د. أمل الكردفاني - المارد الذي تحول لجبل- قصة

إن الجوقة الجيدة ليست تلك التي تغني في نفس الزمن بل تلك التي تغمرها تباعدات زمنية طفيفة. لأن الغناء في نفس الزمن يخلق صوتاً واحداً إما شديد الحدة أو شديد الغلظة..سيختفي صوت الجماعة. وكذلك الصفقات..يجب أن يكون التصفيق متزامناً ولكن بفرق طفيف، فتظهر الروح الجماعية التي لا تخفي الفردية بالكامل. فلكل الذوات حضور.
يقول الكاهن للجوقة، ولا يعلم أنني غريب في المعبد.
كنت اجلس بعيداً تحت ظل السقف الخشبي المائل الذي تفوح منه رائحة صندل وعفونة خفيفة تمنحه عتاقته. أمامي من على البعد وقفت الجوقة؛ ثلاث فتيات إحداهن سمينة وترتدي نظارة، والأخريان نحيلتان، وعلى يمينهن عازفة أورغ قديم. رفع الكاهن ذراعيه وحركهما كالنسر فغنت الفتيات بلغة لم أفهمها.
وحين عبرتُ الشارع كان غناؤهن لا يزال يغمر ذاكرتي. لا شيء يزعجني سوى لحن عالق في ذهني، وكنت أنزعه بترديده باستمرار حتى يفقد قوته.
كان المعبد نفسه منزوياً خلف جدار ضخم تتدفق من فوقه أغصان أشجار ضخمة، متخفياً من تهجم الطوائف الأخرى. ونحن في منتصف أغسطس، تنحني أشعة الشمس فوق أسطح الطرق المعبدة، وتجعل البخار الحار يتغذى على الأحذية وعجلات السيارات. وأنا طريقي طويل، فيجب أن أبلغ خزانة البريد لاستلام الطرد قبل العصر.
لا أملك مليماً واحداً وعليَّ أن أسير بأقدامي عدة كيلومترات من أجل طرد. مع ذلك كان حديث الكاهن لجوقة المغنيات أثناء البروفات يقدح في ذاكرتي..
- أصواتكن جميلة..ولكنكن ملتزمات بالدقة أكثر من اللازم...في بعض الأحيان -وخاصة في الفن- يجب أن يظهر الفن كمحاكاة ربع رديئة للواقع حتى يعكس النقص البشري..لأن الرب لا يريدنا كاملين..فجعل سعادتنا في النقص لا في الكمال.
قال الكاهن ذلك، وتذكرت
ذلك التمثال الذي ينتصب على الجانب الشرقي للقاعة. تمثال يظهر نصفه السفلي فقط لأن الضوء الساقط عليه بزاوية كان محدوداً.. بدا كما لو أنه كان يستمع لحديث الكاهن، ولولا اعتقادي بأن الجوع هو السبب لما ترددت في القول بأنني رأيت ذيله يتحرك. وهاهو اليوم الرابع الذي لم آكل فيه شيئاً، إذ يتوقف كل شيء بالنسبة لي على ذلك الطرد.
أخبرني موظف البريد بعدم وصول طرد بإسمي، وكان الإحتمال الأكبر أنه لم يرد ان ينهض من كرسيه أثناء محادثته الكتابية على الهاتف مع فتاته. إنهم لا يكترثون لأزمات المواطنين. فأصررت عليه أن يبحث ، استخدمت صوتاً منكسراً فازداد إصراراً على رأيه. إن إحساسي الداخلي لا يخيب. تلفتُّ حولي وهو منشغل بالكتابة على هاتفه. المكتب صغير وقد تكدست على جانبيه الطرود. خلفي كان الباب الضيق. وعلى طاولة مكتبه كانت آلة التوثيق منتصبة في اليسار . رفعتها بسرعة، وبآخر قوة في جسدي ضربته بها على رأسه. فجحظت عيناه وانحنى بوجهه ببطء على مكتبه. رأيت خيوطاً من الدماء تزحف كشبكة العنكبوت فوق سطح المكتب الأملس. كنت مرهقاً، فأدرت جسدي وأغلقت الباب، ثم عدت وبدأت البحث عن الطرد.
فتحت عينيَّ وقد غمر الظلام المكتب، ولا زالت جثة الموظف النحيل على هيئتها. لقد نمت لست ساعات متواصلة، والطرد في أحضاني. كنت عطشاً، ورأسي يدور.
الظلام غمر الشوارع، فسرت وذاكرتي تحاول استرجاع ما قمت به من احتياطات. لقد محوت كل بصماتي، أو هكذا أحسب. لماذا فعل ذلك؟ قلت لنفسي. لماذا لم يهتم بألمي ويبحث عن الطرد دون استخفاف بي. كان الطرد تحت قدميه، ولا زالت نقطة دم على غلافه. إنها جريمة قتل عادلة. وكان ذيل التمثال يتحرك بالفعل.
الأرض تبتلع أقدامي. وأنا أجلس على مصاطب المعبد الخشبية، مرخياً ظهري إلى الخلف وعيناي مغمضتان. هاهو اليوم الخامس دون طعام.
دخلت خادمة الكاهن فجأة وهي تحمل صينية طعام، مزخرفة بالنقوش الصينية البيضاء والسوداء. وقد وضعتها أمامي بصمت وهي مطأطأة الرأس، ثم غادرت دون أن تنظر إلى عيني. وحين مددت يدي إلى الطعام رأيت الدم يلوث حواف أظافري رغم أنني لم ألمس الجثة، وسمعت حينها قهقهة من الصنم، كان زيله يرتعش.
قلت وأنا أضغط الحروف بأضراسي:
- كان إما أن أموت أنا أو يموت هو..
وبدأت في الأكل ورائحة الدم تختلط برائحة الحساء بلسان العصفور. كان الصنم يقول:
- الحياة سرقات متبادلة لحيوات البشر.
ظللت صامتاً قليلاً وأنا أمضغ الخبز المبتل بالحساء بتروٍ، ثم قلت:
- هل تظن أنني بعت نفسي لك؟
قهقه وقال:
- مثل فاوست؟
ثم أضاف:
- هذه التفاهات..
قلت:
- تفاهات حقاً..
مددت جسدي على المصطبة ونمت وجسدي محطم كما لو دهسه قطار.
وجوه الشياطين الحمراء الضاحكة تراقصت فوقي. كنت أشعر بحرارة لهبها، حتى لكأن ذلك لم يكن حلماً.
"إن المحكمة تجد المتهم مذنباً..إذ ان تبريراته ..."
كان السقف أبيضاً، وصوت جهاز قياس نبضات القلب يصفر تصفيراً منتظماً..
- أصبحت سوبر مان..
قال الرجل ذو المريلة البيضاء..ثم تبينته من ملامحه، أدركت أن العملية قد نجحت..
أضاف:
- ستنتظم دقات قلبك..فهذا الجهاز من احدث الأجهزة..فقط تجنب التوتر وتجنب الوقوع في المشاكل..
ثم قال ضاحكاً:
- ولا تقتل أحداً أيها المارد..
تركني وحيداً ولم تدخل علي الممرضة لساعات طوال، رغم أن أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي.
لم أكن أعرف ما طبيعة تلك الديانة، لكنني قررت أن أصبح كاهناً في ذلك المعبد. لا شيء أفضل من الإختباء داخل رداء كاهن والكاهن داخل معبد لديانة لم يسمع بها أحد من قبل.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى