خلدون جاويد - في ذكرى الشاعر الشهيد رياض البكري

في معترك طفولي حامي الوطيس ، كان رياض في أحد شوارع اسكان غربي بغداد يهاوش غلاما آخر . رياض ذو الشجن الشاهق والغضب البادي .. لايخيب في معركة ! كما انه لم يخسر مبدأ في الحياة .تعرفت عليه هكذا ، يافعا في الخامسة عشرة من العمر (عام 1966 )، أكبر من سني عمره بكثير ، وذلك لشمائل اكتشفتها فيه وانطبعت في ذاكرتي ولا فكاك من حنينها القديم الاّ بالموت . كان هناك أصدقاء الحي ، من الذين نهضوا عن تخوت المقهى لكي يباعدوا بين الفرقاء ! . .. هرب الغلام كسيرا بينما تخلى رياض عن عصاه اثر رجاءات وترضيات الآخرين وخصوصا خاله ( رفعت البكري ) والذي ظل يعاتبه ويترضاه بل ينتقده ومن ثم يمازحه ! وهو يلوّح له بورقة قد خبأها في جيبه قائلا له : - والله لن أقرأها لك اذا لم تتخل عن عصبيتك . بعد حين هدأ الفارس الصنديد، فانضم اليه خاله ليفتح الورقة المطبوعة . انحنى رأساهما باتجاهها فاذا بها قصيدة كانت قد أُلقيت في مهرجان كلية التربية .لم أكن صديقهما لكني نهضت بفجاجة ! وقلت : هل لي ان انضم اليكما لأستمع للقصيدة ؟ هل تسمحان ؟ رحبا بي متسائلين اذا كنت احب الشعر ؟ قلت لهما : مغرم صبابة .قرأ رفعت مستهلها الجميل وهي للشاعر المبدع محمد علي الخفاجي :
بزرقة عينيها أغوص وابحر
وأطوي شراعي في مداها وانشر
واغرق مجدافي وادفع قاربي
الى مرفأ ينآى ويمتد معبر
حملت من الشام البعيد تجارتي
وهذي بضاعاتي تمنى فتخسر
الى أن يقول الشاعر :
على جفنك الرفراف افرش مدتي
وأشرب من دلو المغيب وأسكر
لقد كانت الابيات فضاءً ملونا من مفردات صاغها الشاعر كما لم يصغ صابئي قلادة حنين لعروسه ! .. أي روعة أن يجمع الشاعر بين مفردة انيقة وشجن لاهب ! ..اخبرني رياض انه يكتب بل مولع بالكتابة وعرف أني كذلك ، لكني كنت أقل منه اطلاعا وهو الأصغر مني بعام لا بل كان وبلا أدنى مبالغة اعجوبة ! فأما أن يكون قد نشأ في بيت علم وثقافة ودرج على ذلك ، اضافة الى موهبة الشعر ، أو أن يكون هوذاته ، دؤوبا وذكيا وموهوبا وفي فترة قياسية مذهلة . غدونا وبأيام قليلة صديقين حميمين . قلما يرى الآخرون أحدنا دون الآخر ! ..قرأت أول ديوان شعر على يده . انه هو الذي عرفني على دواوين السياب وعلى الخصوص ( ازهار وأساطير ) ( منزل الأقنان ) ( المعبد الغريق ) الخ . . كذلك على نتاج الكاظمي والزهاوي والرصافي . عرفني على مجلة العربي التي قرأت فيها أجمل القصائد . كان يضع اصبعه الصغير على مقاطع رائعة من شعر ديك الجن ليقول لي : "اقرأ من هنا ... كم هذا جميل " ولا يغادرني حتى يذكرني بروعة المعلقات واهميتها ومن ثم يقول : " ركز على قراءة وحفظ قصائد الجواهري ، نزار قباني ، وفؤآد الخشن " .من خلاله اطلعت على مجلة ( هنا لندن ) باللغة العربية ، كان يجلبها لي كل مرة في حين دعاني ذات غروب الى الجلوس على ارجوحة العائلة الوسيعة في حديقتهم الداخلية الخضراء الزاهرة ، بينما ذهب ليجلب مذياعا كبيرا .. كبيرا جدا ..وضعه أمامنا ، وقال بعد ان استرد انفاسه : " سنستمع الى ركن المواهب او ادباء في الطريق ... لا أتذكر العنوان .بعد حين انسابت الموسيقى واستهل المذيع احاديثه عن الادب والادباء ، وبدأ يقرأ بعض النماذج من القصائد المرسلة اليه فاذا به يقول : " ومن العراق بعث الينا الشاعر رياض كمال الدين البكري قصيدته هذه " . وقرأ المذيع القصيدة . كان رياض يتطلع باكبار وحتى بوقار الى المذياع ولسان حاله يقول : هذا غيض من فيض ! ... ان سبيلي طويل .كنا نقرفص في أزقة الداوودي الترابية ، يكتب هو على التراب باصبعه " مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن " ويمكن ان يكون فعلن ، ويعود لينتقد أبياتي الشعرية قائلا: " لقد انتقلت هنا من البحر البسيط الى الكامل انتبه ، الكامل هو" متفاعلن متفاعلن متفاعلن " ويمكن ان يكون على زنة ( فاعلن ) في تفعيلته الثالثة او فاعلات او مجزوءا .. أو .. أو .. "رياض علمني فن التقطيع الشعري ، وأطلعني على كتاب صفاء خلوصي وبعد ذلك على الفراهيدي ... رحنا ندندن معا في كتابة بضع أبيات أي نثرثرشعريا ، فاذا أتى بالشطر أتيت بالعجز والعكس صحيح .دعانا ( رفعت ) الى مهرجان شعر في كلية الآداب ورأينا كرنفال الربيع مجسدا في روعة الشمس وجمالية " الربيع الطلق يختال باسما " والنسوة الصغيرات بأعمار الورد ورقة الفراش الحائر ! والحشد العطير في قاعة تغص بالعشرات او المئآت ، فكان المايكرفون وكان الشعراء .... وكنا هو وأنا نتوسط الحشد معجبين بل مندهشين بل دامعي الروح مكتوين بالوجد ... حتى اننا كتبنا ونحن نجلس على المقاعد بيتين اتذكرهما رغم مرور اربع عقود عليهما ولا أتذكر لمن الشطر ولمن العجز
غريبان ما بين الأوانس أقبلا
يتلون من حر الجوانح ماغلا
يرنون صوب الآنسات تشوقا
لكن طبع الآنسات تبدلا
( طبعا – هنا غريبان تناسبها دنفان او صبان لكي يستوي الوزن الشعري ... ويتلون ويرنون يجب ان يكونا يتلوان ويرنوان او ينظران الخ ... المهم لقد قيل البيتان هكذا على علاّتهما .عرفنا ان هناك عالما ساحرا هو الجامعة ، هذا الحلم الذي لازمني لسنوات طوال حتى ولجته في عام 1969 لأقرأ قصائدي في قاعة ساطع الحصري ، وكان الكثير من الزملاء شعراء الكلية مشاركين مثل حميد الخاقاني ونبيل ياسين وعبد الاله الياسري واحمد شوقي الحمداني ( شوقي عبد الأمير ) وناهدة محمد علي وقحطان صبر وعدنان علي وعدنان مولى وحسن المرواني وشعراء آخرين .... عدا هذا الشاعر الجميل الذي غاب عن هذا العالم الفاتن .كان رياض في واد آخر... في جامعة الكفاح !في تلك الظروف ، في ميعة الصبا – والشباب اليافع ، حلقت بنا اجنحة الحنين الى المعرفة والجمال ، فرحنا نحفظ الشعر ونتلوه على بعضنا ، نحضر أماسيه نهيم بعالم المكتبة والصحافة ، وفي تلك الأثناء ، تعرفنا على نخبة من محبي الشعر قارئيه وحافظيه ، فاذا بنا نكوّن منهم جماعة اسميناها " جماعة النشء المعاصر " على اسلوب جماعة الفكر المعاصر التي كان احد اعضائها محمد علي الخفاجي في كلية التربية والتي أقامت أماسيها ومهرجاناتها ونشرت كتاباتها في جرائد عديدة والتي انحلت كما يبدو لي بتخرج اعضائها من الجامعة .نشرنا بيانا – بسيطا – في جريدة الجمهورية – الملحق الأدبي – للتعريف بنا .... كان البيان موقعا باسمي ( خلدون الموالي ) . ولقد أخذنا حقا وفعلا ننشر في جرائد ومجلات هي ، المنار وكان مسؤولها صادق الازدي ومسؤول صفحتها الادبية الشاعر خالد الحلي . في جريدة كل شئ للاستاذ منعم الجادر . العرب والشعب ومجلة الاجيال والاذاعة والتلفزيون ، ومجلة المتفرج للاستاذ مجيب حسون . كما نشرنا في جريدة الجمهورية وفي ملحقها الأدبي أيضا وتعرفنا الى أهم شخصياتها آنذاك ( الكلام في ما قبل 1968 ) منهم الاستاذ عبد الوهاب الأمين ، مهدي الفايق ، الشاعر كامل خميّس ، الذي كنا ننظر اليه باكبار خاصة جراء تحقيقه ونشره لديوان الشاعر العراقي الرقيق عبد القادر رشيد الناصري .في تلك الأثناء ، ونحن في ذروة اليفاعة ، في لقاءات مقاهي وزوايا حفظ تشبه الدروشة ، أطل علينا شخص لا كالأشخاص ، انه شاب أكبر منا بقليل لكنه ثقافيا شديد التنوع كثير الاطلاع ، وقد اصبح بين عشية وضحاها صديقا لنا ، بل راح ينتقد هذا التجمع العفوي لعناصر مختلفة الانتماءات فهذا قومي الرائحة وذاك بعثي خاله وكيل امن وهذا شيوعي قح وهذا ذو جذور ... المهم استطاع أن يشتتنا واحدا بعد الآخر ، يفرق شملنا ويجعلنا شذر مذر . انه لاينفك يذكرنا بانتماءاتنا العائلية وجراء ذلك حدث الآتي ( ق – ذهب الى قوميته يتمطى . أ- سجل بعثيا . ع- ظل قوميا ليبراليا لايصلح لأي تجمع ! . ع أ الضابط الشيوعي الشاب المطرود من الجيش بقرار من جارتهم ( صبحه قله بالوغ !) التي توعدته طردا وبرّت بوعدها ! عاد الى الجيش وترك الشعر والشيوعية ! ونسانا نهائيا ! ) رياض وأنا اندمجنا في عالم أبي شاكر ، وبدأنا نتهرب مما شكلناه ! .بدأنا بالأسئلة الدافئة الفن للفن أم للحياة ؟ لماذا استلبت الطبقة العاملة من حقها التاريخي ؟ لماذا سحقت المرأة واصبحت عبدة للعبد ؟ كيف يجب ان نحرر الطبقة من الاستغلال ونعلي بمكانة المرأة ونحترم حقها في العيش الفاضل ؟ ما الفرق مابين الديموقراطية والبرجوازية والديموقراطية البروليتارية ؟ من معنا ؟ من ضدنا ؟ .خرجنا من الأسئلة لندخل في الساخن ، رحنا نقرأ الترسانة الفكرية السوفييتية على وجه الخصوص ، غوغول ، تولستوي ، ديستوييفسكي ، غوركي وخاصة كتابه المهول الام ، تورجينيف ، لير منتوف ، اتماتوف ، ماياكوفسكي . يسينين ، باسترناك ..و ... و .. وعشرات غيرهم اضافة الى من يشبه من مابين تقدمي الشعوب : الحبوبي وطنيا ، الجواهري شاعرا تقدميا مدافعا عن حقوق الكادحين !
لكن ّ بي جنفا عن وعي فلسفة
تقضي بأن البرايا صنفت رتبا
وان من حكمة ان يجتني الرطبا
فرد بجهد الوف ٍ تعلك الكربا
درسنا محمد صالح بحر العلوم ، شاعرا مناضلا أفنى الأعز من سنوات عمره في شعاب النضال وعانى وكابد السجن والتعذيب ... اعجبنا بالذهن الرياضي للشاعر بحر العلوم وهو يفلسف العلاقة بين الخاص والعام والمفرد والكل
لو نجا العالم في مجموعه"
فنجاة الفرد بالضمن تنال
واتصاف الكل في ظاهره
دون ان تعرض للجزء محال
.رحنا نبحث في تراثنا المشرق عن اضاءات وألوان متنوعة ، وثوريين في مختلف الأحقاب ، عن محبي الأوطان وشهداء الفكر ... أحببنا عروة بن الورد وهمنا بسليك بن سلكة .كنا بصدد تلقط العشرات من الامثلة الاقليمية والعربية والعالمية وبذا فقد ارتفعت الحساسية الطبقية عندنا حتى غدونا خطرا على بيئتنا الصغيرة وغدت هي الاخرى وبالا ورعبا مسلطا علينا .وما عادت النصوص الشاعرية والرومانتيكية الثورية وحدها شافية لهمومنا ، كنا ندرس ضرورة الفن وواقعية بلا ضفاف وملاحظات غوركي الادبية وننتهي الى ضرورة ان يكون الادب والفن رافعة انسانية حضارية تتسامى لا باتجاه اسعاد شعبنا فحسب وانما باتجاه شعوب المعمورة جمعاء . في تلك الظروف انتمى رياض الى الحركة السياسية وفي الغليان السياسي ايام ( عبد الرحمن عارف ) وقبل مجيئ البعثيين الى السلطة في العراق . كان عزيز الحاج قد انشق عن الحزب الشيوعي وغدا اسما معروفا وخطرا في الشارع العراقي ، وسمى اسم انشقاقه – القيادة المركزية . وغاب رياض عن ضياء النهار ، وبدلا من أن أراه ، كنت ارى سطورا حمراء تملأ جدران الحي . شعارات سياسية لايمكن ان يعرف من هو كاتبها ، كل ذلك قد أشاع الفرح الغامض في قلوب عوائل الحي كما دبت الشكوكية بين الأبناء .ملئت البيوت بالمناشير والجدران بالشعارات ( والجدار – والحق يقال - كان منذ عام 1934 هو جريدة الحزب الشيوعي العراقي ) وبلا شك فان غياب الديموقراطية يدعو الى الكتابة الحائطية ، وكان رياض يعمل في مجالات القصيدة والتنظيم والحائط وشؤون الفكر الاخرى بل لم يشف غليل رياض أي من هذه النشاطات حتى لونها بدم الشهداء . وكان ابو شاكر حامل الكتاب انا كارنينا نهارا هو ذاته حامل السطل والفرشاة والصبغ ليلا .وضع رياض خطاً غير منظور للعلاقة بي ألا وهو يافلان ان لم تصعد معنا الى القاطرة .. الآن وفورا ، فنحن لن ننتظرك ... حقا لم ينتظراني .. ولقد اردت لمشواري ان يكون باسلوب آخر .. وقد قضيت أغلب تلك الفترة مكابدا البعد عنهما ، فلا مجال لعودة أيامنا ( الرغيدة ) تلك ، حيث عالم الشعر وهدأة اللاانتماء والغزل وأجواؤنا الجميلة بملاحقة التراث ، بالتعرف عليه ، حيث عشقنا لامرئ القيس وعمربن ابي ربيعة وصريع الغواني وأبي نؤآس وديوانه – سفر الجمال والعقوق والدهشة – وحيث سلم الخاسر ، ودالية ابن الحباب والحسين الضحاك وكل اصدقاء المثالب الزاكمة !غاب رياض طويلا ، كنت احس بحسرة ووحشة كبيرتين ، لاأقرأ قصائدي لأحد بمستوى رياض ولا أحد يقرأ لي .. أيضا قصائد المربد التي حفظنا جانبا منها لتونا مثل يابن الفراتين ومرحبا ياعراق لنزار قباني وقصائد اخرى جميلة لشعراء عراقيين وعرب كلها كانت ترن باذني وقد ركزت في حافظيتي على يابن الفراتين لأن رياض البكري بطل الشعر والنضال قد اوصاني بأصالة وجزالة الديباجة الجواهرية – هكذا كنت افكر واحفظ الوصية وأتلهف لرؤياه .كنت في نهاية عام 1969 او بداية 1970 لا اتذكر ، قد رثيت مصطفى جواد بقصيدة في قاعة ساطع الحصري كلية التربية ... سمع بصداها رياض فقصدني في الكلية . وكان كل شئ فيه قد تغيّر ... فيزياء الملامح ما عادت طفولية ، غدا الشاربان طويلين ووقورين ونظراته حادة بل قاسية . كل شئ في سماته هو قاب قوسين او أدنى من الغضب .. كان معه ( أبو شاكر ) و ( عقيل فلثفة ) كان ينطق السين ثينا وهو ديناصور قراءة ! لسان حاله يقول اذا احببت العالم فيجب ان تطلع على ماعند ه وتتعرف على اجزائه . كان هو الآخر على تلك الدرجة من الجدية بحيث لامجال معها للطرافة القديمة التي كنت اوجهها له وهي بالحقيقة بيتان شعريان جميلان لعباس بن الأحنف
وشادن ٍ قلت له ما اسمك
َفقال لي باللثغ : عبّاث
ُفصرت ُ من لثغته ألثغا
ًأقول أين الطاث والكاث ُ
كان رابعهما أبو سندس ، ذلك الشاب الهارب من بيته ليلا بينما اعتقلت زوجته وأولاده .. انه مقاتل عراقي في فصائل الثورة الفلسطينية أيام بيروت . انه بطل كما كانوا يتهامسون ، أما سيادتي المتخبط نوعا ما ، فلم يتخذ صديقا او رفيقا ( ظلا بظل ) الا أبا سندس الصادر بحقه كتاب القاء قبض .وفي ذاكرتي ان رياض قد تضلع في صفوف الفكر الفلسطيني وصحافته وبالأديولوجيا العالمية وسجالاتها وتناقضاتها فأخذ يحلل مواضيع عدة يعلق في ذاكرتي منها موضوعة الاصطفاف السياسي بعيدا عن المنشأ الطبقي وفي حالات منها : امكانية ان يعيش الكادح في كوخ بينما يتطلع بورجوازيا او ان يعيش البرجوازي في قصر بينما يموت متفانيا على الطريقة العمالية وأيضا قضايا الرفض وتحويل الكلمة الى طاقة ! الى قوة مادية ! واما الكلمة الشعرية فهي ومض واخز للامراء والسلاطين والبطانات الخ ..اردف رياض متسائلا عن امكانية ان اخبئ قصائده عندي وقد أخبرني : " ظروفي الامنية مزعجة وانا اخاف على القصائد " كل هذا الكلام يجري امام هذا المبعّث حديثا و( اللزكه ) ، أي الذي لصق بنا كلصقة جونسون . أمام هذه العلانية واللآصيانة والاستخفاف بالخصم ، لم أمتلك سوى أن اعتذر ! ... ظل هذا الاعتذار جرح الزمان بالنسبة لي .! .اقبلت اخته الصغيرة ذات يوم ، وبعد عام من هذا اللقاء ، قائلة لي بهمس : " رياض يريدك .. هو الآن في البيت .. تعال حالا " كانت امسية صداقية من احب مايكون قرأ فيها رياض قصائد تضاهي قصائد سميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش . لقد ارتقى رياض جماليا وسياسيا الى مصاف اللوحة التعبيرية ، وقد شحنتني ابداعاته تلك بطاقة هائلة على التأمل واعادة النظر والتأكد من انه بالامكان الحفاظ على صدق لحظة الابداع والجمال لو كان المرء صادقا حقا عندما يكتب ، ولا يهم انه يكتب غزلا ام سياسة .اثناء ذلك جاءت الاخت الصغيرة مرة اخرى ، تتطلع الى رياض بخبث بينما اعطتني صورة له مع فلسطينيين آخرين ، انه يحمل المدفع الرشاش .. انظر ... هذا رياض صديقك ... وفوكاهه يقول لنا : هذه هي الحياة الحقيقية ! .جرى اعتقال رياض والافراج عنه مرة أيام الشعر ! ومرة اخرى أيام السياسة ! وفي المرة الاولى لم يفسر دماغي الصغير معنى ذلك بعمق ، والآن أقول : ربما كان رياض متورطا بهذه الامور منذ نعومة اظفاره ، أما في المرة الثانية فكان الوضع خطيرا جدا والاعتقالات في صفوف عزيز الحاج على قدم وساق ... وقد طال غياب رياض في المعتقل .تحت جدارية جواد سليم ، كانت صدفة العمر الدامعة ! ..احتضنته كما احتضن ابي وامي واختي واخي ... اخذته معي ...كنت وبحنان بالغ ، وباحساس يفوق الألم برغبة جامحة أن اسهر مع رياض تلك الليلة حتى لو تصبّحت بمشنقة .اخذته الى حجرة اسكن فيها مع اثنين من الفنانين العراقيين .حدثني عن استشهاد أبي سندس في حرب النضال ، عن بطولة عقيل فلثفة الذي كان يقاتل حتى انسحاب آخر رفيق من رفاقه ، يشهد على ذلك قادة فلسطينيون كبار عندما كانوا يضطرون على الانسحاب وينتظرون من يتعوّق من رفاقهم ، كان يبرز لهم عقيل خارجا من سحابة دخانية حاملا رشاشته ملتحقا بهم ... كان آخر من ينسحب .