباعية الاقطاب . وكم هي كثيرة التأملات المتقاطعة في صفحات المتأمل الكبير . كم يتقن بالزاك السيكولوجية المزدوجة : هي له وهو لها ! عندما تحب مينَا سيرافيتوس ، مينَا يحب ولفريد سيرافيتا ، عندما يريد سيرافيتوس ـ سيرافيتا الارتقاء بالشغفين الارضيين الي حياة ممثلنة ، كم تكون كثيرة إسقاطات الأنيموس في الأنيما والأنيما في الأنيموس! هكذا تقدم إلينا نحن القراء قصائد شعر تدور حول نفسية المثلنة ، قصائد شعرية سيكولوجية تقولها النفسية المتحمسة . ولا تقولون لنا اننا في لا واقعية كاملة . فكل هذه الاستنارات الكينونية هي مُعاشة في روح ـ فكر الشاعر .
وفي خلفية كل هذا ، في الاسفل ، في الاسفل البعيد ، كان الروائي يغرف تماماً أن الطبيعة الإنسانية تحيك امكانيات اتحاد ـ زواجاً ربما ـ بين مينَا و (ولفريد) .
في البيت الزوجي تنطفيءُ الاحلام ، تخور القوي وتتبرجز الفضائل . وتظهر الأنيموس والأنيما في أغلب الاحيان من خلال " العدواة " . وهذا ما يعرفه يونغ ذاته عندما يحدثُنا ـ وكم هذا بعيد عن الأحاديث الخيميائية ـ عن سيكولوجية الحياة الزوجية المشتركة . " النفْس تستثير فورات مزاجية غير منطقية والنفَس يُنتجُ مواقف تثير الغضب " . لا منطقية وتفاهة ، ديالكتيك الحياة اليومية التعيس! لن نعد هنا ، كما يقول يونغ ، إلا أمام " شخصيات مجزأة " ، شخصيات لها " صفة رجل دوني وامرأة دونية " .
لم يكن بالزاك ليريد تقديم هكذا رواية ، رواية الطبائع الدونية ، للحبيبة ، لـ " مدام ايفلين دو هانسكا ، المولودة كونتيس رزيوسكا " كما يدل علي ذلك إهداء سيرافيتا .
في الحياة العادية ، إن التعيينات " أنيموس " و " أنيما " هي ربما سطحية والتعيينات المبسّطة مثل رجولية وأنوثية (بالمعني المبتذل للكلمة أي effemine ) تكفي بدون شك . ولكن إذا شئنا أن نفهم تأملات الكائن الذي يحب ، الذي يودّ أن يحب ، الذي يندم لأنه لم يُحب كما يجب ـ وبالزاك عرف هذه التأملات ـ فإنه يجب ذكر وتناول قوي وفضائل الأنيما والأنيموس في مثلنتها . فتبدأ التأملات الرباعية الاقطاب . ويمكن أن يسقط الحالم علي صورة محبوبته " نفْسه " الخاصة . وهذا ليس هنا فقط مجرد أنانية التخيل . فالحالم يريد أن يكون لنفْسه الُمسْقَطة نَفَسها الخاص الذي هو أكثر من مجرد انعكاس لنَفَسه الخاص . والمحلل النفساني في تحليله يبدو ماضوياً (Passeiste) . يجب أن يرافقَ النَفَس التي يُسْقطُها النَفَس ، نَفَس جدير بنَفَس رفيقها . إذن إن ما هو مُسْقَط هو مزدوج (Double) كامل ، مزدوج لا متناهي الطيبة (النَفْس أي العنصر المؤنث) وعالي الذكاء ( النَفَس أي العنصر المذكر ) . لا شيء في سيرورات المثلنة . ليس من خلال عملية أسرنا من قبل الذكريات ولكن دوماً من خلال حلمنا بقيم نحبُها ، تتطورُ تأملات المثلنة . وهكذا يحلم حالم كبير صورته طبق الأصل . وتضمن له صورته هذه الدم الكافي .
بالنسبة لنهاية الرواية الفلسفية سيرافيتا ، الكائن المخنث الذي يكثف المقادير الأخرية (1) للمؤنث وللمذكر يترك الأرض في " تصاعد " يشترك فيه كون محرر بكامله ، وتبقي الكائنات الأرضية ولفريد ومينَا منشّطة بفضل قدر مَثْلَنة إن الأمثولة الاولي للتأمل البلزاكي هي إدماج مثال حياة في الحياة نفسها . فالتأملات الشاردة التي تمثلن علاقات النَفَس والنَفْس هي إذن جزء لا يتجزأ من الحياة الحقيقية ، فالتأملات هي قوة فاعلة في قدر الكائنات التي تريد توحيد حياتها بواسطة حب يكُبر شيئاً فشيئاً . إن المثال هو في أساس انسجام وتناغم التعقيدات السيكولوجية . وهذه مواضيع لن تتصورها السيكولوجية الُمبدّدة ( أو المجزئة ) ـ تلك التي تجهد نفسها باحثة في كل كينونة عن نواة كينونة . ومع ذلك ، فإن الكتاب هو واقعة انسانية ، وكتاب كبير من أمثال (سيرافيتا) يجمع عناصر سيكولوجية عديدة . وهذه العناصر تصبح متماسكة بضرب من الجمال السيكولوجي . يتلقي القاريء من كل هذا إفادة جمة . فبالنسبة للذي يحب أن يحلم في شبكة الأنيموس والأنيما ، إن قراءة كتاب هو بمثابة اتساع للكينونة . وللذي يجب يضيع في غابة الأنيما ، قراءة كتاب هي تعميق للكينونة . ويبدو لحالم كهذا أن تحرير العالم يجب أن يتم علي يد الكائن المؤنث .
بعد قراءة مشبعة بالتأملات الشاردة لكتاب كتبه حالم كبير ، نندهش لقاريء لا يندهش أمام كتاب مدهش . وكم جحظ هيبولت تاين عينيه في عدم إمكانية رؤية أي شيء . ألم يقل بعد قراءته " لسيرافيتا " و " لويس لامبير " الذين يسميهما " ولديْ الفلسفة المشروعين أو الطبيعيين "(2) : " كثير من الناس يتعبون من قراءة سيرافيتا ولويس لامبير ويرفضونهما لما يحملان من الاحلام الفارغة ذات القراءة المرهقة ".
أمام حكم كهذا ، كيف لا تزداد قناعتنا بأنه يجب علينا قراءة كتاب كبير مرتين : مرة ، حاملين تفكير تاين ومرة ثانية حالمين ، ضمن جوقة حالمين ، مع الحالم الذي كتبه .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) المتعلقة باليوم الأخر .
(2) أولاد الزنا .
غاستون باشلار , شاعرية أحلام اليقظة : علم شاعرية التأملات الشاردة , ترجمة جورج سعد , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع , الطبعة الأولي 1991 , ص 78 : 80.
أعلى