● محمود درويش - غزال يبشر بزلزال.. "في رثاء غسان كنفاني"

● من الطبيعي أن يكون دمُه قد جفّ . ومن الطبيعي أن يكون أصدقاؤه قد عادوا إلى لغتهم . ومن الطبيعي أن نستعيد قدرة الكلام عنه كما نتحدّث عن الأنهار التي اخترقتناوذهبت .
وهذا ما يحدث لي : أيام وأيام أحاولُ فيها أن أعتادَ هذا " الطبيعيّ" لأكتبَ عنه في هدوء . ولكنه يطردني عن الورق ، فإنّ حبره لم يجفّ . هو الذي يمنعني من أن أفي بوعدي ، هو الذي يمنعني عن الكتابة.
الكتابة ! كم نتساءل : ما هي؟ ونتعثر. ذباب كثير يحطّ فوق الكلام الجميل .
وكأنه الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجوابَ القاطع الساطع ، وكانت الشهادة شهادة . وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخمَ الدم . وفي وسعنا أن نقول : إن غسان كنفاني قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف ، وأعطاه قيمة الدم .
فيه حسمٌ لتعدّد أشكال سوء الفهم والتفاهم . وفي كتابته سطوة اليقين . من يتقن قراءته يطرح الأسئلة على مستويات مختلفة .
هنالك من يعتبر الحياة اتهاماً وخيانة ، فيُثني الكتابة عن فعاليّتها لأنّ الحريّة لا تأتي بغير الموت !.. ومن هنا ، يتحوّل الموت لدى هؤلاء إلى هدف في حدّ ذاته . " أنتَ متّهم إلى أن تثبت موتك ". داءٌ شاع في حياتنا الفلسطينية . فاتّخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم . أطلقوا النار على الذات مرّة ، وانتظروا رصاصَ الأعداء ، مرّة أخرى ، ليكون معيارَ الجدارة . هذا الطراز ذاته من النظر إلى الحركة وإلى الأشياء يحوّل جثة غسان كنفاني إلى قاعدة لاغتيال الكتابة . وهي ، بذلك تجرّد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاّقة عدا الموت .
وهنالك ، هنالك من يُعطي الكتابة قدُسيّة الانفصال ، وشَرعيّة الطلاق عن المغامرة ، والاحتيال على الحياة والخطر . هنالك من يعتبر الكتابة غاية في حدّ ذاتها .
ولكنّ غسان كنفاني هو كاتب الحياة . كان يكتب لأنه يحيا . وكان يحيا لأنه يكتب ويُحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكانة المستقبل . لم يكن الموتُ هدفه لأنه لم يكن عاجزاً عن الحياة في الكتابة ، ولأنه لم يكن بعيداً عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع . وكان توحّده في الفعل الكتابي ، والذي يبلغ حدّ التصوّف ، نوعاً من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسرى الحلم العظيم .
لقد سقط غسان كنفاني في ميدان الصراع . سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي . وقد اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في السلاح . ولذلك ، فإنّ الدفاع عن غسان كنفاني ، أمام أخطاء من لا يرى فيه غير موته ، هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة .
ويعرف الكاتب الثوري أنّ أداة التعبير عن فاعليّته الاجتماعية تأخذ شكل الكتابة لأنها تميّزه وسلاحه . وليس بوسع الكتابة أن تحقق أثرها النضاليّ إلا إذا كانت كتابة ناجحة . فالفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن ، تحت أي شعار كان ، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء . وقد كان غسان كنفاني فعّالاً ومؤثراً بإتقانه مهنة الكتابة ، بخصوصيّته الفنية الجميلة ، وبطريقة توظيفه هذا الجمال . وليس بانقلاب المعادلة .
لن نلتقي به بعد ... لن نسمع مزيداً من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائماً بقوة كلماته التي لا تموت . كم كتب الفلسطينيون وماتوا . ولكنّ حبرَهم كان يجفّ مع دمهم . كتابته هو قد تكون هي النادرة النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها . وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني .
لماذا هو .. لا سواه؟ تلك هي الهدية . ذلك هو النجم . هو الموهوب الذي عرف كيف يربّي موهبته وفي أي نهر يضعها .
لقد تمكّن غسان كنفاني من أداء دوره ، لأنه له دوراً ، ولأنه مؤهّل ، فنيّاً ، للقيام بهذا الدور . كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيّم حتى الصعود المتمثل في واقعيّة البندقيّة . وفي عمله الكتابي الذي مارس من خلاله دوره الاجتماعي والوطني تاريخ الحركة الفلسطينية في قلب فنان . لقد كان ثوريّاً من حيث هو كاتب ثوري . لم تُنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد .
كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب . ولكنه كان يعرف أيضاً أن قيمة هاتين المسألتين مشروطة ، لإنتاج الفنّ ، بإتقان تطبيق المسألة الأخرى : كيف يكتب .
لم تسلم كتابة غسان من الاتهام حين ارتقى بشكله الكتابي من حالة السكون الوصفي إلى حالة أرقى وأصعب بتأثير تعقد القضية التي تحتويه . ولم تسلم من مواجهة هذا السؤال الأبدي : من يفهم هذا الأسلوب ؟ لم يكن غسان كنفاني سهلاً كما يبدو لقرّائه السطحيّين . صحيح أنه كرّس كلّ طاقته الخلاّقة ونشاطه الاجتماعي في خدمة قضيته الكبرى . وصحيح أنّ هذه القضيّة ، بجماهيرها وأشكال صراعها ، كانت هدفه العظيم . ولكن الكتابة ، كقضية ، كانت أيضاً هاجسه . وأنّ التعامل مع سؤال مثل "قضية الكتابة " جعله قادراً على التطوّر الدائم وحيّاً إلى هذا الحدّ .
لم يستطع غسان كنفاني أن يكون مؤثراً وفعّالاً إلا لأنه كان كاتباً محترفاً .. حتى في كتابته الصحفية أو اليومية كان شديد الخصوصية والتميّز والإتقان . رشيقاً ومتوتراً كغزال يبشّر بزلزال .
كان ممتلئاً بحيوية نادرة في هذا الجيل . كان مسكوناً بكهرباء لا تنضب . ولم يترك لنشاطه الواعي مجالاً واحداً للراحة . لم يقض إجازة لاستعادة قواه بين رواية وأخرى ، أو عمل وآخر . لم يذهب للامتلاء بالتأمّل من أجل تنفيذ عمل كتابي جديد . كان يجدّد وقوده الإبداعي بتبذير قواه . كان يتزوّد بالطاقة تلقائياً ، فالذاكرة الجماعية لا تستنزف . وكان يستعيد ملء طاقاته بعمليات تفريغها الدائم .
هل كان حقاً يشعر بموته المبكّر ، فأطلق ينابيعه إلى هذه الدرجة من الإسراف ؟ هل كان هاجس الموت يستدرجه لصبّ طاقاته في وقت قصير ؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية - البداية دافعاً لتناول كل أشكال التعبير من قصّة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث ونقد ، ليسجّل دمه على أصابعنا وذاكرتنا ؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة؟
ربما . ربما كان هذا السباق أحد أجمل تجليّات "الأنانية" الخلاّقة والتفاني في آن واحد . إنها شكل نادر من أشكال تحقيق حياته في سياق تبذيرها في حياة الآخرين . وهكذا تتحول أنانية الفنان إلى نهر كريم .
إنّ الذين عرفوه ، عن كثب ، كانوا يعرفون مدى حيويته وقدرته الثمينة على العمل . وكانوا يعرفون أيضاً حرصَه المرهق على تحقيق ذاته الفنية . كان يقوم بكل الأعمال العامة طيلة النهار . وفي آخر الليل ... في أول الفجر كان يذهب إلى كتابته "الخاصة" ، إلى كتابته الفنية ، فلم يكن متاحاً له أن يتخصّص بشكل علني ، كان يحترف الكتابة سرّاً . لماذا ؟ لأنه فلسطيني ... ببساطة لأنه فلسطيني .
لم يقل أحد إن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم . سأقول : إن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم . ذلك من فرط إيمانهم بفاعليّة الأدب الذي قدّم لهم ، ومنهم ، تعويضاً عن مهانات ، عندما فقدوا كل شيء ولم يملكوا إلا كلمات . وذلك لأنه استمدّ منهم القوة ليؤسّس لهم العلاقة . نادراً ما يسطو الوطن ، كما يسطو على أدب الفلسطينيين . ولذلك ، يدرك الفلسطينيون ، وبحق ّ، أنهم هم الذين خلقوا أدباءهم .. ولذلك أيضاً يطالبونهم دائماً بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية ، ولا يسمحون لهم في أن يكونوا أقلّ من جنود أو قدّيسين . ومن هذه العلاقة الصارمة ، من هذه المُطالبة التي تشمل كل شيء يجد الأديب الفلسطيني نفسه "يسرق" حرفة الأدب سرّاً . وفي النهار عليه أن يمارس أشكالاً أخرى للتعبير عن التزامه بسلطة الوطن !
هكذا كان غسان كنفاني يغتصب كتابته الفنية من الساعات المخصصة لنومه . ولم تكن الكتابة إلا نتاج علاقته بفلسطين – الوطن والحلم والصراع والجماهير والمنفى . كان أكثر من كاتب . لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف [ للتمييز ] بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا : كان كاتباً ومناضلاً . ليس الأمر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتباً مناضلاً .
كثيراً ما يُجابَه الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام : هل أنت كاتب أم مناضل؟ . في مرحلة تاريخية معينة يحدد الكاتب المناضل بأنه الكاتب الذي يعبّر عن حركة القوى الثورية .. عن حركة التجديد . وغالباً ما تكون أداة تعبير الكاتب عن اندماجه بقوى الثورة وهي الكتابة . وقد بقي غسان كنفاني مطارَداً بهذا السؤال إلى أن بلغ الشهادة ، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان .
كان نشاطه الكتابي متعدداً . والطريق التي سُفك فيها دمه محرومة من الوصف . لقد رسم جسده الممزّق حالات القضية الفلسطينية .. لقد حقق الأسطورة .
• كم من صديق رثيت . ولكن لم أحس بأنني أرثي نفسي ، فأعيد صياغة حياتي ، إلا عندما حاولت الإمساك بطرف هذا البركان : غسان كنفاني.
ماذا بوسعك أن تفعل ؟ حقاً ، ماذا بوسعك أن تفعل؟ هكذا ينقضّ الكاتب على نفسه في حضرة الكارثة التي لا يردّها قلم . ولعلّ مثل هذه الحالات التي تنتقص من جدوى الكلمة وقوّتها في سياق المقارنة مع عناصر الطبيعة أو الفعل الهائل هو الذي خَلقَ ، منذ القدم ، تقليدَ عقد المقارنة الظالمة بين الكلمة والفعل . ليس الخطأ ، دائماً ، أن نقدّم إجابة مخطئة . أحياناً وفي مثل هذه الحالة بالذات يأتي الخطأ من مجرّد طرح هذا السؤال .
وإن الموت حادث . ولكن هنالك نوعاً من الموت يأخذ شكل الإجابة على معضلة أو مقارنة . وهكذا يتحوّل مصرع الكتّاب المناضلين إلى دلالات ورموز . وهكذا كان مصرع غسان كنفاني شهادة فاعلية الكتابة لا نفياً لها كما يتصوّر الميكانيكيون والعاجزون أمام حركة العلاقات ، كهؤلاء الصبية القادمين إلى اسم الثورة من أقاليم العجز والإحباط والقبح ، ليعمّموا عاهاتهم على الورق وعلى نفسية البشر ، فيتّهمون الفنّ بالرِّدّة ، ويتهمون الحياة بالخيانة .
• صديقي غسان ! كم من صديق ودّعتُ ، ولكن لم أودّع مرحلة من حياتي إلا في وداعك الأخير .
كان آخر ما أنتظر من كوابيس هو أن أقدم لإعلانك السابق عن وجودي منذ عشر سنين . لقد ولدتُ قبل ذلك ، ولكنك أنت الذي أعلن ميلادي . لم أقل لك : شكراً ، فقد كنتُ أحسب العمر أطول .
الآن نقول : أدب الأرض المحتلة ..ها ..ها ! ولكن الحالة كانت تختلف عامئذ . فقد كنا مجموعة من شباب دون الثلاثين نفتقر إلى أدنى مقدّمات الردّ العمليّ على الهزائم التي يعاصرها وعيُنا وعارُنا . وكنا نحاول كتابة الشعر دون أن نعي أنه شعر . كنا نصرخ ، نتوجّع ، نحتج ّ، فلم نملك أداة تعبير أخرى . كانت أغلبية مواطنينا تسخر منا ، لأنها تعرف طفولتنا ومراهقتنا وصبانا معرفة لا يليق بها الإعجاب . صبيان يكتبون شعراً . وكان لقب "شاعر" طُموحاً قاسياً يعذّب . وفي أحسن الأحوال كان بعض المعلمين يقول: مبتدئون لهم مستقبل . حتى العدو نفسه لم يكن يكترث بنا بشكل جاد . وفي الأمسيات الشعرية التي كنا نقيمها في القرى كان الفضول والاعتبار السياسي وبنات المدرسة هي التي تشجّعنا . فقد كان الشعر "المعتبَر" .. الشعر المقبول ، أنئذ لدى الناس والصحف هو الشعر القادم من الخارج .. هو الشعر المصنوع خارج الأرض المحتلة .
وكانت النجوم الشعرية الرائجة في العالم العربي هي ذاتها الرائجة لدى صحف العدوّ باستثناءات قليلة . ولم نسأل يومها : كيف يملك الشعر كل هذه القدرة على الاحتيال فيكون مطرب الأضداد ؟
وبقينا مجهولين ...
إلى أن قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة : الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلة ، فانقلبت العلاقة داخل الأرض المحتلة وخارجها . ومشى التطرّف إلى نقيضه المتطرّف : لا شعر إلا في الأرض المحتلة !!.
الفضيحة معروفة . ولا أضيف هنا جديداً . وسأعترف بأنّ شهادتي لا تتمتع بأية قيمة عدا قيمة الاعتراف : نحن الذين كنا نكتب ما سمّاه غسان "شعر المقاومة" لم نكن نعرف أننا نكتب "شعر مقاومة" وقد دهشت ، قبل سواي ، بهذا الشغف السياسي بما نكتبه . كل شيء قابل للتفسير كأن نقول : مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح على تقديس كل ما يَرد من أرض فلسطين . ولكن ... ولكن بعضنا داخ من اللذة ، وبعضنا صار يصمّم القصائد لحناجر المذيعين ، وبعضنا خاف المسؤولية وقلِق . وبعضنا أدرك أنها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي . ويومها .. يومها كتبت :
" أنقذونا من هذا الحب "..
ولكننا نعرف جيداً أنّ محاولات إلغاء الشعر العربي الثوري كله بواسطة خطب حماسية أو بكائيات يكتبها شباب في الأرض المحتلة ، ليست من صنع غسان كنفاني .
إنّ ما فعله غسان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلّة ، وإضاءة كل موضع صمود يمارسه أبناء الشعب الفلسطيني هناك . وكان الشعر ، ولا يزال ، أحد وسائل التعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصمود .
كان اكتشاف العرب بأنّ العرب في فلسطين المحتلة يتكلمون اللغة العربية ويحبّون بلادهم ويكرهون الظلم اكتشافاً مذهلاً .. مذهلاً حتى الخزي . ومع ذلك أتاح هذا الاكتشاف للصوت العربي القادم من هناك سعادة الإحساس بالانتشار والتغلّب على الأسوار . وكان وعي أصحاب هذا الصوت بوجود من يستمع إليهم حافزاً لنموّه وتطويره لدى البعض ، وعقبة أمام تطويره لدى البعض الآخر الذي اكتفى بالجغرافيا موهبة غير قابلة للمناقشة .
لقد دلّ غسان كنفاني الرأي العام العربي على أدب الأرض المحتلة . وأمّا المبالغات واختلال الموازين فتلك مسألة تخصّ الذين درسوا ما قدّمه غسان . لم تكن لفظة "مقاومة" رائجة في الشعر هناك قبل أن يطلقها غسان عليه . وهكذا أيضاً دلّ المسمى على اسمه ...
وإذا كان غسان كنفاني قد شمل ، بهذه الصفة ، كل من كتب باللغة العربية في الأرض المحتلة ، فلأنّ أفراحه بما يجد كانت تشمل الكتّاب وأشباه الكتّاب ، والمقاومين واللامقاومين ، لأنّ أفراحه كانت تشمل اللغة العربية في فلسطين المحتلة . ولذلك ، يمكن لفت الأنظار الآن إلى أنّ بعض الأسماء الواردة في مقالات غسان كنفاني عن الأدب في الأرض المحتلة لا تحتلّ أكتر من فاصل هامشي في حياة العرب هناك ، وبعضها يحتلّ هامشاً سلبياً يتناقض مع تقدير الوهلة الأولى .
وفي الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السرّ عمّا يكتبه كتّاب الأرض المحتلة العرب ، كان يدرس نقيض هذه الكتابة وإحدى مواد محاورتها : الكتابة الصهيونية ، ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين . وبكلمات أخرى : كان يدرس فاعليّة الكتابة لدى العدوّ . فقدّم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية . وكان بذلك جديداً وكاشفاً ورائداً كعادته .
وإذا كانت الصورة التي قدّمها غسان عن الأدب الصهيوني تفتقر إلى تصوير بعض الجوانب المهمة ، فذلك يعود إلى اعتماد غسان على النصوص الانجليزية المختارة من الأدب العبري . وإذا كانت هذه النصوص المنتقاة وحدها كفيلة بالتدليل على الدور التدميري للثقافة الصهيونية ، فكم ستكون الصورة حالكة جين نطّلع على الأصل العبري الصريح الذي لا يراعي متطلبات الحرص على الرأي العام خارج الوطن المحتل !
إن دراسة غسان تتمتع بقدرة كبيرة على التقاط الجوهري وإدراك الخصائص الأساسية للأدب الصهيوني ، وتشكّل حافزاً لدى دارسي اللغة العبرية لمواصلة خط الكشف الذي أسّسه غسان كنفاني .
وقد يكون من المفيد أن نعرف أنّ الأدب الصهيوني هو أحد وسائل غسيل الدماغ الذي يتعرّض له طلبتنا العرب في الأرض المحتلّة . ولذلك فإنه يحمل إمكانية تشكيل المكونات الثقافية للشاب العربي الواقع تحت الاحتلال ، بغض النظر عن اتجاه ردّ فعله عليه. فهو قد يؤثر في شدّه إلى مقدّمات التعايُش على نمط الحياة الإسرائيلية ومن ثم إلى التخاذل أو التساهل تجاه ادّعاء الحق الصهيوني على أرض فلسطين . ومن ناحية ثانية يؤثر في شدّه إلى موقع الرفض لكل جوانب الحياة والفكر الصهيونيين .
• ويا صديقي غسان !
إن البياض أمامي كثير . ودمك الذي لا يجفّ ما زال يلوّن . لقد ودّعت مرحلة من حياتي حين كنتُ أودّعك . وجئت ورأيت . ورأيتك كيف تذهب . لقد اتّسعت مساحة الأرض المحتلة ولم يعد ذلك ميزة . ودورة السجون تدور .. تودّع وتستقبل . وكل أرض ترى استشهاد أبناء شعبي . ونحن مطاردون في كل مكان . والكاتب ملعون ومتهم بالحياة والكتابة . والوطن هو الوطن . ولم تكتب فيه حرفاً واحداً . وأين هي الأرض غير المحتلة في الكون ؟ وأين هي الأرض المحتلة في الثورة ؟
• ويا صديقي غسان !
لم نتناول طعام الغداء الأخير . ولم تعتذر عن تأخّرك . تناولت سماعة التلفون لألعنك كالمعتاد : "الساعة الثانية ولم تصل ! كفّ عن هذه العادة السيئة".
ولكنهم قالوا لي : قد انفجر !
والآن ، أكتب إليك دون أن أخشى يد كمال ناصر التي خطفت رثائي لك . وقال مازحاً : لا تنشر هذا الكلام عن غسان كنفاني . هذا الكلام يليق بي .. وسأُقتل قريباً .
كان يمزح ؟ نعم . ولكنه انفجر أيضاً .
لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء .
ولكننا نراك في كل مكان .. تحيا فينا ولنا . وأنت لا تدري ، ولا تعلم .

0 #محمود_درويش
أعلى