سعدي يوسف - الأحفاد

( ١ )
أدخلتني في زهرة الرمان ، ثم مضيت عني
وتركتني بين التُّويجةِ واللِقاحِ
تركتني ، أعرفت أني ... سائرٌ في زهرة الرمان
آلافا من السنوات ؟
أفتحُ في التُّويج مدينة قروية
وتعاونية مستربينَ ...
السماءُ قريبةٌ
وبعيدةٌ أرضي .
( ٢ )
من حضر موتَ ، سفينةٌ خشبيةٌ حفرتْ على الحيزومِ
حشرجةَ ابن ماجد ...استقامتْ وهي تنشقُ
فالمحيطِ الفظّ وردتَهُ الكشيفةَ للرياح ...
سفينةٌ من حضر موتَ ينزُّ منها الماءُ والسمكُ المجففُ .
أيُّ جَدّ في السفينةِ كان يستخفي على حَقَويهِ
هِمْيانُ وأحفادٌ عراقيون ؟ أيُّ فحولٍ عبرتْ به
تلكَ السواحلَ ، حيث تنتظرُ النساءُ مضمخاتٍ
ضوعَ " بنتِ البحرِ " ، حيثُ يَصُغْنَ في الغَبَشِ
المندى المسكَ والحنّاءَ ، أيُّ روائحَ اختلبتْهُ ؟
رائحةِ القرنفلِ والثياب الها شميات ؟
القواقعِ وهي تغدو الرملَ ؟ رُزّ الزعفرانِ
وأية امرأةٍ محنّاة اليدينِ ، صغيرةِ القدمينِ
قد عشقتْهُ أو هجرته ؟ هل يطوي يديه على خيوط
من ملابسها الخفيةِ ؟ هل تُرى تركتْ على صندوقهِ
الخشنيّ دمعتها ؟ سفينةُ حضر موتَ تئنُّ في
ليل الخليج ، وبين حورياته ، بين الكواسج والنجوم
يدور أحفادٌ عراقيون ، وامرأةٌ ستخلبها الفحولةْ .
( ٣)
طيرٌ غريبٌ فوق نافذتي
أناديه ، فيدنو .
ويدور في حجري ، فألمسُه
فيغدو في يدي حَجَرَا
وتتسقطُ جمرةٌ مني
فينتفضُ الجناحُ .
(٤ )
بيديه ( كان البحر نصفَ محارةٍ بيضاءَ ، ظرقاء
الظلال ، خطوطُها المتموجاتُ المستقيمةُ تخبرُ
عن زمانِ السرّ والتكوينِ ) أطفأ نَارهُ الليليةَ ،
انطفأتْ جدائلُه وفي صندوقهِ الخشب اسنرد
البحرُ نصفَ محارةٍ ... أتُرى ستنطبق المحارةُ
مرةً أخرى ؟ أيأتي مرةً أخرى زمانُ السرّ
والتكوين ؟ يلقي النجمُ نيزكَهُ ، وتهبطُ
حبةٌ حتى قرار البحر ... ثم الخَلْقُ ؟
تخبو حضر موتُ ، سفينةٌ خشبية تنأى ...
وهاهو وحده في النخل ، صندقٌ ، ونصفُ
محارةٍ في كفه ، حَقَواهُ يختضان بالأحفاد ،
وامرأةٍ ستخلبُها فحولتُهُ . هنا ، في هذه الأرض
التي سمع الجنادب فوقها سيقيم مملكة ،
ويغرس نخلة ، ويُلاعب الأحفاد ...
تخبو حضر موتُ . سفينةٌ خشبية تنأى ...
وتنغز قلبَهُ صيحاتُ " أهلِ البحر " ،
في ليل العراق تهيم وحدك ، تعلكُ السمكَ
المجففَ . حضر موتُ بعيدةٌ ، حقواك يختضانِ .
مملكتي التي سأُقيمُ فوق محارةٍ ، كوني مباركةً
وياامرأتي التي سأشدها : كوني مباركة .
ويا نخلاتِنا : كوني مباركة
نسيم الليل حرك من جدائِله. ورائحةُ الطحالب
في الهواء الرطب . أغمض مقلتيه هنيهةً .
هدأت جدائله ، وغابت نجمةٌ .
في الشرق تنهض وردةحمراءُ . ترتفع الخليقة .
بغتةٌ تهتاجُ فاختةٌ ، ويفتح مقلتيه.
( ٥ )
قُلنا كثيراً
غير أن الببغاءَ تظل صامتةً
وإن نطقتْ أخيراً
جُعنا كثيراً
غير أن أكفَّنا ستظلُ متخمةً
فقد بُسطتْ أخيراً .
( ٦ )
لم يبق من ذكرى السواحل غيرُ وحشتها ...
لقد نهض النخيل . النهر يدخل في الجداول ،
والجداول في البيوت . النسوة المرحات ينشرن الغسيل على حبال القنّب . الأطفال يجتمعون
مدرسة وراء التوت . مملكتي هي البستان
مشتركا . هي الخبز الموزع في المناقير .
احتمائي : أذرع الأحفاد ، والأرض التي
اكتنزت بشهوتها ، وأخرج من وثاقي.
( ٧ )
قد نبتني بيتا، فنسجن فيه
ما أبهى الحياة !
( ٨ )
ما الصوت يأتي من جذور النخل ... يدعوني :
مهاجر حضر موت ! رأيت أمس النهر مقطوعا .
مهاجر حضر موت! سمعت أمس النسوة المرحات
ينشرن الغسيل، ويحتضن الجند بين النهر والمقهى .
مهاجر حضر موت! رأيت دار الملك عالية ...
مهاجر حضر موت! مررت بالبستان مقتسما .
مهاجر حضر موت! سألت عن صندوقك الخشبي ،
عن نصفَي محارته . وقيل : أضعته في النهر ...
قلت لنا : أتيتُ هنا أوحْدُ شاطئين .
وأبتني في النهر مملكة مقدسة . وفي الأرض السلام .
وأهتدي بالنجم ، والشرق المفتح وردة .
أيان تنطبق المحارة مرة أخرى ؟
الفحولة لم تعد تختض في حقويك .
والأحفاد ينتظرون عند التوت حورياتهم
في الليل . أسمع خفق أجنحة . سلاما للحياة .
لشهوة امرأة تصوغ المسك والحناء .
تلبس في المساء ، الهاشمي ، ووجهها ثمل
بريح البحر ... من يأتي غدا ؟ كانت مباركة يداك .
وكنت تهجش نبضة حين تمسه ...
وتحس بالأحفاد يضطربون تحت يديك
حين تعانق امرأةً ...
مهاجر حضر موت !
( ٩ )
للبحر . انت تعود مرتبكا
والعمر
تنشره وتطويه
لو كنت تعرف كل مافيه
لمشيت فوق مياهه . ملكا .
( ١٠ )
خشب السفينة لم يعد بيديك كالصلصال .
لون البحر أكثر وحشة مما ظننت . وهذه
الآفاق تعرفها وتنكرها : الرياح تهب.
والأسماك تسبقها ؟ ووردات ابن ماجدٍ
الكشيفةُ هل نسيت نداءَها ؟ كانت
تشير تشير ...والأسماك قبل الريح ...
لون الماء قبل الريح . والأخشاب تنذر
بالعواصف . طائر يأتي ...أتعرفه ؟
وأهل البحر ؟ كنت تحس في أحداقهم يوما
سبيلك ، وتهجس اللفتات حين تشف أو تقسو ،
وتقرأفي ملابسهم خطوط القلب ...
أنت الآن منفرد بغرفتك الصغيرة.
ربما أومأت للأمواج منكسرا ... ستبلغ حضر موت
تعود ...لكن لست مثل النهر حين يعود نحو
المنبع السري . أنت الآن تبلغ حضر موت
مقرح الجفنين ، تبلغها كليل العين والرئتين ،
تبلغها ثقيل الخطو ... لا امرأة محناة اليدين ، صغيرة القدمين تثمل بانتظارك ، ولا حفيد
سوف يحمل عنك صندوق المسافر...
ماالذي عادت به سنواتك الستون ؟
أنت تقول : مملكة بنيت ، ونخلة أنبت ،
وامرأة عشقت . تقول : أحفادا تركت هناك ...
وهما كانت السنوات ؛
وحدك قابع في غرفة خشبية،
والبرق يصبغ بالبنفسج لحظة جفنيك ،
يصبغ بالبنفسج ماتبقى من جدائلك الجميلة.
( ١١ )
أحفاده في الأرض ينتشرون كالأغصان
أحفاده يأتون
أحفاده في دهشة الإيمان
ينسون ما يأتون .
( ١٢ )
يتقاسم الأحفاد مملكة مخربة ؛ ويستهدون بالسقطات . ساحل حضر موت يمر في النجم الذي يتداون ذحبا . والجَدُّ مرتسمٌ
على راحتهم خَطَاً من التيراب ...
طول الليل ينتظرون حورياتهم . والصبح ينتقلون
في العربات . مفترقاتهم كثرت ، وأيّ مسالك اختلطت ... وأي معالم التاثت ...أينهض بينهم
في الفجر ، من سيشير معتنقا ذراعَ حبيبةٍ، متنكِّباً : " من ههنا سنسير؟ "
نصف محارة في النهر ،
نصف آخر التقطته حورياتهم.
أيّان تنطبق المحارة مرةً أخرى ...
ويأتيهم زمانُ السر والتكوين؟
آت أنت يازمنا سنحياهُ
وآت أنت يازمنا سننساهُ
وآت أنت يازمنا نبادله مرارة حضر موت معا
وندخل فيه دار الجَدّ ...
فتياناً ملائكةً
ونُنبتُ نخلة
ونعانق امرأة
ونقولُ : عاد الجَدّ...
.
سعدي يوسف
العراق
أعلى