إيهاب الحضرى - فى مديح الخوف!

عبر العصور كان الخوف مُحركا لكثير من الأحداث والسلوكيات، لهذا اعتمدت العقائد فى جانب منها على الترهيب، لتحفيز البشر على التحلى بالأخلاق، لكن العقاب الإلهى المؤجل سرعان ما دفع بالخوف جانبا، وبعد فترات من المثالية اكتشف الإنسان أن الأمر يتطلب اختراع عقوبات فورية للحفاظ على المجتمعات، ومع الوقت وجدت القوانين أيضا من يتحايل عليها، ثم جاء فيروس" كورونا" وبث الفزع بجرعات أكثر تركيزا، لأن الخطر أصبح يدور فى محيطنا، غير أن النسيان عادة ما يهاجم الذاكرة سريعا، طالما لم يقترب الموت بصورة مباشرة من فلك صاحبها، لهذا أصبح الردع بالقانون فرض عين، لأن النهاية لن تكون حكرا على المستهترين.
ما حدث يوم شم النسيم تحديدا يحمل العديد من الدلالات، بشرط أن يتم تحليله على نحو صحيح، فقد خلت الشوارع بصورة لم نشهدها منذ عقود. بقاء الناس ببيوتهم دفع البعض إلى الإشادة بالتزام المواطنين، والحديث عن ارتفاع درجة الوعى، التى جعلت الغالبية يتنازلون عن احتفال سنوى يحتل لديهم مكانة خاصة، ورغم قناعتى بأن ما حدث كان استثنائيا، إلا أننى أرى أن تحليله بهذا الأسلوب أمر يفتقر إلى الدقة، فالوعى سلوك ممتد، لا يُستحدث فجأة ولا ينشأ من عدم، ومؤشرات الأيام السابقة كلها تؤكد أن الآلاف كانوا على استعداد لغزو المتنزهات والشواطىء، بعد أن اعتقدوا أن تخفيض ساعات العمل فى بعض المؤسسات منحة مجانية، رغم أنها تضحية اقتصادية تهدف لحصار وباء قاتل.
التزام المنازل إذن لم يكن نابعا من ثقافة جديدة تتشكل، بل نتيجة إجراءات صارمة تم اتخاذها لتفادى حدوث كارثة، بدليل أن الحركة الهادرة عادت بعدها إلى الحياة بمعدلات مرتفعة، ولا أعنى خروج المضطرين للذهاب إلى أعمالهم، بل أقصد هؤلاء الذين يملأون الطرق بدعوى أنهم ملّوا من" حبسة" البيوت.
سد المنافذ هو ما دفع الغالبية للبقاء فى منازلهم، مثلما جعلهم الخوف من الغرامات المالية يقاطعون الشوارع أوقات الحظر، وقبل أن يسارع بعض هواة جلد الذات إلى اتهام المصريين بغياب الوعى، أؤكد أن أزمة الفيروس كشفت أن الاستهتار سمة عالمية، وكلنا يذكر ما حدث فى إيطاليا ودول متقدمة أخرى، مما دفع حكوماتها إلى اتخاذ إجراءات حازمة، وفرض غرامات باهظة أجبرت المواطنين على الإذعان الجبرى، وهكذا أثبتت التجربة أن الغالبية العظمى من مواطنى الكوكب، ينطبق عليهم المثل الشائع:" من أمن العقاب أساء الأدب". ومن لم يشعر بالخوف من" كورونا" أصابه الفزع من الوقوع تحت طائلة القانون.
كثيرا ما تعرّض الخوف للانتقاد عبر العصور، خاصة أنه كان وسيلة لإسكات الشعوب عن نيل حقوقها، لكن الواقع أثبت أنه مفيد فى بعض الأحيان، لضبط سلوكيات لم تعد تؤثر على أصحابها فقط، بل صارت تُهدد العالم كله، بعد أن كان كل بلد يظن أن ضبط حدوده كافٍ لسلامته، ثم جاء الفيروس لنكتشف أن الظروف تغيرت، فانهارت أسعار البترول وتهاوت اقتصاديات دول عديدة وفارق الآلاف أحبابهم، بفعل فيروس يعيد رسم ملامح الكوكب، ويضطرنى على غير العادة للكتابة.. فى مديح الخوف!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى