محمود درويش - أنقذونا من هذا الحب القاسي

قد يبدو هذا الحديث نشازا في جو الانسجام البارز بين حركتنا الأدبية هنا وبين الكتٌاب الذين أولوها جل ما لديهم من إمكانيات ووسائل النشر والتعميم علي مساحة الأرض العربية الواسعة. لقد كان من حق حركتنا الأدبية، بما تمثله من صراع ناسها مع واقعهم الخشن، أن تفرح وتعتز بالمكانة الطيبة التي احتلتها في مسيرة الأدب العربي العامة، وكان من المقدر لهذا الاهتمام المشرف بشعرنا خاصة، أن يزود شعراءنا بقوة جديدة من دوافع السعي نحو الإبداع، وأن يحملهم مزيدا من المسئولية والاجتهاد الدائمين لتحقيق إنجازات أدبية أكبر، فإن المراقبة الإيجابية لأعمالهم، بهذا القدر من التقدير، لا تحتاج إلي كثير جهد للإشارة إلي الدور الذي بوسعهم تأديته في حركة الأدب العربية.
ولعلنا في غني، الآن، عن تسجيل مجموعة المدلولات الثمينة لما يشبه التهافت علي هذا الشعر في المجلات والصحف وأدوات الإعلام في العالم العربي، ولكننا لن نمل تكرار القول أن طرف الخيط في هذه المسألة هو الاندماج أو الالتحام التام بين الكاتب وواقعه. لم يكن أدبنا خارق الموهبة حين عرف كيف يختار مكانه في حركة الصراع. إن المواجهة الحادة واليومية كانت أعنف من أن تتيح لنا فرصة الوقوف طويلا أمام أبواب المدارس الفكرية المختلفة. ولعل هذه الخاصة، بما تفرع عنها من جوانب، هي اللافتة التي استوقفت المراقبين في العالم العربي فعندما كان قسم كبير من إخواننا الكتٌاب خلف حدود بلادنا يعطفون علي القضية الفلسطينية ويتضامنون مع ضحاياها كان القسم الأكبر من كتابنا يعيشها ويذوب فيها، وحين حلت نكبة حزيران وشاعت عدوي الإحساس بالمأساة ثم سقط طرفا حبل كان يلوح علي مساحة معينة من الفكر العربي هما: الطبل.. والتمارض العصري، ثم اقتحمت ضرورة مواجهة الحقيقة شجاعة كل مواطن، وصارت المجابهة والصراع قدرا، وانهارت قيم سياسية وأخلاقية كثيرة. عندها ارتدي الاهتمام بما يكتب لدينا من شعر وقصة طابعا جديدا يمتاز بأكثر من حب، أضفي علي الكثيرين من النقاد والكتاب ميزات العاشق القديم الذي لا يري في الحبيبة إلا ما يبرر العبادة. وقد نتجت عن ذلك أشكال من سوء التفاهم تحرضنا علي هذا الحديث الذي قد يبدو نشازا في جو الحب العميق. ولكن لا يجوز لنا ونحن نقف في دائرة هذا الاهتمام، الاستمرار في تلقي مظاهر كل هذا الحب دون أن نقول: شكرا، أولا.. وأن نعترف بصراحة العاشق المصري، بأننا لسنا أهلا للتقديس في زمان لا يجوز فيه التقديس كما لا يجوز فيه اليقين المطلق.
