نهى الطرانيسي - ما زلنا صِغارًا.. قصة قصيرة

كلمات مسجوعة بإلقاء منمّق مرتّب، تارة ممزوجة بموسيقى خفيفة تطلّ على استحياء، وتارة أخرى ترى الصوت هو الآسر لملكات السمع دون منازع.. كرسي بنّيّ هيكله يبدو ضخمًا من أعلاه حتى قوائمه الأربعة التي تبدو عليها زخارف متقنة، يدرك من يبصرها مدى معاناة من قام بحفرها في قوائمه، لا تكاد ترى الجالس فوقه وأنت قادم من خلفه، تتملكك الهيبة إذا ما جابهت الجالس فوقه، يقال إنها من أنتيكات عصر الباشوات، وإن جدي كان شغوفًا بجمعها كلما توفر له ما يكفي من المال لشرائها.
خالتي هي صاحبة الكرسي والمذياع الصادح بجانبها، تبدو كصورة صامتة لا تختلف عن البورتريه سوى تلك الأنفاس غير المرئية. فرغ المنزل من الجد والجدة اللذين لم أدركهما، ودأبت على معرفتهما من خالتي التي أرتني إياهما في كلماتها وفي الصور الباقية في خزانتها.. حينما كان أصدقائي يسردون الحكايا المفضلة لديهم كنت أخبرهم (جدي وجدتي..).
كنت كغيري من الأطفال أشعر أن الحكايا بها من الخيال ما يكفي لجعلها لا تمت للواقع بصلة، لكنني أسعد بتصديقها لتصير لي مخزونَ أملٍ عند النضوج.
متى يحن موعد القصّ أفترش الأرض عند قدم خالتي، تسألني: هل أصبحتِ جاهزة؟ وكأنها تلكزني بنبرة صوتها كي أنتبه لها وأكفّ عن الحراك.. عينان مغمضتان، أدركتُ الحياة ولم أدرك بعدُ لونهما! أهما بنيّتان كشعرها الذي رُسم الطيف الذهبي بين خصلاته المموجة، والذي يتناسب مع وجهها الخمري؟ لم تبصرني قطّ، فقط تمرر أنامل أصابعها تتلمس وجهي لتعلمَ إن كنتُ قد صدقت معها في الحديث أم لا.
(صلي على النبي) ذكرتني تلك الجملة بالجمل الثابتة التي تتردد دائمًا في أي برنامج يقبل عليه المستمعون، (عليه الصلاة والسلام).. تبدأ الحكي ورأسها الثابت يتغير إيقاعه، وتعبيرات وجهها ترسم الحكاية في عينيّ، دار في خَلَدي: تُرى هل تحرك خالتي رأسها لرؤيتها الحكاية متحركة أمامها فتلاحقها بالقصّ؟!
عند الانتهاء أرى السعادة والهدوء يتملكانها من فرط انفعالها أثناء السرد، تسألني عن رأيي فيما روت فأجيبها بإعجابي وتعلقي بما تقصه عليّ، إلا هذه المرة علمَت من نبرة صوتي أن ثمّة خَطْبًا ما، لم أنتظر سؤالها، فبادرتها: (خالتي، لمَ أخذت الدنيا منك العينين وانت ذات قلب نقي، وآخرون أبغضهم يستحقون الصمم والبكم والعمى؟!)، ابتسمت وهي تستدير بوجها إليّ: (لأنّ عيوننا ضيقة، لا نرى الكمال فيما لدينا من الجمال).
تركتني خالتي الأربعينية ذاهبةً لغرفتها، وأنا ما زلت جالسة أفكر في معنى ما قالت، نظرتُ للمرآة ولم أرَ عيني ضيقة، بل متسعة مثل أمي، أين ذلك الذي لا أراه؟!
خطوات بطيئة وذهن مشغول بالسؤال: أين الكمال والجمال الذي لا أراه؟! كدتُ أتعثر على الدرَج، دفعت الباب، فبادرتني أمي: لمَ تأخرتِ؟ ألا تعلمين أن ذلك يرهق خالتكِ؟ وتوالت أسئلتها المعتادة عن حالها، وهل تناولت الطعام الذي حملته معي؟ وهل...؟ قاطعتها: (أين الكمال والجمال الذي لا أراه؟! هنا أم في الخارج؟!) شُدِهَت والدتي لسؤالي، وغادرتني لتكمل ما كان يشغلها قبل قدومي.
ظللتُ تلك الليلة يقظة، لم أستطع أن أغفو، أطالع السقف تارة، والسماء الحالكة من شباك الحجرة، ونجومها كاللؤلؤ المنضود فوق عباءة سوداء، ولمّا أجهز السؤال على طاقة عقلي عهدتُ له أنني حين أكبر سأسأل أحدهم: (أين ذلك الذي لا أراه؟! وكيف أراه؟!).


نهى الطرانيسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى