لقاء موسى الساعدي - إبن رشد وشرح كتاب فن الشعر لأرسطو بين سوء الترجمة ومحاولات التبرير دراسة وصفية وتحليلية

المقدمة
يمتلك الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد بن رشد المعروف بابن رشد الحفيد، (المولود بقرطبة سنة 1126م, والمتوفى 1198م في مراكش) أهمية كبيرة في التاريخ الثقافي والمعرفي في العالم، فقد تجاوزت شهرته الأندلس ليصبح بوابة المعرفة والتنوير العالمي ولاسيما في أوربا، فقد تنوعت مجالات إشتغالاته الفكرية بين الفقه والعلوم الدينية، والفلسفة، والطب، والفلك، والفيزياء"1". يعرف في أوربا باسم الفيلسوف (أفيرويس)، أثارت طروحاته الفلسفية والنقدية عاصفة من التحولات الفكرية المؤثرة في أوربا، إستفاد منه أباء التنوير الفلسفي واللاهوتي المسيحي.
وتأتي شهرة إبن رشد العالمية من إشتغاله في التوفيق بين الفكر الديني والفلسفة ومحاولاته التوفيق بين الفلسفة والنصوص الدينية، واشاع التفكير النقدي مقدما الفلسفة على النصوح حين يكون هنالك تعارض بينهما. كما ان علاقته بارسطوطاليس وشروحاته لمؤلفات أرسطو المختلفة كانت سبباً لشهرته ايضاً، فإذا علمنا أن حركة الترجمة كانت نشطة في البلاط العباسي في بغداد، وأن العديد من مؤلفات أرسطو تم ترجمتها إلى العربية من السريانية أو من اليونانية القديمة، حيث تم ترجمة أغلب تلك المؤلفات في بيت الحكمة على يد حنين ابن أسحق العبادي، ومتى بن يوسف القنائي، وإبن المقفع، وثابت بن قرة الحرافي..الخ. بينما إندثرت الأصول الأولى لمؤلفات أرسطو بلغنها الأولى ولم يعد لها وجود لاسيما في القرون الوسطى حين عدت الكنيسة تراث الوثنيين من المحرمات التي يجب التخلص منها وأنشبت أظفارها في كل فكر فلسفي يتعارض مع تعاليمها وقيمها التي كانت تخشى عليها من علماء الفلسفة وأفكارهم التنويرية الداعية لإعمال العقل في كل شيء حتى الإيمان. وهذا يتطابق مع فكر إبن رشد القائم على التوفيق بين العقل والنقل الأمر الذي فصل فيه في كتابه ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من إتصال) .
من هنا كانت شروحات إبن رشد لمؤلفات أرسطو البوابة التي سمحت لأنوار الفلسفة الأرسطية بالنفاذ الى عقول المهتمين والدارسين لحقل الفلسفة، ومهد لما يعرف بمذهب الفكر الحر، الذي قدم فيه ابن رشد منظوراً شمولياً وانسانياً لمفهوم المدينة الفاضلة او الدولة العادلة. (( فقد كانت ترجمات كتب أرسطو وشروحها وتلخيصاتها العربية، الجسر الذي يمكن أن يعبر عليه الأثر الأرسطي، فظهر في الطابع المنطقي والفلسفي، الذي إنطبعت به المؤلفات النقدية عبر العصور))"2".
ومن الجدير بالذكر أن النهج العقلاني الفلسفي الذي إنتهجه إبن رشد كان سبباً في عداء رجال الدين المسلمين والفقهاء فهو صاحب كتاب (تهافت التهافت) الذي رد فيه على كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي.بينما ظل أصحاب الفكر الديني التقليدي يبحثون عن أخطائه حتى تمكنوا من إقناع الخليفة الموحدي أبو يعقوب بحرق كتبه الفلسفية كلها، كما كان رجال الدين المسيحيين ايضا قد كالوا لمؤلفات ابن رشد نفس العداء ولنفس السبب ومنهم توما الأكويني الذي كتب رسائل في الرد على ابن رشد وتجريم قراءة كتبه. لكن ظل أثر إبن رشد قوياً ومؤثراً وزالت الكراهية التي أوجدها الكارهون للعقل والمنطق والفكر الإبتكاري الحر.
(( وضع إبن رشد لمؤلفات أرسطو ثلاثة أنواع من الشروح يختلف أحدهما عن الأخر في السعة، فوضع شروحاً مطولة لكتاب التحليلات الثانية (كتاب البرهان)، ولكتاب السماع الطبيعي والسماء والعلم والنفس وما وراء الطبيعة، ووضع شروحا متوسطة لهذه الكتب التي ذكرناها وأضاف إليها شروحاً (الارغانون او المنطق) ومعه كتاب ابساغوجي وشروحاً لكتاب الكون والفساد والأثار العلوية والأخلاق إلى نيقوماخوس، وله شروح وتلخيصات مختصرة لهذه كلها عدا كتاب الأخلاق وكتاب الطبيعيات الصغرى))"3".

لكن إبن رشد ورغم هذه المكانة الكبيرة التي يمتلكها والتأثير المهم في الثقافة العالمية إلا انه أخفق في شرحه لكتاب فن الشعر لأرسطو، كما أكد الدارسون لشرحه، بينما حاول أخرون نفي إخفاق إبن رشد في شرحه لكتاب أرسطو وقدموا تفسيرات أخرى. لذا تسعى هذه الورقة النقدية إلى دراسة الأسباب التي أوقعت إبن رشد في هذا الخطأ، كما سنستعرض بعض الدراسات التي نفت الخطأ عن ابن رشد، ووضعت أسباباً أخرى سوف يتم شرحها وتوضيحها، في فصول هذه الدراسة. أما المنهج الذي سوف أعتمده فهو المنهج التحليلي الوصفي المعتمد في الدراسات الادبية والذي يعتمد على تحليل النتائج وتفسيرها ومقارنتها ببعضها، من خلال الوصف بطريقة علمية، للوصول الى تفسيرات منطقية وبراهين تمكن الباحث من القدرة على وضع أطر محددة للمشكلة. وينطلق من النص من أجل تفسير النص ذاته بطريقة موضوعية "4"،(0اي ان كتاب فن الشعر لأرسطو سيكون المعين الأول في هذه الدراسة).
تقسم الدراسة الى: تمهيد وفصلين.
يتضمن التمهيد عرضاً لأهمية كتاب فن الشعر لأرسطو في الثقافة والفكر العالمي. أما الفصل الأول فسيتناول تحليلاً مفصلاً لعناصر كتاب فن الشعر كما هو عند أرسطو ليتسنى لنا المقارنة في الفصل الثاني مع شرح إبن رشد وكيف إختلف التفسير والفهم عنده وكيف حرفت المصطلحات عن مفاهيمها الأساسية في أصل وضعها في الثقافة اليونانية مع تحليل أبرز الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة . مع خاتمة بالنتائج التي توصلنا إليها .

التمهيد
أهمية كتاب فن الشعر ودوره في الثقافة العربية

لكتاب فن الشعر أهمية خاصة في تاريخ النقد الأدبي فهو من أقدم وثائق النقد الأدبي التي كتبت خاصة بالموضوع و لم يأت فيها النقد هامشياً كما في كتب أفلاطون التي جاء فيها نقد الشعر او الأدب عرضاً كما في كتاب الجمهورية و القانون .
وكتاب أرسطو في الشعر يمثل محاضرات كان يلقيها على طلابه، وتنتمي إلى ذلك الصنف من مؤلفاته التي تسمى (المؤلفات المستورة) التي لم يتم نشرها على الناس بل كانت محاضرات يلقيها على طلابه. و من خصائص هذا النوع (الإيجاز وعدم الاحكام في التأليف و الغموض لأن ارسطو كان يتخذ مذكرات للدرس يتكفل هو بشرحها أثناء الالقاء و المحاضرة، فلم يقصد تأليفها قصدا و من هنا التفكيك و الغموض و الاستطراد و الاضطراب. و الكتاب لاشك يرجع الى دور النضج في حياة أرسطو و كان تأليفه قبل كتاب الخطابة و بعد كتاب السياسة أي انه ألفه أثناء أقامته في أثينا بين سنة 335 وسنة 332 ق.م "5" .
أن أول نشرة للنص اليوناني لكتاب (فن الشعر) لأرسطو هي (تلك التي ظهرت عند الناشر ألدى في البندقية سنة 1508 ويقال أن لاسكاريس أشرف عليها وقد قامت هذه النشرة على أساس مخطوط في بارس لم يحدد الناشر ما هو فكانت هذه النشرة الأساس الأولى لما تلاها من نشرات)"6".
و في عام 1831 ظهرت أول نشرة نقدية حاسمة و هي نشرة بكر برعاية أكاديمية برلين أعتبرت نشرة مميزة وان لم تخلو من أخطاء. ثم جاء دايفد صموييل مرجوليوث المستشرق الانجليزي المشهور (فأدخل في ميدان النقد الفيلولوجي لكتاب (فن الشعر) لأرسطو عاملا خطيراً جديداً هو الترجمة العربية القديمة التي قام بها أبو بشر متى بن يونس القنائي المتوفى في 11 رمضان سنة 328هـ , 22 يونيو 940 م.

ثم نشر مرجوليوث في لندن سنة 1878 ترجمة متى بن يونس العربية وأضاف اليها قسم الشعر من كتاب الشفاء لأبن سينا و الفقرة الصغيرة الواردة عن الشعر في عيون الحكمة لأبن سينا ايضا بشرح فخر الدين الرازي ثم شذرة بالسريانية في تعريف المأساة في فن الشعر لأبن العمري في كتاب زبدة الحكمة باللغة السيريانة أي أن الترجمة العربية القديمة لأنها تقوم على أساس ترجمة سريانية تعتمد هي الاخرى على مخطوط يوناني أقدم من مخطوط باريس)"7"
تكمن مشكلة العرب مع كتاب فن الشعر في أنهم لم يفهموا لفظة المأساة فقد ترجموها بالرثاء و لا لفظة الملهاة فقد ترجموها بالهجاء كما يؤكد عبد الرحمن بدوي في ترجمته وشرحه للكتاب، فالعرب لم يعرفوا هذه الفنون ولم يكن لها تمثيل في بيئتهم المحيطة، لذا كانت شروح الفلاسفة محاولة للتقرب من روح الكتاب وأحيانا إسقاط أفكار هؤلاء الفلاسفة على الكتاب كما حدث مع إبن رشد بشكل واضح.
ولأن مدار الكتاب كان عن الملاحم والتراجيديا، فقد عده الفلاسفة المسلميين جزءاً من المنطق، اذ عدوه صناعة ترمي الى تسليم السامع بما يقول القائل، فهو لاحق بالجدل والخطابة مايدل على بعد مابين كتاب الشعر فيما قصد اليه أرسو وما فهمه العرب من جهة اخرى."8"
لذلك اعتقد الكثير من الدارسين ان كتاب فن الشعر لأرسطو لم يكن له أثر يذكر في النظرية النقدية والبلاغية في الثقافة العربية، بينما أشار أخرون الى غير ذلك ومن هذه الدراسات، دراسة معمقة قام بها الدكتور شكري عياد ونال عنها درجة الدكتوراه، بعنوان كتاب أرسطو في الشعر، اذ قام الدكتور عياد بتحقيق الكتاب بترجمة متى بن يونس القنائي، وقدم ترجمة حديثة مع دراسة لتأثيره في البلاغة العربية والنقد العربي. وقد اثبت الدكتور عياد في تضاعيف كتابه ان النقد العربي حتى القرن الثالث كان نقداً جزئياً ذوقياً، ثم تطور نحو التعميم والتأصيل وبناء القواعد، ويعزو الدكتور عياد هذه التطورات الى تأثير الثقافة اليونانية التي شاعت بالترجمة والتلخيص ومنها كتاب الشعر لأرسطو ذاته.
فالجاحظ يتأثر بالمنطق في نظره الى البيان على انه نوع من الدلالة، وابن المعتز في كتابه (البديع) يحاول اول محاولة نحو التعميم، وقدامة في كتاب (نقد الشعر) تأثر بالفكر اليوناني تأثراً قوياً، حتى انهم تجاوزوا طروحات الامدي والجرجاني وقضايا السرقات الادبية.
كما أن عبد القاهر الجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) و ( دلائل الاعجاز) تحدث عن نظرية النظم والربط بين مفردات الجملة وهي فكرة تقترب من فكرة الوحدة التي تحدث عنها أرسطو في كتابه، عند حديثه عن التراجيديا. كما ان الدكتور عياد ناقش المسائل النقدية التي اهتم بها النقاد فلاحظ أن معالجات النقاد ذات صلة بكتاب أرسطو وبالمنطق اليوناني والفلسفة اليونانية بصفة عامة."9"
ومن هنا تاتي أهمية دراسة الدكتور شكري عياد التي ألقت الضوء على التطور الحاصل في الفكر البلاغي والنقدي العربي بتأثير الفكر والمنطق الأرسطي، بما يعزز مكانة الثقافة العربية كأفق إنساني متفتح إستوعب إنجازات الثقافة الانسانية وأضاف إليها مساهمات طورتها إلى الحد الذي جعل منها منطلقاً للحضارة الإنسانية الحديثة.

الفصل الاول
منهجية كتاب فن الشعر وملخص لأهم الافكار الواردة فيه*

في هذا الفصل سنحاول إستعراض الأفكار التي قدمها أرسطو في كتابه فن الشعر، كما هي دون تدخل الفلاسفة الشراح العرب ومنهم إبن رشد. ليتسنى لنا مقارنة الأفكار الأصلية لأرسطو مع التغيرات التي أجريت عليها في شرح إبن رشد الذي سيتوضح في الفصل الثاني.
ينقسم كتاب الشعر لأرسطو الى قسمين كبيرين : الأول يتحدث عن الشعر عامة عن مسائل تخص الشعر و الثاني: يتحدث عن خصاص الأنواع الرئيسية من الشعر وهي المأساة و الملحمة، أما الملهاة فلم يشملها كتاب أرسطو على إعتبار أن الكتاب ناقص بين أيدينا.
القسم الأول :
يعرف أرسطو الشعر بأنه محاكاة وهذه المحاكاة تتم بوسائل ثلاث قد تتجمع و قد تنفرد هي : الإيقاع و الإنسجام و اللغة و تفترق الأنواع الشعرية وفقاً لخصائص: الخاصية الأولى هي الأختلاف في الوسيلة : فالمأساة و الملهاة والنوموسي و الدينرومبو تستعمل هذه الوسائل الثلاث كلها وقت القيثار, و الناي يستعمل وسيليث فحسب هما الأيقاع و الإنسجام و الملحمة. أما الحوار السقراطي و الإيجيا و الاياتبو تستعمل وسيلة واحدة هي اللغة : أما مع الوزن أو بغير الوزن.
و الخاصية الثانية : هي أهم من الأولى و هي المضمون و المضمون المشترك و المحاكي في الشعر هي الأفعال الإنسانية. ولما كان الناس ينقسمون من حيث الإختلاف أفاضل، و أراذل، أشرار، و أخيار، فأن من الأنواع الشعرية ما يحاكي الأعمال الفاضلة و منها ما يحاكي الأعمال الرذيلة و الأنواع الأولى هي الملحمة و المأساة و الأنواع الثانية هي التي تحاكي الأعمال الرذيلة و المضحكة هي الاباتبو و الفارويا و الملهاة (الكوميديا).
* اعتمدت في تلخيص افكار ارسطو في هذا الكتاب على ترجمة عبد الرحمن بدوي لكتاب فن الشعر.
وخاصية ثالثة تميز بين الأنواع الشعرية هي طريقة المحاكاة:
و فرق أرسطو بين الشعر و النثر على أساس المضمون وليس على أساس النظم اذ يرى أن النثر يتحدث عن ما حدث فعلا وما هو فردي بينما يتحدث الشعر عن الحقائق الكلية وما هو
ممكن الحدوث فيقول : (ان عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة فان المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور، فقد تصاغ أقوال هيروجوتس في أوزان فتظل تاريخاً سواء وزنت أم لم توزن بل هما يختلفان بان أحدهما يروي ما وقع على حين أن الأخر يروي ما يجوز وقوعه، ومن هنا كان الشعر أقرب الى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ لأن الشعر أميل الى قوة الكليات على حين التاريخ أميل الى قوة الجزئيات)"10".
يوضح الناقد الفرنسي غويو ما يريده أرسطو قائلا: ( لئن كان العالم يكتب تاريخ الكون منفصلاً دقيقاً، فان الشاعر يكتب أسطورة هذا العالم، والأسطورة وثيقة من وثائق التاريخ، وكثيراً ما تكون أصدق من التاريخ، او كما يقول أرسطو أكثر فلسفية من التاريخ)."11"
فأحيانا يتحدث الشاعر بضمير المتكلم (الملحمة الشائعة و الهجاء) أو يدع الأشخاص يتحدثون (المأساة، الملهاة) أو يستعمل كلتا الطرقتين على التبادل كما يفعل هوميوس.
ثم يبحث أرسطو في الميل الى الشعر في الأنسان بوصفه غريزة في فطرة الأنسان فيقول أن أصله الميل الى المحاكاة و التقليد وهو ميل مركوز في طبيعة البشر و يرجع بدوره إلى حسب الإستطلاع و الرغبة في المعرفة و الميل الى الإيقاع و الإنسجام، وعن هذه الميول الفطرية الأولية تولد في بادئ الأمر الشعر الإرتجالي وقد أنقسم وفقاً لطبائع الشعراء إلى شعرالهجاء من ناحية و شعر المديح و الثناء من ناحية أخرى.
وكما أن شعر الهجاء تطور فأفضى إلى الكوميديا و شعر المديح و الثناء تطور فأفضى إلى المأساة و الملهاة، و المأساة أعلى مراحل تطور الشعر.



القسم الثاني :
ويبدأ القسم الثاني بتقديم تعريف للمأساة و تتضح من خلال البحث في أجزائها و عناصرها و هذه العناصر هي بحسب الترتيب المنطقي : الحكاية أو الأسطورة و الأشخاص و الفكرة و المقولة (اللغة) و الموسيقى و المنظر المسرحي و العنصران الأخيران وأن كان لها أثر كبير
في المشاهدين للتمثيل فأنها من حيث الصناعة الفنية للمأساة عنصران ثانويان أذ يرى أرسطو أن قيمة المسرحية يجب أن تظل قائمة حتى لو لم تمثل.
و أهم عناصر المأساة هي الحكاية أو الأسطورة أو الخرافة و بهذا نجاحها بالنصيب الأوفر من البحث فيشترط في كتابه أن تتوفر فيها الوحدة و الإحكام و لهذا يشبه المسرحية بكائن عضوي منتظم الأجزاء يدركه العقل في وحدته و الأ فقدت صفة الجمال لأن الجمال يقوم على الوحدة و الإنسجام المتكامل المنتظم ولكن للمأساة غاية واضحة هي تطهير النفس من الإنفعالات العنيفة اذ المحاكاة في المأساة ترمي إلى إثارة الرحمة و الخوف وبهذه الإثارة تخلص النفس من أثارة الإنفعالات السيئة. و لتحقيق هذه الغاية لابد من توافر عوامل خاصة أهمها المفاجأة و التقابل و لهذا يجب في المأساة أن تشمل على التحويل أو الأدارة كما في ترجمة متى و التعرف و الكوارث وإذا خلت الحكاية من هذه العناصر الثلاثة: التحول و التعرف و الكوارث فأنها تأتي ضعيفة تافهة.
و يبحث أرسطو في هذا القسم أيضا في الشروط التي يجب توافرها في الأفعال المحاكاة في المسرحية حتى تؤدي إلى تحقيق التطهير و هنا يقدم القواعد التي يرى توافرها في المأساة مستنداً في تحليله إلى نموذج (اورينوس ملكا) لسوفكلس و قد رأى فيها أرسطو خير نموذج للمأساة ويحدد طبيعة البطل في المأسي و خصائص الكوارث التي تجرى له و بهذا يبحث في الخرافة و يتلوه بالبحث في الاشخاص فيقرر أن الأشخاص الرئيسيين في المأساة يجب أن يكونوا أخيار ملائمين للموضوع محكمين في السلوك ويتناول في هذا الفعل أيضا أوجه التشابه و الإختلاف بين الملحمة و المأساة بعد أن كان قد أشار الى هذا الموضوع إشارة موجزه فقد حصرها في ثلاثة أوجه هي :
1- كلتاهما تقتضي وحدة الفعل
2- لها نفس الأوصاف من حيث البساطة
3- فيهما نفس العناصر الأدبية مثل الخرافة و اللغة و الفكر
أما أوجه الخلاف فهي:
1- الطول
2- الوزن
3- في الإسلوب فهو إقتصاصي في الملحمة تمثيلي في المأساة
4- في قابلية الأمور المعقولة
وفي هذا الفصل أيضا أو في هذا القسم تناول أرسطو القواعد الرئيسية للنقد الأدبي و يعد أول محاولة في هذا الباب في تاريخ الأداب العالمية كما نعرفها حتى الأن وفيه يدفع في صدور النقاد المدعين ويدافع عن الشعراء الذين هاجمهم هؤلاء، و هذا الفصل فيه درس للنقاد ياليتهم رجعوا إليه حتى يتحلو بالإنصاف و كم لأرسطو في الدفاع عن الشعراء ضد النقاد من موقف حياد فقد دافع عن هوميروس دفاعاً مجيداً في بحث خاص. و يختم الجزء الباقي بالفصل السادس و العشرين و فيه يتطرف أرسطو إلى البحث في مسألة طالما شغلت النقاد في العصر القديم و هي مسألة الموازنة بين الملحمة و المأساة من حيث التفضيل .
فهنا يستعرض أرسطو النقاط الرئسية في البحث فيبين الأسباب التي من أجلها يميل معظم النقاد في عصره إلى الملحمة و إعتبارها أسمى من المأساة، و ينتهي من هذا الى إيراد أربعة أسباب تؤدي القول بسمو المأساة على الملحمة.

المحاكاة
تعد أراء أفلاطون من أقدم الأراء التي قيلت في المحاكاة فقد فسر المحاكاة انطلاقا من نظرية الشهيرة في المثل. توسع أفلاطون في مفهومة للمحاكاة فهو يفسر بها حقائق الوجودات هي تحاكي بدورها قيم و مظاهر خارج الكون في العالم الأثيري فقيم الحق و الخير و الجمال هي محاكاة للقيم في ذلك العالم. لذلك فسرت محاكاة أفلاطون بأنها محاكاة حرفية للوجود و صورة طبق الأصل منه بلا زيادة أو نقصان فالفنان الذي يحاكي الطبيعة يبتعد عن الحقيقة مرتين لذلك طرد أفلاطون الشعراء من جمهور لأنه إعتبر أعمالهم مصور الأبايطل و الأوهام.
أما تلميذه أرسطو فقد فهم المحاكاة على نحو أخر فقد كان يؤمن بأن الفن محاكاة للطبيعة غير أنه لم يقصد بالطبيعة طبيعة الكون الظاهر بل قصد بها القوة الخلافة في الوجود. فالمحاكاة ليست للطبيعة بل هي قوة المغيرة التي تتناول مظاهر الوجود بالتبديل و التنقيح او التفسير.
وقد رأى أرسطو ان المحاكاة هي الحركة وليس الجمود و المحاكاة فهم الإنسان من الداخل وليس من الخارج و جعل أرسطو المحاكاة للأشياء المحسوسة من الخارج بل للشخصيات و الإنفعالات و الأفعال بمعنى أن المحاكاة في الفن لا تكون عنده محاكاة للعالم المحسوس بل تكون محاكاة لعالم الحياة العقلية و الشعورية و الفكرية داخل الانسان.
وتتخذ المحاكاة عند أرسطو احدى صورتين فهي أما محاكاة الملحمية أو محاكاة بالتمثيل أي المسرحية فالمسرحية تحاكي الفعل بالفعل نفسه أما الملحمة فتحاكي الفعل بالرواية عنه وقد قسم أرسطو حديثه عن المحاكاة الى ثلاث أقسام:
1- قسم يتحدث عن وسيلة المحاكاة.
2- قسم يتحدث عن الأشياء يجيء الشعر ليحاكيها.
3- قسم يتحدث عن الطريقة أو الإسلوب الذي يحاكي عناصرها الوزن أو الإيقاع بشكل عام أو اللفظ و النغم.
الملحمة و المأساة
تحدث أرسطو في كتابة فن الشعر عن أنواع الشعر فوصل إلينا الحديث عن المأساة و الملحمة أما حديثه عن الملحمة لم يصل إلينا لان الكتاب ناقص بين أيدينا.
يقول أرسطو :(المأساة محاكاة لعمل هام ذي طول معين بأسلوب درامي لا قصصي و حوادثها تثير الشفقة و الخوف و للمأساة اجزاء منها ما يتعلق بأثارة هاتين العاطفتين).
و للمأساة أجزاء منها ما يتعلق بفن التمثيل و و الممثلين وهي ثلاث :
1- المنظر المسرحي.
2- الموسيقى و الإنشاد.
3- الإلقاء او المقولة.
أما الأجزاء الأكثر أهمية في ثلاث أيضا وهي:
1- الحكاية او الخرافة التي تحتوي عليها المأساة وهي تستدعي تركيب أفعال أنسانية.
2- الخلق وهو ما يجعلنا نقول عن الأشخاص الذي نراهم يفعلون أنهم يتصفون بكذا من الصفات.
3- الفكر و هو كل ما يقوله الأشخاص لأثبات شيء أو للتصريح بما يقررون.
وهذه الأجزاء الثلاثة الأولى تتعلق بالممثلين الذين يتقنون وسائل المحاكاة و طريقتها."12"
ويجب أن تتوفر لكل مأساة بعض الشروط
1- لكل مأساة فاتحة و خاتمة.
2- لكل مأساة طول كاف يسمح للخط فيه أن تتلاعب ببطل الرواية فيمر به في سلسلة من المراحل الممكنة او المحتملة و ينقله من سعادة الى شقاء أو من شقاء إلى سعادة.
3- الغاية من المأساة أن تحاكي العمل التام و يجب أن تثير حوادث المأساة الشفقة أو الخوف على أن ينطوي العمل المأساوي على عنصر المفاجأة و تبدو كأنها مصادفة محضة او حادثة من تلقاء نفسها.
4- العقدة على أن تكون العقدة بسيطة أو متسلسلة متطورة و يجب تجنب العقد التي تؤدي بالشخصيات الخيرة التي تحولها من اليسر الى العسر لأن ذلك لا يثير الشفقة و الخوف كما أن تحويل الشخص الشرير من الشقاء إلى السعادة لا يصلح للمأساة لانه لا يثير الشفقة او الخوف.
5- الشخصية يفرض أرسطو في الشخصية في المأساة بعض الشروط منها أن تكون خيرة ومنها أن يجعل الشاعر عناصرها مناسبة بصاحبها فالشجاعة و العنف مثلا مناسبة للرجال بينما لا تتناسب النساء. ومن المهم مناسبة الشخصية للواقع و أن يكون ما يعلمه او يقوله البطل في المأساة ضروريا للعمل و اذا يجب حذف كل ما هو غير ضروري من الحوار او الحركة.
ويشترط في المأساة ان يتوفر لها وحدة عضوية فتشمل المأساة على فعل تام له بداية و وسط فنهاية كما ذكرنا سابقاً و يكون كل جزء يؤدي الى ما يليه حتى الخاتمة التي تأتي منطقية لما سبقها و تقتضي الوحدة العضوية للمسرحية ان تكون المأساة خالية من الاحداث العارضة التي لا تمت الى الفعل في المأساة بسبب و ينتج من أحكام هذه الوحدة أن خواتيم الحكايات تستنتج من الحكايات نفسها. و يفترض أن تكون للمأساة طول معلوم ولكنه ليس معين لكن بحيث تستطيع الذاكرة وعيه بسهولة ."13"
أما الملحمة فهي الفن الشعري الذي يكون قصصاً فحسب او محاكاة بلغة منظورة غير مصحوبة بالتمثيل. و الملحمة كالمأساة تتكون من فاتحة و وسط و خاتمة وليس كاتب الملحمة حراً في كتابه كل ما يحيط بالشخصية ولكن الاختيار ضروري لأعطاء المأساة وحدة الموضوع الذي يؤدي الى النتيجة المؤثرة وليس عمل كاتب الملحمة مثل عمل المؤرخ فهوميروس في الالياذة قد اختار جزءاً من الحرب فقط ثم إستفاد من بقية الأجزاء حيث جعلها فصولا اضافية. و يلعب الخيال فيها دورا كبيرا تحاكي على شكل معجزات ما قام به الابطال."14" فالملحمة تشابه المأساة في كونها تنظم شعراً وفي كونها بسيطة أو مركبة، و تختلف المأساة عن الملحمة بنوع البحر الذي تنظم فيه كل منها وان هيكل الملحمة أكثر تمددا من المأساة و هو الذي يكسبها عظمة و جلالاً. و المأساة لا يسمح لها بالتمدد لأن المسرح لا يتحمل أكثر من مشهد واحد لفترة واحدة، و تسلسل المأساة هو وحده الذي يرضى رغبة المشاهدين دون الحاجة الى مشاهد إضافية تؤثر فيهم. أما البحر الذي تنظم به الملحمة فيسمى عند اليونانين بالوزن البطولي و هو بحر يتحمل التعابير الغريبة و مجازية ولأن المحاكاة القصصية في الملحمة تحتاج الى تنوع و هذا البحر يفي بكل ذلك يقول أرسطو (و التجربة تدلنا على أن الوزن البطولي هو أنسب الاوزان للملاحم و لو أن امرا استخدم في المحاكاة القصصية وزنا اخر او عدة اوزان لبدت نافرة لان الوزن البطولي هو الوزن الاوسع و لهذا يتلائم مع الكلمات الغريبة و المجازات كل التلائم اذا في هذه المسألة أيضا تفوق المحاكاة القصصية غيرها)."15"
وقد رفع ارسطو المأساة فوق الملحمة او جعل من المأساة اكثر أهمية من الملحمة
يقول أرسطو (اضف الى هذا ان المأساة حتى بغير الحركات تأتي بنفس الأثر الخاص بها شأنها شأن الملحمة لأنه من مجرد القراءة البسيطة يمكن أن ترى قيمتها بوضوح فأذا كانت تمتاز من سائر الوجوه فليس من الضروري أن تكون لها هذه الميزة وهي فعلا تمتاز لأنها تتضمن جميع مزايا الملحمة بل تستطيع ان تستخدم نفس الوزن يضاف الى هذا وهو امر وسيلة ممتازة لأحداث المتعة و تمتاز المأساة كذلك بسدة الوضوح: عند التمثيل وبهذا أيضا ميزة تحتقيق المحاكاة تحقيقا كاملا اذ يفضل الناس ما هو محدد على ما هو منتشر في زمان طويل)."16"
التطهير
و يعد التطهير كشفا عظيماً لأرسطو يعالج فيه الشر بالشعر، ويعد أرسطو أول من إستخدم تعبير التطهير بمعنى الإنفعال الذي يحرر الإنسان من المشاعر الضارة، كما أنه جعل منه الهدف الأسمى للتراجيديا. يحتاج الإنسان إلى المعاناة من المشاعر القوية كالخوف و الرحمة و الحماس وهذه المعاناة تأتي عن طريق المأساة لأن المعاناة هنا تكون بلذة هي لغة الإبداع الفني فتؤدي إلى تطهير النفس و علاجها و صحتها على خلاف الحياة الواقعية، فتكسب المرء قوة و صلابة و دربة على مواجهة الحياة ، ويرى أرسطو في هذا الصدد أن التطهير قد ينشأ من المنظر المسرحي أو من ترتيب الحوادث و الأخير أفضل و هو من عمل كبار الشعراء فالحكاية به يجب أن تسبك حوادثها بحيث تؤدي الى أثارة العنف في نفس من يسمح بها ونأخذه الرحمة، ويحصر أرسطو دائرة التطهير في معالجة الشيء بشبيهه أي معالجة الحقيقي الواقعي يشبيه غير الواقعي بطريق الجمال الفني و الجمال الأدبي، وهو طريق لا ضرر فيه وهنا يحدث التخلص من الإنفعالات القوية و إحتوائها. فالتطهير هو تحرير النفس من الانفعالات و التسامح بها بطريق فني لا ضرر فيه."17"
والتطهير بهذا الشكل يحيلنا على المتعة التي يمكن أن يحصل عليها المتلقي من خلال مشاهدة إنفعالات الأخر، وهذا الأخر بوصفه البطل التراجيدي هو الضحية، والعقاب الذي يحل به هو الخلاص مما هو إستثنائي وطارئ على الجماعة، فيكون مفهوم التطهير على ترابط المتفرج الذي هو المتلقي بالجماعة التي يعيش معها."18"
وفي بعض الحالات لا يقتصر في الجمال الفني الى تطهير الإنفعالات بل الى إصلاح من شأنها و تقويمها أو المجادلة و إنكارها كما في القصص و المسرحيات التي تعرض قضايا عامة وذلك يكون اما بأختيار شخصيات تحب الفضيلة و تنفض الرذيلة فالفن الكلاسيكي أو الشعبي الذي لم يرق الى مستوى رفيع كما في الميلودراما فيها تعاقب الرذيلة دائما و تثاب، الفضيلة و أما يتصور الشر طاغيا كما هو في العالم مع التوجيه الفني الدقيق الذي يوحي ببغض بعض أشخاص أو بعض أفكار وتحبيب أخرى و يلغي ذلك عند الواقعيين في أدب الوجوديين .فلا يصح أذن تعميم وظيفة التطهير في الفن بل يجب الأحتراس في تطبيقها على حسب الحركات و المواقف المختلفة. على أن التطهير صحيح في بعض الحالات و يقصد فيه كما قلنا الى تحرير النفس من الإنفعال أو التسامي بها عن طريق فني لا ضرر فيه.
فالتطهير بهذا الشكل يصبح جزءاً من العمل الفني كما أنه يؤدي وظيفة نفسية وإجتماعية من خلال التأثير على الجمهور، فالجانب الإجتماعي هو شد أواصر الإنتماء للمجموعة من خلال ما يمكن أن نصفه بحالة الشفقة تجاه البطل."19"

الفصل الثاني
كيف فهم إبن رشد كتاب فن الشعر لأرسطو؟

نحاول في هذا الفصل تتبع الأفكار التي عرضها إبن رشد في شرحه لكتاب أرسطو فن الشعر وتلمس مدى مطابقتها مع أفكار أسطو كما عرضناها في الفصل السابق.

يبدو أن أهم مشكلة واجهت شرح كتاب أرسطو هي الجهل بالفارق بين السياق الثقافي العربي والسياق الثقافي اليوناني الذي كتب فيه كتاب فن الشعر لأرسطو، لذا يعتقد الدكتور عبد الله ابراهيم أن (تلخيص ابن رشد الخاطئ لأفكار أرسطو في مجال الشعر يحيل إلى قضية مهمة في الأدب، قضية السياقات الثقافية التي تغذي النصوص الأدبية بخصائصها، فالتراسل بين المرجعيات الثقافية والنصوص الأدبية قوي وفاعل في صوغ العناصر الأساسية للمادة الأدبية، وفي ضوء ذلك يكون إستحضار السياقات الثقافية ضرورياً لكل شرح أو تفسير أو نقد يتوخى الدقة. في حالة إبن رشد وسلالة الشراح والملخصين والمترجمين لكتاب فن الشعر جرى تغيب للسياق الثقافي اليوناني الذي يمثل مرجعية مباشرة لكتاب أرسطو، وبه إستبدل سياق ثقافي عربي مختلف)."20"
يتضح الطابع التوفيقي الذي إعتمد عليه إبن رشد في شرحه لكتاب فن الشعر، فقد قام بأرجاع قوانين الشعر العربي الى ماورد في كتاب أرسطو، وشرح الكتاب منطلقاً من فهمه للبلاغة العربية وضرب أمثلة من الشعر العربي، والقرأن الكريم مما كان شائعاً في كتب البلاغة والنقد العربي. وتوهم العلاقة بين الاغراض الشعرية العربية، خاصة المديح والهجاء، بالأنواع الخاصة بالشعر المسرحي عند اليونان، وهي المأساة والملهاة. فقد إنطلق إبن رشد من ثنائية منطقية بسيطة: الإيجاب والسلب، أو النفي والإثبات في إطار تأويل وتحوير لحديث أرسطو عن أنواع المحاكاة، لينتهي إلى المديح بعده إثباتاً، والهجاء بعده سلباً."21"
فالخطأ الذي وقع فيه إبن رشد هو إعتقاده أن المحاكاة هي التشبيه البلاغي العربي، فالمحاكاة عند إبن رشد قرين التخييل الشعري كماهي في البيان العربي، لذلك تناول جانب التصوير في الخطاب الشعري في معرض حديثه عن المحاكاة، ومن هنا إعتقد ان الشعر هو ما يعبر عنه بالمجاز والصورة، مثل قول القائل:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا باطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
إنما صار شعراً لأنه إستعمل قوله((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وسالت بأعناق المطي الأباطح بدل قوله تحدثنا ومشينا)). ويضرب مثلا أخر الكناية العربية المشهورة (بعيدة مهوى القرط) إنما صارت شعراً لأنه إستعمل هذا القول بدل ( طويلة العنق). وأمثلة اخرى كثيرة من الشعر العربي.
فالشعر عنده ماتوفر فيه الإبدال والتشبيه وجميع الأنواع التي تسمى في البلاغة العربية بالمجاز."22"

وفي تفسير إبن رشد لقول أرسطو: ((وفيما يتصل بالوزن، استبدل بالوزن الرباعي الحاري الطروخاسي، الوزن الثلاثي الايامبو, وكان الرباعي يستخدم اولاً لأن الشعر ان من نوع الساطوري وأقرب الى الرقص، لكن لما دخلت لهجة التخاطب تبعها طبعا إستخدام الوزن الأنسب لها، ومن الواضح أن الوزن الثلاثي الايامبو هو من بين الأوزان كلها أقرب الى لهجة التخاطب، وأية ذلك أننا في الحوار نستخدم عدداً وفيراً من الأوزان الثلاثية الايامبو، ونادراً ما نستخدم السداسي))."23"

فهم إبن رشد الوزن بانه معادل للأوزان الشعرية العربية، ثم يقول إبن رشد مفسراً معنى اللحن عند أرسطو: ((والمحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها منفرداً عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ، أعني الأقاويل المخيلة الغير موزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة باسرها، مثل ما يوجد عندنا في النوع المسمى الموشحات والأزجال))."24" فحين توقف عند فكرة اللحن لم يتمكن من شرح ذلك في مرجعيته الشعرية العربية، ولم يفهم معنى اللحن عند أرسطو، لذا إفترض أن اللحن موجود في الموشحات الأندلسية دون سائر أشعار العرب، فالموشحات حسب وصفه تتضمن اللحن مع الأوزان معاً. وقد علق على ذلك الدكتور محمد غنيمي هلال ((إذا فهمنا أن المحاكاة قد توافرت في الموشحات والأزجال، فإننا نكون قد قوضنا النظرية اليونانية من أساسها))."25"
كما شرح إبن رشد المحاكاة بالتذكر، بأن الشاعر يورد شيئاً يتذكر به شيئاً أخر، مثل أن يرى خط إنسان فيتذكره فيحزن عليه إن كان ميتاً، أو يتشوق إليه إن كان حياً، وهذا موجود في أشعار العرب كثيراً، مثل قول متمم بن نويرة:
وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت لهم: أن الأسى يبعث الأسى دعوني فهذا كله قبر مالك
ولا شك أن مفهوم إبن رشد عن التذكر في الشعر الغنائي العربي، يختلف عن مفهوم أرسطو للتعرف بالتذكر في الشعر الدرامي اليوناني، وهذا يعكس الاختلاف الكلي بين فكري الرجلين."26"
أما مفهوم التطهير فقد إستعان إبن رشد بمصطلح متى بن يونس الذي ترجم المصطلح بأنه نقاء ونظافة تحدث في النفوس الناس الذين ينفعلون. فيرى إبن رشد بأن المحاكاة تثير عاطفتي الخوف والرحمة، ونسب ذلك الى المدائح الحسان التي يوجد فيها ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة، فقد أرجع إبن رشد كل الإنفعالات التي عددها أرسطو الى القول الشعري، كما انه جاوز ذلك الى الحديث عن الفضائل التي تنتج من النص الديني، فأحال المقروء له عليه لكي يأخذ تصوراً واضحاً عن محاكاة الفضائل والتطهير."27"

أما عن تقسيم الفصول بين الأصل الأرسطي وبين تلخيص إبن رشد، فقد جاء تلخيص إبن رشد في سبعة فصول بينما الأصل الرسطي يتكون من سبعة وعشرين فصلاً، كما جاء في ترجمة شكري عياد. وبإستثناء الفصل الأول المشترك بينهما، فابن رشد إعتباراً من الفصل الثاني يقوم بتلخيص الفصول ودمجها. فالثاني لديه يقابل الثاني والثالث في الأصل، والثالث يقابل الرابع والخامس، والفصل الرابع يقابل الخامس والسادس، والفصل الخامس يقابل الفصول من السابع الى الحادي عشر. فقد لجأ ابن رشد الى حذف النصوص اليونانية واقتراح نصوص عربية، وبهذا يكون قد تخطى مهمته ولم يحالفه النجاح كما نجح في الشروح والتلخيصات الأخرى التي قدمها لكتب أرسطو."28"
فالفارق الذي لابد أن يؤخذ بنظر الإعتبار هو أن كتاب أرسطو يتعلق بالأحرى بالمفهوم الذي نسميه حالياً ( الشعريات) بينما تعامل معه إبن رشد كقوانين وقواعد فن الشعر الضيقة. وهنا تكمن مفارقة أن الثقافة العربية عرفت الفلسفة اليونانية وتعمقت فيها لكنها لم تعرف الشعر اليوناني وأنواعه وإقترانه بالعمل المسرحي والملحمي."29".

الموقف النقدي من شرح إبن رشد لكتاب فن الشعر لأرسطو

يصف أمبرتو إيكو شرح إبن رشد لكتاب فن الشعر لأرسطو بانه النموذج الجلي لسوء الفهم الثقافي، والذي ينتج سلسلة من سوء الفهم اللغوي، فإبن رشد لم يكن يعرف اليونانية وبالكاد كان يعرف السريانية، وقد قرأ أرسطو في ترجمة عربية من القرن العاشر تمت بدورها عن ترجمة سريانية لأحد الأصول اليونانية."30"

وقبل أمبرتو ايكو كان بعض الباحثين العرب وبعض المستشرقيين قد قدموا نفس هذا الرأي وتحدثو عن التوهمات التي وقع فيها إبن رشد أثناء شرحه لكتاب فن الشعر وكتاب الخطابة أيضا، منهم عميد الأدب العربي طه حسين، الذي عد ماكتبه إبن رشد عن كتابي فن الشعر والخطابة، غير متفق باي شكل من الأشكال مع المعاني التي أردها ارسطو من كتبه هذه."31"

أما عبد الرحمن بدوي فيقول: ((والصفة البارزة في تلخيص إبن رشد محاولته تطبيق قواعد أرسطو على الشعر العربي، وقد أضلته ترجمة متى للتراجيديا بانها المديح، وللكوميديا بانها الهجاء، فخال له أن الأمر كما في الشعر العربي، ومن هنا أكثر الشواهد المستمدة من الشعر العربي، ومعظمها فاسدة، لأنها تقوم على أساس فاسد هو تلك الترجمة الخطأ. وهو نفسه قد شعر بأخفاق هذه المحاولة, فكان يعتذر عنها كلما التاث عليه الأمر والتوى به التطبيق))."32" ومثل عبد الرحمن بدوي ينسب شوقي ضيف الخطأ الذي وقع فيه إبن رشد في شرحه كتاب أرسطو الى الترجمة السيئة لمتى القنائي، فيذكر رغم أن متى بن يونس كان من المترجمين النابهين إلا إنه ((ترجم كتاب الشعر ترجمة مضطربة لأنه كان يدور كما هو معروف- حول المأساة اليونانية، ولم يكن العرب ولا المترجمون حينئذ يتصورونها، ولذلك يكون لمتى عذره في اضطراب ترجمته لهذا الكتاب))."33"
ويتفق معهم شكري عياد في دراسته لتلخيص ابن رشد في ضوء ترجمة متى بن يونس وانتهى الى أن تلخيص ابن رشد لا يقدم اصولاً جديدة لما يمكن أن نسميه نظرية الفن. فالفصول التي نجدها مفصلة ومشروحة بشكل دقيق عند إبن سينا نجدها عنده مقتطعة ومجزأة."34"
لكن عياد لا ينكر أن المنطق الأرسطي قد تسرب إلى طريقة التفكير النقدي والبلاغي بشكل غير مباشر، أي أن شرح إبن رشد لم يكن مؤثراً لكن الفكر الأرسطي هو الدافع نحو بداية تطوير وتغيير الفكر البلاغي والنقدي العربي.

كذلك وقف المستشرقون من شرح إبن رشد ذات الموقف الذي ينسب لإبن رشد ضياع معاني كتاب فن الشعر لأرسطو ويقللون من أهمية شرح إبن رشد. منهم (أما دي بور) فهو يعتقد أن شرح ابن رشد لكتب أرسطو، خاصة الشعر والخطابة، هما جزءان من منطق أرسطو، ويصف عمل إبن رشد بالاخطاء الغريبة نتيجة جهله بالعالم اليوناني."35"

كذلك (جبريلي) في بحثه عن (( نظرية الفن والشعر عند العرب كما تظهر في شرح إبن سينا وابن رشد لكتاب الشعر الأرسطي، وجد أن الشرحين حورا الأفكار الارسطية تحويراً أخرجها عن الأصل، حتى أن المقارنة بينهما وبين ما ورد عند أرسطو تظل في نظره جهداً عقيماً. يقول أنه- شأن ترجمة متى وشرح إبن رشد- حروفاً ميتة مكفنة في المكتبات))."36"

ومن مجموع أراء النقاد ندرك أن أغلبهم أجمع تحميل الترجمة السيئة لمتى بن يونس مسؤولية الأخطاء التي وقع فيها الشراح بما فيهم إبن رشد، فضلاً عن بعد العرب عن السياق الثقافي اليوناني الذي جعل من الصعب إدراك فنون المسرح اليوناني بما فيها من أشعار وتمثيل وغناء والحان.

مقابل هذا الموقف الذي إستخف بقيمة شرح ابن رشد، هناك موقف آخر لنقاد أنصفوا المعلم الثاني إبن رشد الذي أخلص كل الإخلاص للمعلم الأول أرسطو، فليس سهلاً أن ينكر أحد الدور الذي لعبته كتابات ابن رشد وشروحاته وأثرها الملهم في قيام النهضة الإيطالية ومن ثم أوربا كلها. دفع أوربا إلى العودة للفلسفة اليونانية من جديد عن طريق ما قدمه إبن رشد لهم.

يذكر المستشرق (تشارلس بترورث) والدكتور أحمد عبد المجيد هريدي في تحقيقهما لكتاب تلخيص إبن رشد لكتاب فن الشعر لأرسطو أن إبن رشد إستخدم في شرحه شواهد شعرية بلغت 68 شاهداً في 101 بيتاً، في حين أن أبي نصر الفرابي في رسالته لم يستخدم أي شواهد شعرية، أما إبن سينا فقد إستخدم شاهداً واحداً فقط في شرحه في الجزء التاسع من قسم المنطق من كتاب الشفا. وهنا يشير تشارلس و هريدي إلى الجهد الذي بذله إبن رشد لربط الشعر بصناعة المنطق، وإنها إحدى الالات التي يمكن أن تستخدم في تدبير سياسة المجتمعات، أي ان إبن رشد جمع في عمله بين رأي أفلاطون وأرسطو، رابطاً ذلك بالشريعة الأسلامية. ويشيران أيضا أن تلخيصات إبن رشد لكتب أرسطو في المنطق ليست تلخيصات جامدة، بل هي تفسير وتبيين لكلام المعلم الأول، بما يعد انتصاراً لأرسطو ضد من عارضوا فلسفته نتيجة لعدم فهمهم لأهمية هذا الكلام. ويؤكدان إن ما قام به إبن رشد في كتاب فن الشعر هو شرح لصناعة الشعر العربي لم تتوقف عند النظر الفلسفي القائم على الأمثلة اليونانية, بل تجاوز ذلك وحاول تطبيق النظرة الأرسطية على الشعر العربي."37"

ويستند عدد أخر من الباحثين في دفاعهم عن إن رشد الى ما ذكره إبن رشد نفسه في مقدمة شرحه إذ قال: ((الغرض من هذا القول تلخيص مافي كتاب أرسطو طاليس في الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم او للاكثر، اذ كثير مما فيه أما أن تكون قوانين خاصة بأشعارهم وعاداتهم فيها، وأما أن تكون ليست موجودة في كلام العرب وموجودة في غيره من الالسنة))"38". وما يقوله: في خاتمة تلخيصه ((فهذا هو جملة ما تأدى الى فهمنا مما ذكره أرسطو في كتابه هذا من الاقاويل المشتركة لجميع أصناف الشعر والخاصة بالمديح، أعني المشتركة منها أيضا للأكثر أو للجميع))"39".

يذكر الباحثون بالنظر إلى مقدمة وخاتمة التلخيص فان إبن رشد ليس مترجماً وانما شارحاً معتمداً على خلفيته العربية وعلى ملخصات وشروح من سبقه فإستفاد وأضاف. ويمكن ان نصفها بانها شروح مقارنة بين ثقافتين، قدمت تأويلا جديداً لكتاب فن الشعر يمكن أن يندرج تحت منظور القراءة لمنظورين شعريين متغايرين. وان التحول الذي أجراه الفلاسفة ومنهم إبن رشد قد مهد الطريق أمام النقاد اللاحقين ليطوروا النظرية النقدية العربية بإدخال العناصر اليونانية للشعر في صلب منظومتهم النقدية."40"

ومنهم من يذهب الى أقصى حدود الدفاع عن شرح إبن رشد فيحشر مفاهيم نظرية القراءة والتأول ليخرج بنتيجة مفادها أن نص إبن رشد يتمتع بمصداقية خاصة بها، تكتسب مشروعيتها من أفاق المتلقي. يقول الباحث طارق شما في هذا الصدد: ((في وسعنا أن نرى فيما قام به متى من إعادة سبك المصطلحات اليونانية في قالب عربي، وفي سعي إبن رشد الى دمج هذه المصطلحات في الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، نموذجاً لما يسميه هانز جادمير –انصهار الافاق- بين العالمين المعرفيين الأنا والآخر، مما يخلق مجالاً جديداً يسمح بمقاربة الاختلافات الثقافية وإستيعابها، وهو أفق للتأويل يحمل مكونات من الجانبين دون أن ينتمي لاي منهما بالكامل، وقد يشكل السبيل الوحيد لإقامة سبل التفاهم مع الأخر في الوقت الذي يتحدد فيه منظور المتلقي بأبعاد حاضر معين.. ذلك الأفق الذي يكون من المحال أن نرى ما وراءه))."41"

ولا أجد لهذه القراءات التي تحاول بجهد كبير أن تخلق أعذاراً وتضع أسباباً لما وقع فيه ابن رشد من خلط وأغلاط في شرحه لكتاب فن الشعر، من وصف سوى أنها قراءات عاطفية، حاولت أن تنصف فيلسوف قرطبة الكبير من ما لحقه من سخرية من بعض المستشرقين المغالين في تتبع أغلاط العلماء المسلمين ومحاولة الإساءة لهم.

وخلاصة القول عندي هو ضرورة أن يكون هذا الكتاب عبرة للعاملين في حقل الترجمة فيؤخذ السياق الثقافي بنظر الإعتبار أثناء الترجمة، فليس المهم إجادة اللغة إن لم يصحبها معرفة بالوسط الثقافي الذي نشأت فيها الأفكار وكيف تطورت وما طرأ عليها من تغيرات عبر الزمن.

وبالعودة لنظرية القراءة التي حاول المدافعون عن شرح إبن رشد أن يستخدموها وسيلة لإنصاف الرجل، فقد فاتهم أن نظرية القراءة تنصب على الأعمال الإبداعية من شعر، وقصة، ومسرح، ورواية وكل هذه الفنون قابلة للقراءات المتعددة والفهم المغاير من سياق ثقافي الى أخر. لكن فيما يتعلق بالمفاهيم النقدية والفلسفية والمصطلحات العلمية فإن محاولة تطويعها وإجراء التغيرات عليها بحسب البيئة التي تنتقل اليها، بما يعرف بترحيل المفاهيم، تكون مقرونة بفهم هذه المصطلحات كما هي في أصل وضعها وتفهم سياق وحاضنة نشأتها. ثم إجراء التغيرات بعد أن يكون الناقد قد أدرك المقصد الأول وأضاف تأويله وقراءته إليه.

وبالعودة إلى هانس روبيرت ياوس الذي تشكل أبحاثه المنطلق الأول لنظرية القراءة، فقد حدد ياوس ثلاثة من العوامل الأساسية التي يقوم عليها أفق التوقع،"42" ، اذ قد يتطابق أفق توقع القارئ مع النص الأدبي فيحصل إنسجام، أو عدم تطابق وهذا يسمى عند ياوس بالمسافة الجمالية، الذي يعني أن تكون القراءة مغايرة لما هو معلوم فتصنع الدهشة .

العامل الاول: هو تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي له هذا العمل، والذي يعني أن يكون القارئ عارفاً بالنص الذي يتوجه له بالتفسير ولا ينطلق من فراغ، حتى يتمكن من تحديد مسارات القراءة، تبعا لذخيرته المعرفية، التي تتكفل بانشاء التفاعل بين القارئ والنص. وهنا يتضح أن إبن رشد لم يكن عارفاً بالجنس الادبي الذي تحدث عنه ( التراجيديا، ،الكوميديا، المحاكاة) لذلك فان محاولته دمج معارفه وثقافته في كتاب أرسطو أسفرت عن عمل منقطع الصلة بالمعايير التي يتطلبها العمل النقدي.

العامل الثاني: أشكال يتعلق بأعمال ماضية وموضوعاتها تفترض معرفتها بالعمل. وتعني أن كل نص لا يأتي من فراغ بل لابد له من مرجعيات فكرية، وأصول معرفية، وثقافية، ودينية، فالسياق الثقافي أهم العوامل التي تعين المتلقي للتواصل مع النصوص المتعالقة وتفسيرها. وقد سبق أن ذكرنا أن إبن رشد أقدم على عمله وهو غير عارف للمرجعيات الفكرية التي إنطلق منها أرسطو في كتابه كما أن السياق الثقافي غائب تماماً عن ذهن مترجم الكتاب إلى العربية والشراح الفلاسفة بما فيهم إبن رشد.
العامل الثالث: التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العلمية فللنص معنى يحجبه، ومهمة القارئ أن ينظر الى المعاني الكامنة خلف النص وإزاحة الحجب عنها، هذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن التلقي المغاير للنصوص الأدبية والإضافة التي يضعها القارئ تنصب على الأجناس الأدبية لأنها تتضمن الوظيفة اللغوية البلاغية والإبلاغية. بينما النصوص النقدية فهي تستند الى الوظيفة اللغوية الإبلاغية التداولية. فالتعاطي معها يتطلب دقة ترجمة وفهم دقيق للمصطلحات والمفاهيم وإلا يكون نتيجة العمل كما حدث مع إبن رشد في شرحه لكتاب أرسطو فن الشعر.

ختاما أقف موقف المتفهم من القراءات العاطفية التي حاولت تبرير الخطأ الذي وقع فيه إبن رشد في شرحه لكتاب أرسطو، لكن تظل الأراء النقدية العلمية قرينة التعقل وليس العاطفة. والإقرار بأن قراءة إبن رشد جانبت الصواب لا يقلل من قيمة فيلسوف الأندلس ورائد التنوير الحديث، فالخطأ قرين البشر ويؤكد بشرية الناس وقد آن أوان الإقرار بأن العالم قد يصيب وقد يخطئ، فلا الخطأ يقلل من قيمة باقي منجزاته العلمية ، ولا يمكن أن نظل نحن أبناء الالفية الثانية نتمسك بالنظرة التقديسية للعلماء وننزههم عن أخطاء اقترفوها وهي ممكنة الوقوع، لا يعصم العلماء من الوقوع فيها. جل ما يجب فعله هو إدراك سبب الخطأ والعبرة به حتى لا يتكرر مرة أخرى.

وأحسب أن إبن رشد نفسه كان يعلم بغريزة الباحث المجد أن عمله يشوبه نقص ما لذا ختم شرحه ببيت شعر يعترف فيه ببشرية الأخطاء الإنسانية، وإمكانية وقوعها حتى لعالم مثله.

يقول إبن رشد:
إن تجد عيبا فسد الخللا جل من لاعيب فيه وعلا

خاتمة
تناولنا في هذه الأوراق موضوعاً بارزاً يتعلق بمشكلات الترجمة, وما يسببه تجاهل السياق الثقافي من تغيير في مقاصد الؤلف، وتحول الأفكار وصولاً الى الخلط ومجانبة الصواب.
هذا في إطار مراجعة شرح إبن رشد الفيلسوف الأندلسي الكبير لكتاب المعلم الأول أرسطو (فن الشعر). وتكتسب هذه الدراسة أهميتها من أهمية متابعة كتاب فن الشعر في خلق المفاهيم النقدية، لذا تم إستعراض الكتاب في الفصل الأول بما فيه من مفاهيم مثل التراجيديا والكوميديا، والتطهير..كما إسعرضنا في الفصل الثاني كيف فهم إبن رشد كتاب فن الشعر والتغييرات التي أجراها على الكتاب وشرحه. مع تفصيل لأراء النقاد بين مفند لأخطاء إبن رشد ومحاولة نقاد محدثين تحويل مسار الأخطاء وتبريرها وصياغتها من جديد بتعسف واضح لتدخل ضمن مفاهيم نظرية القراءة. كما قمت بتحليل هذه الأراء التي وجدت أنها اقرب للأراء العاطفية، منها الى الأحكام النقدية فبينت كيف إن نظرية القراءة تتعامل مع النصوص الابداعية، من شعر، وقصة، ومسرح، ورواية وكل هذه الفنون قابلة للقراءات المتعددة من سياق ثقافي الى آخر. لكن فيما يتعلق بالمفاهيم النقدية والفلسفية والمصطلحات العلمية فان محاولة تطويعها وإجراء التغيرات عليها بحسب البيئة التي تنتقل اليها، بما يعرف بترحيل المفاهيم، تكون مقرونة بفهم هذه المصطلحات كما هي في أصل وضعها وتفهم سياق وحاضنة نشأتها. ثم إجراء التغيرات بعد ان يكون الناقد قد أدرك المقصد الاول وأضاف تأويله وقراءته إليه.
كما وضحت أن هانس روبيرت ياوس الذي تشكل أبحاثه المنطلق الأول لنظرية القراءة، حدد ثلاثة من العوامل الاساسية التي يقوم عليها أفق التوقع، اذ قد يتطابق أفق توقع القارئ مع النص الأدبي فيحصل إنسجام، أو عدم تطابق وهذا يسمى عند ياوس بالمسافة الجمالية، الذي يعني أن تكون القراءة مغايرة لما هو معلوم فتصنع الدهشة
العامل الاول: هو معرفة الجمهور السابق بالجنس الادبي الذي ينتمي له هذا العمل، والذي يعني ان يكون القارئ عارفاً بالنص الذي يتوجه له بالتفسير ولا ينطلق من فراغ، وهنا يتضح أن إبن رشد لم يكن عارفاً بالجنس الادبي الذي تحدث عنه (التراجيديا، الكوميديا، المحاكاة) لذلك فان محاولته دمج معارفه وثقافته في كتاب ارسطو لم تكن ناجحة.
العامل الثاني: يتعلق بالمرجعيات فكرية، والأصول المعرفية، وثقافية، ودينية للنص، فالسياق الثقافي أهم العوامل التي تعين المتلقي للتواصل مع النصوص . بينما لم يكن إبن رشد عارفاً للمرجعيات الفكرية التي إنطلق منها أرسطو في كتابه كما أن السياق الثقافي غائب تماماً عن ذهن مترجم الكتاب إلى العربية والشراح الفلاسفة بما فيهم إبن رشد.
العامل الثالث: التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العلمية، ومهمة القارئ أن ينظر الى المعاني الكامنة خلف النص وإزاحة الغموض عنها، هذا يؤكد ماذهبنا اليه من أن التلقي المغاير للنصوص الأدبية والإضافة التي يضعها القارئ تنصب على الأجناس الأدبية. بينما النصوص النقدية فهي تستند الى الوظيفة اللغوية الإبلاغية التداولية. فالتعاطي معها يتطلب دقة ترجمة وفهم دقيق للمصطلحات والمفاهيم.

Abstract
This research analyzes and compares critical opinions that differed on Ibn Rushd’s explanation of Aristotle’s book Poetics, between those who accuse Ibn Rushd of misunderstanding Aristotle’s purposes, and who believes that Ibn Rushd presented a unique theory of the study of poetry. This research presents and explains concepts in their original form as intended by Aristotle while tackling a recurring matter of dispute among critics in achieving a further understanding of where Ibn Rushd’s mistakes lay. 
الهوامش
1 – ينظر سير اعلام النبلاء، الامام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، المكتبة الاسلامية، الطبعة:27 ،الجزء 19،ص: 19 .
2 – الترجمة وجماليات التلقي- المبادلات الفكرية والثقافية، د. حفناوي بعلي، دار دروب للنشر والتوزيع، 2017،عمان الاردن،ص: 10 .
3 – تاريخ الفكر الاندلسي، انجل جنثالث بالنثيا، مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة،1955 ، ترجمة: حسين مؤنس، ص: 356 .
4 – ينظر مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات- الكويت، الطبعة 3، ص: 14 .
5 – ينظر فن الشعر، ارسطو طاليس، مع الترجمة العربية القديمة وشرح الفارابي وابن سينا وابن رشد، مكتبة النهضة المصرية، 1953 ، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص: 38 .
6 – المصدر السابق: 28 .
7 - المصدر السابق: 32-33 .
8 و 9 – ينظر (مقال) أثر كتاب الشعر في النقد العربي، جريدة الخليج، 23 ،2، 2016 .
10 – كتاب ارسطو في الشعر، ترجمة الدكتور شكري عياد مع دراسة لتأثيره في البلاغة العربية، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1976 ، ص: 64 .
11 – مسائل فلسفة الفن المعاصر، جان ماري جويو، دار اليقضة العربية- دمشق، ط:2، ترجمة، سامي الدروبي، 1965 ، ص: 128 .
12 – ينظر: النقد الادبي الحديث، محمد غنيمي هلال، دار العودة-بيروت، 1973 ،ص: 64-65 .
13 – ينظر المصدر السابق: 67 .
14 – المصدر السابق: 93 .
15 – فن الشعر لارسطو، عبد الرحمن بدوي: 68 .
16 – المصدر السابق: 80 .
17- ينظر: النقد الادبي الحديث: 83 .
18 – المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، ماري الياس، وحنان قصاب حسن، مطبعة المساحة القاهرة، 2008، ص: 33 .
19 – ينظر: ارسطو المعلم الاول، مجدي كامل، دار الكتاب العربي، ط:1, 2011 ، ص: 237 .
20 – مقال- مفهوم الشعر بين ارسطو وابن رشد، عبد الله ابراهيم، نوفمبر-2018 ،موقع مؤسسة مؤمنون بل حدود على الشبكة العنكبوتية.
21 – ينظر-مقال- تلخيص الكليات في قراءة فن الشعر، محمد العمري، موقع عابد الجابري على الشبكة العنكبوتية.
22 – تلخيص كتاب ارسطو طاليس في الشعر ومعه جوامع الشعر للفارابي، تحقيق محمد سليم سالم، مطابع الاهرام، القاهرة، 1971 ،ص: 242 – 243 .
وينظر: فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة بين التلقي والتأويل، شريفة اكساس، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الاداب جامعة اكلي محند/ البربورة، الجزائر، 2015- 2016 ، ص: 246 .
23 – فن الشعر لارسطو، عبد الرحمن بدوي، ص: 15 .
24 – المصدر السابق: 303 .
25 – النقد الادبي الحديث، محمد غنيمي هلال،ص: 158 .
26 – كتاب ارسطو فن الشعر ملحق به أوثق ترجمة انجليزية للعلامة انجرام باي ووتر، ترجمها الى العربية: ابراهيم حمادة، مكتبة الانجلو، المصرية،ص: 45 .
27 – ينظر: كتاب فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة بين التلقي والتأويل، ص: 251 – 252 .
28 - ينظر مقال: مفهوم الشعر بين ارسطو وابن رشد، عبد الله ابراهيم.
29 – ينظر: أرسطو والفن الشعري- ما الفارق بين الفن الشعري والشعر، ترجمة شاكر العيبي، مجلة الشعرية، العدد 6 ، 2019 ، ص: 35 .
30 – مقال: كيف قرأ ابن رشد(فن الشعر) لارسطو؟، امبرتو ايكو، ترجمة: احمد يماني، موقع الاوان على الشبكة العنكبوتية، ديسمبر، 2013 .
31 – ينظر: فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة بين التلقي والتأويل: 238 .
32 – فن الشعر ، عبد الرحمن بدوي: 53 .
33 – تاريخ الادب العربي- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف، دار المعارف- مصر، الطبعة: 12 ، 1973 ،ص: 134 .
34 – ينظر: فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة، ص: 239 .
36،35 – ينظر المصدر السابق، ص: 237 .
37 – تلخيص كتاب الشعر- ابن رشد، تحقيق الدكتور تشارلس بتروث، والدكتور احمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986 ،ص: 17-18 .
38 – فن الشعر، عبد الرحمن بدوي، ص: 201 .
39 – المصدر السابق: 250 .
40 – ينظر فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة، ص: 280 و288 .
41 – (( فن الشعر )) في ترجمته القديمة: فرصة ضائعة أم تمثل خلاق، طارق شما، بحث مقدم الى مجلة الف العدد 38، لسنة: 2018 ، قسم اللغة الانكليزية والادب المقارن- الجامعة الامريكية في القاهرة، ص: 89 .
42 – ينظر: مفهوم نظرية القراءة والتلقي، خالد علي مصطفى، ربى عبد الرضا عبد الرزاق، بحث مقدم الى مجلة ديالى للبحوث الانسانية والعامة، جامعة ديالى- العراق، العدد التاسع والستون، 2016، ص: 168- 169 .
وينظر: جمالية التلقي، هانس روبرت ياوس، ترجمة: رشيد بن حدو، المجلس الاعلى للثقافة- القاهرة،ط1 ، 2004، ص: 11

المصادر و المراجع
1. سير اعلام النبلاء، الامام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، المكتبة الاسلامية، الطبعة:27 ،الجزء19. إسلام ويب - سير أعلام النبلاء - الطبقة السابعة والعشرون - ابن رشد- الجزء رقم19
2. الترجمة وجماليات التلقي- المبادلات الفكرية والثقافية، د. حفناوي بعلي، دار دروب للنشر والتوزيع، 2017،عمان الاردن.
3. تاريخ الفكر الاندلسي، انجل جنثالث بالنثيا، مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة،1955 ، ترجمة: حسين مؤنس.
4. مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات- الكويت، الطبعة 3.
5. فن الشعر، ارسطو طاليس، مع الترجمة العربية القديمة وشرح الفارابي وابن سينا وابن رشد، مكتبة النهضة المصرية، 1953 ، ترجمة عبد الرحمن بدوي.
6. كتاب ارسطو في الشعر، ترجمة الدكتور شكري عياد مع دراسة لتأثيره في البلاغة العربية، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1976.
7. مسائل فلسفة الفن المعاصر، جان ماري جويو، دار اليقضة العربية- دمشق، ط:2، ترجمة، سامي الدروبي، 1965.
8. المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، ماري الياس، وحنان قصاب حسن، مطبعة المساحة القاهرة، 2008.
9. ارسطو المعلم الاول، مجدي كامل، دار الكتاب العربي، ط:1, 2011.
10. تلخيص كتاب ارسطو طاليس في الشعر ومعه جوامع الشعر للفارابي، تحقيق محمد سليم سالم، مطابع الاهرام، القاهرة، 1971.
11. فن الشعر لارسطو في نقد الفلاسفة بين التلقي والتأويل، شريفة اكساس، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الاداب جامعة اكلي محند/ البربورة، الجزائر، 2015- 2016 ، ص: 246
12. كتاب ارسطو فن الشعر ملحق به أوثق ترجمة انجليزية للعلامة انجرام باي ووتر، ترجمها الى العربية: ابراهيم حمادة، مكتبة الانجلو، المصري.
13. تاريخ الادب العربي- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف، دار المعارف- مصر، الطبعة: 12 ، 1973.
14. تلخيص كتاب الشعر- ابن رشد، تحقيق الدكتور تشارلس بتروث، والدكتور احمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986.
15. جمالية التلقي، هانس روبرت ياوس، ترجمة: رشيد بن حدو، المجلس الاعلى للثقافة- القاهرة، ط1 ، 2004.

دوريات
1. (مقال) أثر كتاب الشعر في النقد العربي، جريدة الخليج، 23 ،2، 2016. صحيفة الخليج | صحيفة الخليج هي صحيفة يومية تصدر عن دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر بمدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة والتي أنشئت
2. أرسطو والفن الشعري- ما الفارق بين الفن الشعري والشعر، ترجمة شاكر العيبي، مجلة الشعرية، العدد 6 ، 2019.
3. مقال: كيف قرأ ابن رشد(فن الشعر) لارسطو؟، امبرتو ايكو، ترجمة: احمد يماني، موقع الاوان على الشبكة العنكبوتية، ديسمبر، 2013. كيف قرأ ابن رشد “فن الشعر” لأرسطو؟- أمبرتو إيكو – ترجمة: أحمد يماني
4. ينظر-مقال- تلخيص الكليات في قراءة فن الشعر، محمد العمري، موقع عابد الجابري على الشبكة العنكبوتية. تخليص الكليات
5. مقال- مفهوم الشعر بين ارسطو وابن رشد، عبد الله ابراهيم، نوفمبر-2018 ،موقع مؤسسة مؤمنون بل حدود على الشبكة العنكبوتية. مفهوم الشعر بين أرسطو وابن رشد
6. (( فن الشعر )) في ترجمته القديمة: فرصة ضائعة أم تمَثل خلاّق، طارق شما، بحث مقدم الى مجلة الف العدد 38، لسنة: 2018 ، قسم اللغة الانكليزية والادب المقارن- الجامعة الامريكية في القاهرة.




أعلى