حدثني انه كان أي رياض مسؤولا لصفحة ثقافة في احدى المجلات الفلسطينية المعروفة . كان يكتب باسم راء الف و مهماز و مسمار وبافل الى آخره من الاسماء . صباحا تبادلنا معاطفنا للذكرى . غادرني المغادرة الأخيرة ، اعطيت ورقة التلفونات السرية التي نسيها رياض في معطفه الى ( ابو شاكر ) الذي راح ينتقده على عدم الانتباه والاستخفاف بمبدأ الصيانة . سمعت انه اعتقل ، انه يخضع الى جلسات تعذيب عديدة ، وان اسمه اصبح مشجبا او شماعة لتعليق كل الاعترافات عليها . وبذا غدا اسما كبيرا في المعتقل ( غدا هو عزيز الحاج ) بينما كان يفترض بعزيز الحاج ان يصمد وان يكون رياض البكري ! وهنا على كل من يقود الناس ان يفي بالثقة التي توليه اياه الناس فارواحهم بيده . يجب ان يعرف الرئيس او القائد او البطل كم هو جدير بمنصبه . يجب ان يجاري السلوك الفكر أي يجب ان اموت واقفا مادمت طرحت وببطولة فكرة الكفاح المسلح . رياض كان كبش الفداء . وكم من رياض متألق قد آمن بفكر مسؤوله وقد خيبه ذلك المسؤول . وكم نحن بحاجة ماسة الى الصدق والنبل والبطولة في زمن رديء .طالبه معذبوه باعترافات عديدة ، احدها هو ان يعترف بكونه رياض البكري وليس الشخص اللبناني الذي ينتحل رياض شخصيته . رفض رياض ذلك . ظل يقول بانه لبناني قادم لزيارة العراق ، ظل يتحدث باسلوب " شو بدك .. خيّو "الخ .. ظل بطلا هيلينيا بينما كان قد ظهر الحاج من على الشاشة في تلفزيون بغداد مع مدير الاذاعة الصحاف وهو يقئ روحه من الخوف والندم واهانة المبدأ ولذلك هو الآن حي . اني احترم الضعف الانساني لكني على الجهة الاخرى اشير الى ضياع حيوات الناس جراء ذلك الضعف فكيف احترم ؟.خلفية الأمر ( حول اعتقاله ) ان شاعرنا كان يحمل هوية فلسطينية – لبنانية ، يستطيع الذهاب والاياب بموجبها من والى العراق ، وانه بطبيعة الحال يزور اهله سرا ( وكانوا قد انتقلوا الى احدى محافظات الجنوب ) راقبه رجال الامن واعتقلوه في الفترة مابين 1976-1977 .فجرا ، كما أخبرني ( أبو ذر – عامر الداغستاني ) نودي على رياض بعد ان ابلغوه بأمر اعدامه حتى الموت . استيقظ المعتقلون الذين معه . صعد الى حبل المشنقة بجبروت العظماء في التاريخ ... هناك اعترف ولأول مرة صارخا صرخته الشجاعة مناديا : اخبروا أهلي وأصدقائي بأني الشاعر رياض البكري ... مت ولم اعترف ... راح رياض يهتف " عاشت طبقتنا العاملة العراقية " .. " عاش الحزب الشيوعي العراق " .. وداعا يارفاق ... وداعا ... وداعا .من واجبي ان ابحث عن اسمه في الصحافة الفلسطينية لأعوام 1969-1976 . حسبي ان اعود الى أعداد جريدة الجمهورية العراقية وملحقها الأدبي لأبحث بالذات عن قصيدة موقعة بحرفين ( ر . أ ) وهي من أجمل ما قرأت في حياتي بل اني سجلتها في جهاز التسجيل أسمعها واتغنى بها من دون ان ادري لمن القصيدة . ومن أغرب الصدف أني اسمعتها الى رياض أثناء مجيئه الى العراق سرا – ظل رياض يحدق بي فيما اذا كنت امازحه ... انتبهت أن ( ر . أ ) يعني رياض البكري ذاته . خجلت ايما خجل أمامه ، وبدأت أضحك لغباوتي ... كانت عيناه تتطلعان باتجاهي بملامة وسخرية ! .قرأت له في مجلة أصوات قصيدة عن كردستان ، وقد نضجت تجربته وارتقت أقيامها اللغوية والتصويرية ... الاّ أن شعره ضاع كما ضاعت حياته بل انها أنارت لي وللكثيرين من المتزاحمين ( مثلي ) من اجل قبسة ضوء من كفه المنيفة ، من طريقه القدسي الأشم ... من تبانة نجوم لا متناهية ، كان هو ولايزال ، مع شهداء عراقنا الحبيب ، ساطعا في العين والقلب والضمير


أعلى