د. يوسف زيدان - رموز مصرية : حسن حنفى

قى أواخر العام 1987 كنتُ جالساً مع جماعةٍ من الزملاء الذين يدرسون الفلسفة، فى الإسكندرية، حين دخل علينا أحدُ الزملاء وقال بالعامية وهو مبتهجٌ: حسن حنفى رجع مصر، وناوى يعيد جلسات الجمعية الفلسفية المصرية، كل شهر، فى جامعة القاهرة.

كنت أعرف «د. حسن حنفي» من بعض كتاباته، وأود أن أعرفه شخصياً. وكنتُ أشكو لنفسى من أننى لا أجد أحداً أحادثه فى المسائل الفلسفية، بسبب هجاج الأساتذة إلى خارج مصر لجمع الأموال، وللابتعاد عن المخاطر السياسية.. وهكذا، ذهبت إلى القاهرة يوم ندوة الجمعية الفلسفية، ثم واظبتُ على حضور الندوات الشهرية، فرأيتُ حماس «حسن حنفي» لإحياء الفكر الفلسفى فى مصر، وحرصه على إنجاح الأنشطة المتعدّدة للجمعية الفلسفية: الندوة الشهرية، المؤتمر السنوي، إصدار مجلة فلسفية.. والأهم من ذلك كله، تشجيع جيل الشباب على الدخول فى المعترك الفلسفى.

لماذا ترك هذا الفيلسوف مصر، هذه الفترة؟ سألتُ أيامها فعرقتُ الآتى: كان حسن حنفى من المعارضين لحكم السادات، فتمَّ البطشُ به كما يجرى فى بلادنا عادةً، حتى أنهم نقلوه وهو الأستاذ الجامعى (حاصل على درجة دكتوراة الفلسفة من السربون، وحاصل على درجة الأستاذية) إلى وزارة الشؤون الاجتماعية ليعمل موظفاً هناك! وبالطبع لم يعمل.. نصحه مديره فى الوزارة، بأن يجلس فى بيته «ويكفى خيره شره» ولا يأتى إلى المقر العقابى/ الوظيفى، كما أخبره بأنه لن يتقاضى شهرياً إلا المرتب الأساسى من دون أية إضافات (يعنى دراهم معدودة) فما كان أمام د. حسن حنفى إلا الخروج من مصر، مع جملة الخارجين من الأساتذة المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.. وكأنه أراد الذهاب إلى أبعد مكانٍ ممكن، فقد ذهب لتدريس الفلسفة فى: اليابان!

وظل د.حسن حنفى فى اليابان عدة سنوات، ثم عاد بعد مصرع «السادات» مصدّقاً وعود «مبارك» فى سنوات حكمه الأولى، بالعدالة واحترام القانون.وكان مبارك يردِّد أيامها بشكل دائم، فى معظم خُطبه الرئاسية، تعبير: دولة القانون.. لكن ذلك لم ينفع «حسن حنفى» بعد رجوعه لمصر واستقراره فيها، لاسيما حين دُعى إلى لقاء الرئيس مبارك فى افتتاح معرض الكتاب بالقاهرة، وكان اللقاء منقولاً على الهواء مباشرةً (وكانت تلك هى قمة التكنولوجيا التلفزيونية) فإذا بالدكتور حسن حنفى، يُحرج الرئيس مبارك ويقول له على الملأ: لا تنسى أنك رئيس مصر، وأنك الآن فى مكان أحمس ورمسيس الثانى وعبدالناصر! فامتعض الرئيس مبارك وقال لحسن حنفى، متساخفاً: والسادات لأ..

كان «حسن حنفى» وأظنه لايزال، يستخف بالحكام ولايخضع لسُخف السلطة سواءً فى مصر أو خارجها. حتى أنه كان يوماً فى مؤتمر كبير بالمغرب، وجرى هرجٌ كبير وتوقفت أعمال المؤتمر لأن الملك الحسن الثانى قرَّر حضور الجلسات، وجاء تسبقه الحاشية المتصايحة بقولهم: عاش أمير المؤمنين.. فما كان من «د. حسن حنفى» وقد أحزنه اضطراب المؤتمر، إلا أن قال فى المؤتمر بعدما عاد إليه الميكرفون: إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون..

فطردوه من المغرب، بلطف.

ولأن حسن حنفى كان شديد الحرص على إنجاح الجمعية الفلسفية المصرية، ولأنه كان يعلم أنه لا يطير أو يتطاير على أهواء الحكام، ولا يميل للرئاسة الشكلية؛ فقد قام بإحياء الجمعية الفلسفية المصرية دون أن يتولى رئاستها، مكتفياً بدور كنا نراه لا يناسبه وكان يراه الأنسب، وهو: سكرتير الجمعية.. فكان الرئيس الأول للجمعية بعد إحيائها على يد حسن حنفي، هو أستاذى الفاضل د. أبوالوفا التفتازانى (نائب رئيس جامعة القاهرة، شيخ مشايخ الطرق الصوفية) ومن بعده صار رئيس الجمعية هو الدكتور الفاضل محمود حمدى زقزوق (أستاذ الفلسفة ، وزير الأوقاف) .. وظل حسن حنفي، دوماً: السكرتير!

ومع دوام الأنشطة بالجمعية الفلسفية، تعلمتُ من حسن حنفى وتعلّم غيري، آنذاك، ما صار عندى لاحقاً كالمبادئ العامة والبديهيات. كان دوماً يقول لنا: لا يمكن أن تكون الحقيقة فى جانب واحد فقط، المعرفة تتولَّد باحتكاك النفوس (قول أفلاطون) لا يصح حين تحس بحركة ثعبان فى طيّات ملابسك، أن تسأل نفسك هل هذا الثعبان ذكر أم أنثي، وإنما تبادر إلى إخراجه أولاً، ثم انظر فى ذكورته أو أنوثته أو تفكر فيما أدخله إلى ملابسك (قول أبى حامد الغزالي) لا يصح أن تعطى الأولوية للنص على الواقع، فلا يولد النص معلقاً فى الفراغ (قول مستفاد من فلسفة كارل ماركس) لابد من التفرقة بين علوم الوسائل وعلوم الغايات (قول فقهاء أصول الدين).. وكان يقول دوماً: الفلسفة هى الرأى والرأى الآخر. وهى العبارة التى ابتذلتها لاحقاً قناة «الجزيرة» وجعلتها باباً لإثارة الفتن، لكنها كانت تعنى عند «حسن حنفى» معنىً أساسياً هو ضرورة التفاعل الفكرى. ولذلك كانت ندوات الجمعية الفلسفية المصرية تقوم على قاعدة: متحدث أساسى (غالباً ما يكون من كبار الأسماء، مثل د. زكى نجيب محمود) ومتحدث معقب، يكون عادة من جيل الشباب وشداة الباحثين فى الفلسفة.

وفى يومٍ، قال لى «حسن حنفي» إنه يريدنى أن ألقى المحاضرة الشهرية للجمعية الفلسفية، فاضطرب قلبى وقلت له إننى لم أحصل بعد على درجة الدكتوراة، فردَّ: لا يهم الدرجة الجامعية، المهم الأفكار.. قلتُ له إننى أسكن بالإسكندرية، قال مُداعباً: أعرف، وأعرف أنك من أهل الخطوة.. قلت فى أى شيءٍ سأحدَّث أساتذة الفلسفة، قال: حدِّد أنت الموضوع.

ألقيتُ المحاضرة فى موضوع «الجمال بين الصوفية والفلاسفة المثاليين» وبعد ساعة ونصف ختمت كلامى، متوقعاً هجوماً جارفاً من أقرانى (وهو ما حدث بعد سنوات) غير أن د. حسن حنفى بدأ المناقشات بأن أعطى الكلمة للدكتورة أميرة حلمى مطر، وكانت حقاً كالأميرات، فإذا بها تشيع البهجة فى القاعة بقولها ما نصه:إنت يا ولد إنت جبت الشطارة دى منين، غريبة إن يطلع من إسكندرية حد شاطر كدة!.. وسرعان ما تلقف «د. حسن حنفى» خيط الحوار، وقال وهو الأستاذ الكبير وأنا الناشيء الصغير، تلك العبارة التى ظلت لسنواتٍ ترن فى أذنى وتحفزنى عن العمل الدؤوب، قال بالنص: يوسف زيدان ظاهرة ثقافية فى مصر.

وقد ذكرتُ هنا هذه الواقعة، بعد مرور ربع قرن ، ليعلم المندهشون من حرصى على تشجيع الشباب، واهتمامى بالحوار الدائم معهم فى الندوات وعلى صفحات الفيسبوك وعبر الرسائل المطوَّلة. إن ذلك من وحى »حسن حنفي« ومن فضله المبكر عليَّ، ومما تعلَّمته منه فى زمن البدايات.

.. والحديث يطول عن الجانب الإنسانى «الثري» فى شخصية د. حسن حنفي، وله بقيةٌ سوف نذكر طرفاً منها فى مقالة الأسبوع المقبل. فإلى لقاء .
أعلى