أمل الكردفاني - حي السكلابة.. قصة

أدون كل شيء في مفكرتي منذ تعلمي للكتابة. أنا الحاج أبو سلام أدون دخولي للحمام منذ الصباح، شربي للقهوة، وأدون توقفي عن شربها ثم عودتي لشربها، ثم تدخيني لسجارة الصباح، وذهابي لعملي كموظف حسابات منذ ثلاثين عاماً. لم تتم ترقيتي ولم أهتم. أدون كل شيء، سلام العابرين علي، تجهم مدير الهيئة في وجهي منذ الصباح أدونه، حتى عندما ضبطت زوجتي منذ خمسة وثلاثين عاماً في حضن الجزار، دونت ذلك، ودونت ملامحهما. وقفت أمامهما قليلاً، ثم أخرجت دفتري من داخل بنطالي، حيث أحشره بين البطن والعانة وأسدل القميص فوقه، نزعت قلم الحبر البِيِك من وراء أذني اليُمنى، وعدلت النظارة السميكة وكتبت:
الأحد اليوم الشهر السنة الساعة الدقيقة؛ ضبطت حمدية مع حمدي الجزار في سريري. أسماؤهما متقاربة، ربما يكون ذلك صدفة أو قدر، هاهما ينظران نحوي بملامح مرتعبة. حمدية تغطي ثدييها بيدها، وهي حركة لم أفهم مغزاها؟ هل تستتر مني مثلا؟ حمدي عضلات وجهه مرتخية ومرهقة، وجسده الضخم المشعر تقلص لنصفه من الخوف. لقد اكتفيت بسؤالها:
- الولد حسين ابن من؟
قالت وصوتها يخرج كصوت بقرة تحتضر:
- ابنك..أقسم لك..
لها الرحمة لقد ماتت قبل سبع سنوات بعد أن انزلقت وكسرت ترقوتها..بعد عمليات فاشلة كثيرة لفظت انفاسها.. عاشت معي طيلة تلك السنوات كقديسة.. لكنني لم أقربها منذ تلك الحادثة.. بت أقرف من جسدها ولا أعرف السبب، أما حمدي الجزار، فظل في محله مكتئباً..حتى تم قتله..
هكذا أدون كل شيء، أدون لحظة نفخ عجل دراجتي الهوائية القديمة والتي لا زلت احتفظ بعقد شرائها من دكان عبد المقصود..وفواتير صيانتها، في ثلاثة عشر حقيبة تضم كل الأوراق التي تخصني منذ ميلادي وحتى اليوم، وهناك دفتر كبير أضع عليه رقما لكل فاتورة جديدة أضيفها للحقائب، وأسجلها في الدفتر. أوراق الولد حسن كذلك، أحكام القضاء في القضايا التي خسرتها كلها تقريباً، لا أتذكرها بوضوح، وكل شيء مدوَّن في دفاتري..البنت جميلة لم تكن أبداً جميلة، لكنني كأب لم أكن قادراً على كتابة ذلك، فقد تقع دفاتري في يدها يوماً ما. لقد تزوجت ولم تنجب، وتزوج زوجها فوقها ثلاث نساء، أنجبت منهن الأخيرة فقط، أنجبت طفلاً يشبه حمدي الجزار. يا حمدي يا كلب، لم يعتق امرأة متزوجة في الحي. زوج ريحانة ضربه ضربة واحدة بحديدة قوية حينما ضطبه مع زوجه، فانشق رأسه لنصفين وظل جسده يرتعش حتى لفظ أنفاسه بعد ساعة كاملة من العذاب. قال الزوج أنه ضبطه مع زوجته في المنزل، وإن كنت أشك في ذلك، يبدو أنه قد راودها عن نفسها فأخبرت زوجها، وهكذا اتفقا على استدراجه، ليُقتل تلك القتلة الشنيعة. الزوجة أنكرت في المحكمة أنه قد مارس معها الجنس، بل داهمها زوجها قبل أن يحدث ذلك الشيء، فنجت من تهمة الزنا.
أدون كل شيء، فلقد استدعوني شاهداً على أخلاقيات حمدي، فشهدت له بالخير، ولم أشر لما حدث مع زوجتي حمدية.
واليوم تلقيت قرار إحالتي للمعاش، ورقة جميلة، ليست كتلك الأوراق التي كنا نتداولها قبل ثلاثين عاماً، فهي ملونة ومطبوعة بالكمبيوتر وليس بالآلة الكاتبة، ولكنها كتابة تحتشد بالأخطاء الإملائية. الأستاذ فانوس القبطي توفى وجاء بدلاً عنه كاتب شاب، لا يعرف كيف يكتب اسمه بقلم الحبر. لكن المدير عينه لأنه ابن أخت زوجته. في ورقة إقالتي عشرات الاخطاء. ويمكنني -لو كنت محباً للحذلقة- أن استغل تلك الأخطاء وارفع دعوى مطالباً بمعاش أعلى. فالشاب أخطأ في تواريخ تعييني، وعدد أيام إجازاتي، وغير ذلك. ولم يكن المحاسب الذي جاء بدلاً عني بأحسن حال من الكاتب، فقد منحني زيادة ضخمة في المعاش أضطررت لردها، ولكن لم تتم محاسبة المحاسب عن خطئه الفادح، لأنه زوج ابنة أخت زوجة المدير، كنت أود أن أسأل المدير لماذا يعين فقط من جهة زوجته ولا يعين من جهة أشقائه مثلاً، لكنني علمت أن زوجته قطعت علاقاته مع أهله واحتكرته لنفسها وأهلها. فبطل العجب.
دونتُ ذلك أيضاً، ودونت ملاحظاتي على أخطاء ورقة الإحالة إلى المعاش. وسرت في الشارع، وقد أصبح وقتي شاسع الإتساع. خلال حياتي في حي السكلابة مات أغلب من تربوا معنا في الحي، وأساساً قيل أن هذا الحي شهد معركة تاريخية، كانت مجزرة ضد المدنيين، فناح النسوة نواحاً شديداً على قتلاهن من الرجال، فأسمو الحياة بالسكلابة. وقيل غير ذلك، فقد قيل بأنها لم تكن مجزرة، بل اغتصاب جماعي للنسوة أمام بصر أزواجهن، فارتفع أنين نشوتهن وبكاء أزواجهن في وقت واحد، فأسموه السكلابة، وقيلت قصص أقل بشاعة من ذلك. وقد دونتُ ذلك كله، ودونت الإسم القديم للحي، وقد قيل بأنه لم يكن حياً بل منجماً قديماً للفحم الحجري، وقد توقف عن العمل بسبب سن قانون يمنع استخراج الفحم الحجري لأنه يلوث البيئة. لكنني أشك في هذه القصة. لأن المنطقة ليس بها أي معالم جيولوجية لها علاقة بالفحم الحجري. دونت كل ذلك ودونت أفكاري حول الأمر أيضاً. الولد حسن لم يتزوج، لقد ركب البحر ولم نعد نسمع عنه شيئاً، وأنا بصراحة لا أرغب في سماع شيء عنه. لقد مضت الحياة بي بما يكفي. عشت أطول مما يجب، لقد وصلت إلى نتيجة يعرفها الجميع، وهي أن كل حياتنا السابقة ليست سوى خزعبلات، وأننا نحيا فُرادى ونموت فرادى. لذلك توقفت عن استرجاع ذكريات بعض الأصدقاء القدامى الذين رحلوا، وجيراني في الحي، حتى زوجتي، ولولا أن ابنتي تصر على زيارتي كل أسبوعين لنسيتها هي أيضاً.
سأموت واقفاً..
دونت ذلك أثناء سيري، فلم تعد دراجتي تتحمل، لقد شاخت أكثر مني، فغسلتها وفككتها، ووضعتها في مخزن صغير.
أسكن في منزل والدي، أو فلنقل منزل استأجره والدي، ثم مات صاحبه ولم يجد والدي له أهلاً، فظل في المنزل. أتوقع أن يظهر أهل مالكه المؤجر بعد كل تلك العقود الطويلة، لماذا؟ لأن الحياة ازدحمت، وأصبح لكل شيء قيمة، فقطعة للأرض هنا لم تعد رخيصة، خاصة بعد أن بنيت المنطقة الصناعية شرق الحي على بعد خمسمائة متر. وفصل بين الحي والمنطقة الصناعية شارع معبد واسع. انتشرت البقالات، والوكالات التجارية، والمطاعم، والبناشر، والحلاقين، وبائعي الملابس ومكاتب المحامين لتوثيق العقود التجارية، لذلك ارتفع سعر المتر من الأرض. منزل المؤجر هذا يساوي الكثير، وورثته لن يتركوه، فيوماً ما سيبحثون عن نجاتهم من المستقبل في أضابير الماضي. العالم الرأسمالي وقح جداً، لذلك أصبح الشعب كله وقحاً. إنهم يتشبثون بالحياة لأنها باتت مزدحمة بالخوف من هذه الفردية الموحشة. كل شيء تغير في حي السكلاب، كل شيء، البشر والجمادات وحتى سلوك الحيوانات الأليفة. كان كلاب الحي قديما أكثر شراسة من كلاب اليوم. إن الكلب اليوم يميل إلى الهدوء ويتجنب تنغيص مزاجه بالنباح وملاحقة الأجانب عن الحي. وصلت إلى المنزل، فتوقفت بعيداً عنه قليلاً وتأملته. من المؤكد أنك شهدت أحداثاً كثيرة منذ أن بنوك بهذا الحجر الجبلي القوي، وسقفوك بجذوع النخل العتيقة المتينة. ها أنتِ يا شجرة المانجو وريفة الأغصان والظلال، لا زلتِ منتصبة بثبات في منتصف الباحة الأمامية، ولكنك توقفتِ عن إنجاب الثمر. نفس الباب الحديدي منذ سبعين عاماً أو أكثر، صديء قليلاً من أركانه، هناك بقعة سواد في مناطق دفعه وسحبه. لونه أخضر شاحب، قبيح جداً، لأول مرة أكتشف أنه بهذا القبح. بدا المنزل بأكمله كئيباً، وكذلك الحي. فسألت نفسي كيف تمكنت من تحمل كل تلك الرتابة. مكان واحد منذ ميلادي وحتى موتي، زوجة واحدة، عمل واحد، حي واحد، هل أدون ذلك؟ لكن لا، فلقد تسربت مني الحياة تماماً. مع ذلك؛ فما الذي كان بإمكاني أن أفعله اكثر من ذلك؟ تذكرت حينها مصطفى، ابن عمي، الذي هاجر قبل خمسين عاماً إلى روسيا، أصبح مقامراً، وعمل في المافيا بعد الانفتاح، ثم ألقي في السجن بعد أن تلقى تسع رصاصات في جسده، جعلته أعرجاً وبعين واحدة. لكنه خرج من السجن ومارس هوايته في النصب والاحتيال، ومارس كل الأعمال الخطرة. وسمعت أنه اصبح مليارديراً وصاحب شركة نفط عملاقة وسط الثلوج. لقد هاجر لأنه كان شيوعياً. ثم انقلب كل شيء. لم أحظ بفرصة مواجهة الخطر مثله. عشت كعنكبوت في زاوية كهف مهجور. أوقفت أفكاري السلبية ودفعت الباب، ثم ولجت إلى الصالة، في هذه الأريكة كان والدي يجلس منذ الفجر فيصلي ويقرأ القرآن وهو جالس عليها بلا ملل. كنت ابنه الوحيد، هو مثلي تماماً كان يكتفي بالموجود ولا يسعى إلى الزيادة أبداً. الركون إلى السلام جُبن مبطن. أضأت المصابيح رغم النهار الذي يغمر المنزل متسللاً من نوافذ واسعة مغطاة بزجاج ألماني قديم. لم ينكسر هذا الزجاج أبداً: اللعنة..أي عائلة نحن. أدركت حينها سبب خيانة حمدية لي. من المخزن أخرجت صناديق دراجتي، وبدأت في إعادة تركيبها: هل ستتحملين بضع سنوات أخرى؟ لقد أضحت دراجات اليوم تصنع من مواد هشة، ليست مثلك، والذي يؤسف له أكثر أن أبواق تلك الدراجات الغبية أبواق رقمية تصدر أصوات مثيرة للسخرية، أما هذه فصوتها يرن كجرس كنيسة من كنائس عصر النهضة. ألقيتها وسط الباحة الأمامية التي يطل عليها المنزل، وجئت بحقائب الأوراق والوثائق، فنثرت الأوراق فوق الدراجة، ثم أشعلت فتيلة مصباح الكيروسين وألقيته فوق كل ذلك الركام. كانت النيران صغيرة ثم عبرت موجات هواء فوق الورق فحملت اللهب لأعلى، كنت أشاهد كل تلك السنوات من الأوهام تحترق. حملتُ شعلة من النار وأحرقت أركان المنزل من الداخل ثم خرجت إلى الشارع ووقفت أراقب المنزل وهو يحترق، تجمع أهالي حي السكلابة وبدأوا يصرخون..بينما كنت أقف هادءً، ثم بدأت الجماهير محاولات إنقاذ فاشلة.
كنت أسير في الطريق الذي يقسم بين الحي والمنطقة الصناعية وسيارات الإطفاء والدفاع المدني تمر قربي مندفعة وتتجاوزني بسرعة وساريناتها تكسر صمت الصيف، عرفت بعدها وأنا أجلس على رمال النهر والصنارة منتصبة أمامي أن النيران امتدت إلى كل منازل الحي فالتهمتها وحولتها إلى رماد. فقلت باسماً: ها هي قصة أخرى تضاف لتفسير اسم ذلك الحي..يبدو أنه لا تحدث تغييرات حقيقية في هذا العالم بدون تجارب قاسية.

(البداية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى