محمود درويش - درس البديهيات... العسير

كلما خيل لنا أن صورة فلسطين انتقلت من مكانتها المقدسة إلى سياق العادي، فاجأتنا بقدرتها الفذة على إيقاظ معناها الخالد، ببعديه الروحي والزمني، من نعاس تاريخي عابر. من دمها يشرق اسمها من جديد، مرجعية وبوصلة.
فلا ماضي للقلب إلا على أسوار القدس.
ولا طريق إلى الغد إلا عبر أزقتها الضيقة.
ولا أفق للسلام، على ارض الفداء والسلام، إلا بإنجاز مشروع الحرية.
سيسهل علينا القول إن الروح قد عادت للمرة الألف، إلى جسد لا يدل عليه سوى دمه المسفوك، لا لأن التاريخ لا يتقن العمل بأدوات طاهرة فقط، بل لأن الحرية ذئبة جائعة أيضاً.
وهكذا حين يُضَرّج المُقدّس بالدم، تبدو عودة الروح طقسية واحتفالية، على الرغم من أنها لم تذهب تماماً، لكنّ تجليها كان في حاجة إلى تطابق الوعي مع الإرادة.
انتفاضة جديدة لتعليمنا درس البديهيات العسير، فليست فلسطين جغرافيا فحسب، بقدر ما هي أيضاً تراجيديا وبطولة.
ولا هي فلسطينية فقط، بقدر ما هي إخصاب لفكرة العربي عن نفسه، ومعنى إضافي لمعنى وجوده، في صراعه مع خارجه ومع داخله، ليكون جزءاً من تاريخه الخاص ومن التاريخ العام.
لم تبتعد فلسطين عن حقيقتها، قبل هذا الانفجار، فقد كانت دائماً ما هي، هناك.
لكن الضباب الذي غطى البصر لم يحجب الرؤية عن البصيرة.
إذْ لم تسفر الانعطافات التجريبية في السياسة، بعدُ، عما يُبَرّر انكفاء أحد إلى خيمته الإقليمية.
فلن يصل العرب إلى غدهم فُرادى، ولن يصل الفلسطينيون إلى القدس وحدهم، وانْ كان لدمهم دور الشرارة والقربان.
انتفاضة جديدة لتعليمنا درس البديهيات العسير.
فلم يكفّ الإسرائيليون عن شرح مفهومهم لسلام يريدونه مفروضاَ بالقوة، خاليا ًمن الأرض ومن العدالة، وهو سلام السادة والعبيد، الذي لا يعدُنا بأكثر من حق الإقامة في ضواحي المستوطنات وعلى أطراف الخرافة.
لقد استنفد الفلسطينيون كل رصيدهم في المرونة. ودفعوا ثمناً أعلى وأغلى مما تستحقه تسوية لا تتجاوز الاعتراف بحقنا في إقامة دولة مستقلة على عشرين بالمئة من أرض وطننا التاريخي، دون أن يبدي الجانب الإسرائيلي أي استعداد للانسحاب من متر واحد من مساحة أسطورته عن ذاته وعن التاريخ، التي تعتبر وجودنا التاريخي في بلادنا وجوداً احتلالياً غريباً على «أرض اليهود الأزلية – الأبدية» الخالية منّا ومن التاريخ معاً… لا لشيء إلا لابتكار علاج ما لعقدة شرعية التاريخية (…)
لكن الشارع العربي المطرود من السياسة، يعود اليوم إلى السياسة من باب المقدس المخضب بالدم، ليعبّر عن تراكم المكبوت، وعن مدى القطيعة مع النظام، الذي تمادى في الحياد وفي التطبيع مع دولة لم تفهم من التسوية غير ما يوفر لها القدرة على أن تنجز، في مناخ السلام الكاذب، ما لم تنجزه في مناخ الحرب، من هيمنة إقليمية، ومن راحة استفراد بالشعب الفلسطيني المحاصر.
شعر فلسطين وصدمة إسرائيل
مرّت، يوم التاسع من آب/أغسطس الجاري، الذكرى السادسة لرحيل محمود درويش (1941 ـ 2008). وفي السياقات الراهنة للمشهد الفلسطيني، واستمرار المجازر الإسرائيلية في غزّة، جديرة بالاستذكار تلك الأصوات القليلة التي تناولته في إسرائيل، ساعة رحيله. كانت، في نهاية المطاف، استثناءات لا تمسّ إلا السطح أو المعطى البسيط في النظرة إلى شخصية درويش: المواطن الفلسطيني، شاعر فلسطين الوطني الأوّل، والشاعر العربي والعالمي الكبير.
ولقد توفّرت، هنا، إشكالية لا تخصّ هذه الأبعاد وحدها، بل تشمل سلسلة مواجهات ثقافية وأخلاقية قبل النزاعات السياسية؛ ولا تقتصر على سجال المجتمع الإسرائيلي بصدد تدريس، أو رفض تدريس، قصائد درويش في المناهج الدراسية الإسرائيلية (قرار يوسي ساريد وزير التربية والتعليم الأسبق بهذا الصدد، والنقاش العاصف الذي اندلع سنة 2000 وانتهى إلى تحكيم رئيس الوزراء آنذاك، إيهود باراك، بأنّ الإسرائيليين ليسوا مستعدين بعد لهذا الإجراء)؛ أو مفارقة أن يبدي أرييل شارون، دون سواه، إعجابه الشديد بقصائد الراحل.
بين هذه الاستثناءات ما كتبه الروائي الإسرائيلي أفراهام ب. يهوشواع في صحيفة «معاريف» من أنّ درويش كان «الصديق والخصم» الذي استفزّ الإسرائيليين بشعره وثقافته وعمقه: «أولاً وقبل كلّ شيﺀ كان شاعراً كبيراً، وامتلك عظمة شعرية حقيقية، حتى أنّ إنساناً مثلي قرأه عبر ترجمات أشعاره لا باللغة الأصلية، كان في إمكانه أن يعجب بمخزون الصور والأفكار الغنية لديه، وبالحرية الشعرية التي سمح لنفسه بانتهاجها».
إسحق لاؤور، الشاعر والكاتب التقدّمي، نشر في «هآرتس» مقالة توقفت عند قصيدة درويش الأخيرة «سيناريو جاهز» معتبراً أنّ «التاريخ ألقى على عاتق درويش مهمة أنّ يؤدّي دور الشاعر الوطني». وحثّ لاؤور دولة إسرائيل على منح الإذن بدفن درويش في البروة، قريته ومسقط رأسه: «إنهم يتحدثون كثيراً في العالم عن الاعتذار» من ضحايا الإحتلال والإقتلاع والتهجير، «في أمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا. وهنا لم يتحدثوا عن ذلك بعد. وقد يكون تشييع جثمان درويش إلى قريته بداية رحلة طويلة من التكفير عن الذنوب».
تسفي بارئيل، محرّر الشؤون العربية في الصحيفة ذاتها، رأى أنّ عظمة درويش الأساسية هي «البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية، وخصوصاً في ما يتعلق بقضية اللاجئين. وفي قصيدته الشهيرة (لماذا تركت الحصان وحيداً) أحيا العلاقة بين التهجير والآثار الحية التي أبقاها اللاجئون خلفهم وعنفوان حق العودة بواسطة رمزه، الحصان الذي بقي في الخلف، والبئر المتروكة ومفتاح البيت المهجور الموجود في جيب كل لاجىء».
ويبقى أنّ درويش ـ لأنه كان الشاعر القادر على تحويل القصيدة إلى صدمة ثقافية وأخلاقية في الوجدان الإسرائيلي، أو إلى لطمة في وجه الاحتلال العسكري ـ ظلّ منفياً ومحاصَراً ومحروماً حتى من تشييع جثمان والده. وأن يكون المرء شاعراً من طراز درويش أمر كبير، للتوّ؛ وأمّا أن يكتب الشعر بالعيار الأخلاقي والإنساني الذي اعتمده الراحل طيلة أربعة عقود ونيّف، فذاك أبعد من أمر كبير، لأنه يصبح قضية وطنية وتاريخية وحضارية كبرى.
لا سلام مع الاحتلال، ولا جدول أعمال للتسوية إلا بعد جلاء الاحتلال – هذا ما يقوله الشارع الفلسطيني والعربي الغاضب، بعفوية بليغة وبوعي عميق، وبإرادة فولاذية، وبوحدة شعورية وفكرية كاملة لا يستطيع النظام العربي تجاهلها لمتابعة دوره في الوساطة.
فإنّ خيار السلام لم يكن يعني أبداً إخماد روح المقاومة والتخلي عن ثقافة المقاومة، والشروع السريع في تطبيع العلاقة غير الطبيعية مع الاحتلال.
وإلا، فكيف نقرأ الجنون الحربي الإسرائيلي العام؟ وكيف نقرأ هتافهم: الموت للعرب؟
أمّا نحن، فلا نملك غير جنون الدفاع عن القدس، وعن السلام، إذا كان السلام هو الابن الشرعي للحرية، ولا نملك إلا جنون الدفاع عن أخوة الطفل محمد، الجالس في حضن أبيه، مثل يسوع في قلب أيقونة.

2002

محمود_درويش



أعلى