إن أخطر ظاهرة تستوقفنا في هذا السياق، هي أن وتيرة الحب قد أوصلت بعض المراقبين الأدبيين في العالم العربي إلي محاولة وضع شعرائنا ليس في مكان أوسع منهم فقط، وإنما إلي محاولة وضعهم علي امتداد مساحة الشعر العربي المعاصر بحيث يغطونها كلها. إن ما في هذه المحاولة من خطورة يتعدي حدود المبالغة الفنية والتنكر، غير المسئول للواقع إلي الاعتداء علي حركة تاريخ. ولا يغفر لهذا الموقف كونه ناشئا عن نية طيبة وحماس حقيقي، وعطف عميق علي ظروف الحركة الشعرية في بلادنا، ولعل جذور الخطأ الذي أوصل إلي مثل هذا التطرف في معاملة شعرنا هي إسقاط انتماء هذا الشعر، إلي حركة الشعر العربي العامة في ماضيها وحاضرها، وتسليم أصحاب المبالغة والتطرف بالاعتقاد أن هذا الشعر بمثابة صاعقة انفجرت فجأة. ان شعرنا غير منقطع أبدا عن حركة الشعر في البلاد العربية، وإن كان غير مواكب لها مواكبة يومية.. وشعرنا ليس ندا أو بديلا للشعر العربي المعاصر.. إنه جزء غير متجزئ منه ورافدا من روافد النهر الكبير. لقد تربينا علي أيدي الشعراء العرب القدامي والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث بعدما تعرفنا علي رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا. ونحن لا يمكن إلا أن نعتبر أنفسنا تلامذة لأولئك الشعراء.
ولا يصعب علي الناقد، حتي الآن العثور علي بصمات هؤلاء الشعراء علي أكثرية إنتاجنا، ولكن المسألة كما نراها، ليست صعوبة الرؤية لدي الناقد، وإنما هي أن الناقد لايزال مشغولا بالفرح الذي يملأه نتيجة اكتشافه هذا الشعر دفعة واحدة، ولايزال العطف علي الشباب الذين يكتبون هذا الشعر، في ظروفهم السياسية الخاصة، هو المعيار الأول في عملية نقد شعرنا. وقد يكون لهذا الدافع ما يبرره في فترة ما، ولكن امتداد هذه الفترة محاطا بالمحاذير التي تخلق نتائج ضارة قد تتطور إلي ما يشبه الخداع.. خداع القراء العرب، وخداع شعرائنا أنفسهم الذين يواجه بعضهم خطر الإحساس بالكمال. لذلك، فإن الضرورة تلح علي وضع حركة الشعر في بلادنا في مكانها الصحيح. والضرورة تلح، بادئ ذي بدء علي معاملة هذا الشعر علي أنه شعر، بالتخفيف من تسليط الضوء علي شخصيات الشباب الذين يكتبونه. ولا نعني بذلك إسقاط الرابطة بين النماذج الشعرية وبين الظروف التي فرزتها أو التي جرت فيها عملية خلق هذه النماذج، وإنما نعني أنه آن الأوان لإجراء عملية موازنة، بالتأكيد علي استخدام المعايير الفنية لا السياسية وحدها. فإن الموضوع المطروح علي بساط البحث، في آخر المطاف، هو الشعر لا الإخلاص، ولا النوايا الطيبة. ثم، ان الزاوية السياسية في هذا المجال تفتقر إلي ضرورة التأكيد علي أن هذا الشعر الثوري لا يعبر عن ثورية أصحابه معزولين عن حركة جماهيرية يعبرون عن صراعها. أي أن هؤلاء الشعراء ليسوا مجموعة من أشجار النخيل النابتة في صحراء قاحلة. إن كونهم شعراء يملكون أصواتا مسموعة لا ينبغي أن يخلق الانطباع بوحدانيتهم وبانقطاع انتمائهم إلي جماهير تملك ماضيا وحاضرا ثوريين. إنهم أبناء هذه الجماهير وهي التي ربتهم وأعطتهم الجذور.
ومن حقنا أن نري أن دورة الالتباس، فيما يتعلق بمكانة حركتنا الشعرية من حركة الشعر العربي العامة، تبدأ من انشغال المواطن العربي، بكل حواسه، بالقضية الفلسطينية، وبالنزاع الإسرائيلي العربي. فقد كان من نتائج حرب حزيران أن مشاغل المواطن العربي كلها، باستثناء ما يتعلق بمعركة تحرير الأرض، قد وضعت في الظل وفي مرتبة دنيا من الاهتمام. وقد انعكس ذلك علي معاملة المواطن للأدب أيضا، ولأن شعرنا صادر من لحم القضية الفلسطينية، فقد حظي بالقدر الأكبر من الاهتمام، ودفع حتي بعض الكتٌاب والنقاد إلي إجراء عملية مفاضلة بينه وبين مجموع الشعر العربي المعاصر، إن الخطأ يكمن في مجرد إجراء عملية المفاضلة، فليس من الضروري ولا ينبغي أن تكون القضية الفلسطينية، منذ نشأتها حتي حزيران، هي المحور الأوحد الذي يدور حوله كل الأدب العربي المعاصر. وإلا، فإننا نصاب بأقصي أشكال ضيق النظر، ونعتبر أن كل التطورات السياسية والاجتماعية في العالم العربي منذ ما يزيد علي عشرين سنة، غير جديرة بتعامل الأديب معها، أو نعتبرها ضربا من ضروب الكماليات لمجرد عدم التصاقها المباشر بقضية فلسطين. لعلنا لا نختلف علي اعتبار هذا الموقف تنكرا لمسيرة التاريخ العربي. ومن هنا لا يمكن تقييم أعمال الشعراء العرب بميزان مدي تفاعلهم مع قضية فلسطين، كما أن أحدا لم يجر مثل هذه المحاسبة مع الشعراء العرب في مدي إشادتهم بالثورة الجزائرية مثلا أو التحولات الاجتماعية العميقة في الجمهورية العربية المتحدة وغيرها. وإذا لم يكن مفر من إجراء عملية المفاضلة أو المقارنة وذلك أصح فلا يجوز ذلك إلا إذا حصرنا الأمر في إطار الشعر المتعلق بالقضية الفلسطينية. وهنا نعثر علي الحلقة المفقودة في سلسلة المناقشات. عندها، قد يكون من الجائز إلي حد ما القول إن الشعر العربي الذي يكتب في إسرائيل، بشكل عام أقرب إلي صدق التجربة والأصالة من غيره في تصويره صراع الإنسان الفلسطيني. وكلمة ‘الصدق‘ لا غيرها هي الجديرة بتركيز الانتباه حولها في سياق المقارنة التي تمتد إلي ميزات أخري لهذا الشعر يفتقر إليها شعر القضية الفلسطينية الآخر. وإلحاحنا علي عنصر ‘الصدق‘ هنا جاء ليعبر عن تحفظ فني، فالصدق كما نعرف ينتمي إلي مجموعة الصفات الخلقية الحميدة، لكنه وإن كان شرطا من شروط الأدب الإنساني، ليس ضمانا لنجاح العملية الفنية، ولا يمكن أن يكون وحده، معيارا للنقد الأدبي. وإذا كان من الجائز تسجيل ملاحظة هامشية في مجري حديثنا عن ميزة الصدق في حركتنا الشعرية، فإننا لا نظلم أحدا إذا لاحظنا أن المبالغة في تقدير شعرنا قد أدت إلي أن يقوم بعض شعرائنا الناشئين بعملية تصميم قصائدهم وفقا لمقاييس غريبة عن الصدق، وكأنهم يستوحون قصائدهم من تصورهم لكيفية استقبال تلك الإذاعة لها!
وملخص القول إنه آن الأوان لأن توضع حركتنا الشعرية في مكانها الصحيح، بصفتها جزءا صغيرا من حركة الشعر العربي المعاصر عامة، وذلك يستدعي تخلص الناقد العربي من الخضوع التام لدوافع العطف السياسي، وحدها، علي أصحاب هذه الحركة، فلا يكفي هذا الشعر أن يكتب في إسرائيل. إن وضع الحركة في مكانها الصحيح هو خير طريقة لنموها وتطورها لارتياد آفاق أوسع، خاصة إذا تذكرنا دائما أنها مازالت في المراحل الأولي من الطريق الطويل.
تبقي جوانب أخري معاكسة للمبالغة في التقدير، وأمور أخري تتعلق ببعض التفاصيل قد نتناولها في مرة قادمة.



محمود درويش


* نشر المقال في مجلة ‘الطليعة‘ عام .1968)
أعلى