قصي الخفاجي - الغواية والسقوط..

الجزء الأول
غزوة الدودة

قبل أن أرسم جمرة الحرف على الورق الأبيض الصقيل تركت شفتيّ ترتجفان بخجل عفويّ كي أنقل لكم، ذلك الحكي الجميل:
ـ المهمة نُفـّذت.
والشارع العام قد ظلّ مُطوَّقاً بأسوار من الريبة والحذر، فيما الأبنية العالية، الممتدة على كل الاتجاهات قد ظلّت هي الأخرى على خشوعها وإذلالها المستكينين.. لكنني اعتقد إزاء كل ما جرى بأن الإيقاع اللافت للنظر، ظلّ يتصاعد، كأنه نغم أسود، محيّر، ومشعّ ينمو بتواتر خفي من تحت المفاصل والنوابض، والهواجس اللا مرئية، لتلك المدينة التي عاشت أحداث ذلك الفعل الخطير، والمجهول….
ـ إذاً كانت المهمة قد نفذت بكل تأكيد.
في الحقيقة كان الانفجار هائلا، ومدويّا.. نسفنا البناية الضخمة التي استدرجنا إليها ضابط المهمات السرية… وكنت قبل ذلك بساعات قلائل قد تسلمت البريد السياسي، وشحنة المتفجرات الملفوفة بعناية فائقة ودُربة فنية عالية، إذ غُلـِّفت داخل صندوق كارتوني ملفوف بخرقةٍ رمادية وسخة لا تثير الانتباه.
ـ أيقنت تماماً أن المهمة قد نُفـِّذت وبحسمٍ كامل.
وخوفاً من عيون آلة القمع السرية/ التي ستبث عيونها حتماً وتسلـّط مجاهرها المرعبة/ وتمدّ مخالبها الحديدية إلى كل زوايا المدينة بحثاً عن قادة العملية ومنفذيها… حينئذ سأختفي، ومهمتي أن أختفي لكي احمي نفسي أولاً، ورفاق قضيتي كلهم…
ـ نحن نفذنا المهمة بجسارةٍ خارقة.
وحالاً استشعرت فداحة الخطر الكامن، وأسرعت فوراً، لأختفي عند أول عطفة دربٍ معتم، وراء بناية مهجورة، حيث انتفض دمي لمّا روعني شبح الموت، فبزغت في ذهني فكرةٌ عجيبة، دهمت خيالي فجأةً :
ـ أن أختفي داخل كنيسة السريان الكاثوليك..!
مسحتُ بعينيّ الصقريتين كل الأبعاد والاتجاهات، واندفعت أخترق المسافة راكضاً بسرعة الطلقة المجنونة.. كان ذلك تحت غطاء كامل لعملية الانسحاب التي وفـّرها لي الرفيقان المكلفان بتنفيذ المهمة، وقد قاما، قبل ذلك، بتسليمي بريد الحركة السياسي، وشحنة المتفجرات.

* * *

كان المكان هادئاً، منسيّاً، أما الكنيسة فهي عبارة عن بناية قديمة، شبه مهجورة، وكأنها أثر غابر، يقيم فيها قسٌّ أعزل، أخرق، يتبدّى في أواخر الخمسين من عمره، وهو بنحولهِ ومحيّاه الأنثويّ يذكرك برقة ونعومة العذراء مريم، وابنها يسوع: له وجنتان مورقتان، فيهما سُحنة من ميعة الأنثى، وحنان العاطفة اليسوعية السامية. حين يخطو، كتفاه تنحنيان، باستدارة حادة وانخذال مهيض.. حاجباه الأشقران كانا رفيعين يتعرجان نحو مثلث الجبهة ليتلاشيا في وهدة الوجه الخابية… لا أدري، كيف واجهني باعتداده، ثم بدأ يختلج اضطرابه الداخلي.. كل الذي جرى لا يهم، ففي مدخل الحديقة المربعة، الصغيرة، تعلو ثلاث سدرات يحدّها سياج باستطالة متوسطة، وأرضية المدخل مبلطة بحجر عتيق منخور/ وفي الجانب الأيمن سلـّم حجريّ يفضي إلى السطح العريض. أما في الجانب الأيسر فتوجد زاوية طويلة، ضيّقة، وخالية، تنحشر بين سياج الكنيسة الخارجي ومبنى القاعة الكبير. خطوت بارتباك، كابحاً لهاثي، وخوفي، صوب السلـّم الحجريّ الطويل: كنت هناك، فوق السطح، أرصد المداخل الرئيسة، للشارع العام.
ثمّة وجوم، وكتمان، غامضين، فيهما رهبة، وهوان، يخيّمان على مناخ المدينة. كنت وقتها، منبطحاً على أرضية السطح. أرقب، وعلى حين غرّة غفوت، بفعل الخوف، والقشعريرة، غفوتُ، لبضع ثوانٍ/ ثم رفعتُ ناظري، أتلصّص من فتحة السياج/ لم أكن ألمح شيئاً، عدا، مروق السيارات السريع، وقد أخذ الأفق ينحسر، فيما الأضواء، تفرش أجنحتها الفسيحة على سماء المدينة: وفجأة ساد صمت شامل يكاد يشلّ حركة السير العام/ هنالك قلق فادح، حيث الإجراءات السريعة، تترتب حتماً، في جيوب المدينة، ودهاليزها، حينئذٍ، تدفق الظلام كثيفاً، مخيفاً، معلناً حلول الليل….
انبثقت من وعي قراءاتي الأولى، جملة، كانت تتدثر تحت لحاف عقلي المخاتل – وأنا أخطو، كنت أصرخ بحشرجة مكتومة، فيها انفعال خشن: أيها القسّ المنعزل، ما جئت لألقي عليك سلاماً، بل سيفاً.
وكان القسّ منتبهاً بتيقظ للجملة الإنجيليّة، ومرتبكاً، وكأن كابوساً أسحم مثل غراب الزمان القديم، قد هبط على محراب الكنيسة الكبير – يبدو أنه غير مصدق لما كان يجري– أثناء تلك الدقائق الحرجة… تركته يسترجع أنفاسه، وبيّنت له مقاصدي/ أطرق لائذاً بلوعة الصمت، حيث الشحوب يكلّل محيّاه/ خطوتُ خطوتين لأضغط على زر الكهرباء. انطفأ الضوء، داخل المحراب الفسيح. وزعت بقداحتي الضوء على رؤوس الشموع التي توقد عادة للسيدة العذراء. أمسكته من تلابيبه وصحت به: الآن ستعرف كل الحكاية يا قسّ…
شرعتُ أتنقـّلُ، قلقاً، بين أماكن الكنيسة الداخلية، أطوف حول مكمن القسّ، وهو جاثم بجبنٍ أخرق، وخلال مشوار الكلام الذي كنت أنطقهُ ظلـّت عيناي تصوبان سهامهما، وظمأهما، نحو المخزن البعيد، المظلم/ كان أشبه بالسرداب حين ولجت في الظلمة، وأدركت مبتغاي. عثرت على دنان، ملأت لي دورقاً من الخمرة المعتـّقة، المقدّسة. كان القسّ جالساً حين تجرّعت كأسي الأولى وصرختُ به:
ـ قبل قليل أيها القسّ ماتت حليمة الشرمة.
سيجفل حتماً من حماقتي ويفغر فمه، حائراً، ليقول، ماذا يعني هذا المعتوه الأخرق..؟ ما الذي ينطقه..؟ ومَن تكون حليمة الشرمة..؟ تعرفت إليه. إن الصدفة هي التي قادتني إليه. أو الحماقة، قل ما تشاء: لكن القدر الأعمى هو الذي جمعني به، وسأصرّ على أن لا أسمّيه، فهو حميم جداً، والله يا قس، حميم بمعنى الكلمة، فهو طيب، ورائع: كان يعلمني أبجديات المربي القبطي سلامة موسى/ وفي أقصى أطراف النخيل كنا نصيخ لإيقاع النهر/ ومضينا في مسيرات الغوص، نحو متاهة الغابة الجنوبية/ نلوذ بحافات السواقي ومعنا كتب ذلك المربي الكبير/ حين تركنا أقدامنا العارية تتدلـّى في مياه شط العرب، طفحت منه حشرجة انفعال فجائية، متوترة فيها ألم: ما الذي يلفت انتباهك..؟ قلت من تعني يا رفيق..؟ المياه. المياه. المياه… ماذا تعني لك..؟ ماذا بها..؟ قلت مثلاً: برودتها، طهرها، انسيابها، ديناميكيتها الأبدية، سرعة جريانها، أجراس الفرح في فوراتها، و ..و … أخذ حفنة منها ورشقها بوجهي: ستعلمك هذه المياه أنّ في أعماقها ترقد ألوف الرموز، بل ألوف الجماجم، وألوف الصخور/ وفيما بعد: أنت بنفسك ستعرف أبجديات الحقيقة المُرّة/ …، …، وغاب عني ذلك الرفيق الذي سأصرّ على أن لا أسمّيه، هذا الكيان الذي هو أكبر من كل الأسماء، لقد ترك الوطن، وتطوع للفداء، حيث قتل في الجنوب اللبناني/ والأغلب كما قيل انه انتحر..!!

* * *

قطعتُ شوطاً في معترك القضية: فإذا كان هو قد انتحر، فإن شظيّة الوجود هي التي تنفذ لتحتكم… وإذا كان قد قتل باسم قضية ما، فكلنا سنقتل ونمحق باسم القضايا الخاسرة/ ومثلما غاب رفيق دربي ومعلمي سأغيب أنا في بئر أناي، عن حسّي الأرضي – فالقضية بالنسبة لي هي نزوي الأخير للذوب في المعنى/ وفي تجرّدي/ قل صوفيّتي، وتجذري في العمق الوطني: حيث الطين هو الإنسان متشكلاً… فإذا نسيت ماذا حلَّ بك…؟ هل حلّ شيء ما..؟ تقدّم القسّ نحوي، قلت له: إذا كنت تنوي إشعال المصابيح فاعتبر نفسك ميتاً من الآن. كان المسدس في يدي وصندوق المتفجرات قرب قدمي. لبثت صامتاً. أقعد. صرخت بصوت غاضب. ثم ملأت الدورق/ بخطوة خاطفة، وللمرة الثالثة أرغمته على الشرب معي: إنه قربان اللقاء بيننا يا قس، ستشرب بالقوّة. وشرب وشربت. لقد أرغمته على شرب المزيد من الخمرة المقدّسة. وأسألك يا قسّ: كيف أحرقت مسافة العمر..؟ لكنني استرسلت، وأنا أكرع كأسي الثانية:
ـ هي عجيبةٌ يا قس، تلك المرأة التي دوّخت رجالاً صلاباً، وبالعشرات. ظلت عيناه على قلقهما ترسلان ضوءا سائلا، دبقا، موفورا، وفي سرّه خاطرٌ يقول: بماذا يهذي هذا الثرثار المعتوه..؟
ـ كانت حليمة تمتلك حنان الأنثى/ ليونتها العجيبة، وبنفس الوقت تطفح من داخلها صلابة اللبوءة الهوجاء – ولاأدري كيف أصفُ صدودها وتمنعها… دفئها وكبريائها… خبثها، وبرودها و ..و .. .. إنها تحيّرني، أيها القس، بنقلة حياتها – تلك الأنثى ماتت قبل مجيئي إليك بسويعات… عشت معها أعواما، قريبا وغريبا. ولم أستطع أن أمسك زئبق سرها الخفي – فهي الفارعة؛ ذات البشرة البيضاء، المشرّبة بدم الحياة الخمري، تمتلك عينين واسعتين مشعتين، داكنتين فيهما اتساع يشي بحب جارفٍ لبعض الرجال، وكره خارق لعشرات الرجال الآخرين..
رشفتُ هذه المرة رشفةً خفيفة، وتطلعت إلى محيّاه الحزين، رأيتهُ مسكيناً، خجلا من الورطة التي هو فيها. كذلك كان خجلا من لجاجتي وصلافتي… فأنا، حتما، بالنسبة إليه، معتوه، ثرثار، أوفدته الشياطين…
ظل يتململ مني، ويهزّ رأسه متحسرا… تقدمت منه/ قلتُ، صَدَعي، وصدمتي كانت فيها: تلك الأم، هه، أنا لست غبيّاً، كانت هي الغبيّة يوم شرعت تقدم كل ما لديها، إليها، إلى حليمة المدلّلة/ وخلال نضجها ويفاعتها، كانت هي البازغة، الفارعة، المغناج، تفتح كل النوافذ على مصاريعها وتتطلع إلى بحيرات السماء. تتخايل بشريطها الأحمر، الفاقع، الموشى بأرياش العصافير وأوراق الزهور الصفر/ كانت تتخايل مزهوّةً داخل الحجرة الفسيحة، وصدرها الناهض الريّان، المكتظ، يندفع متأرجحا، كالعثوق الثقيلة: ولم تكن الأشياء تعنيها. كل الأشياء الأليفة/ لا تعنيها. الأشياء الثابتة لا تعنيها. ولم نكن نحن الصغار، نعرف عن أبينا الغائب الأشياء الحقيقية الكاملة، سوى أنه غائب. أين غاب..؟ لا أحد يجيب. وظلت حليمة الطفلة تقطع مشوارا طيبا في المدارس الابتدائية. ثم انقطعت فجأة دون أن تترك سبباً، عن الدراسة: كانت تبصق على الحروف السود في طيّات الكتب المدرسية، ثم تتوه، تستغرق في نوبات الأحلام، عيناها تتوهان وهما تسرحان، خارج الأبواب، والنوافذ المفتوحة، عيناها الحائرتان تمسحان ضباب الزجاج البراق برموشها الكثيفة… إني، أذكر عنفوانها الفتي وهي تطبع بقدميها النيّئتين على لزوجة الطين الحار كل مزاجها المشاكس… لا زال حفاؤها العجيب يتدفق بالطراوة بعد كل هذه الأعوام، كنا نسير معها حفاة، حيث تحسر ثوبها القطني عن فخذيها اللدنين ويشتعل سروالها الوردي، ويفوح منه بخار الأرض التي نمشي عليها، فيصفع وجوهنا الضائعة في أشعة الشمس، يفوح بشراسة ذلك الطين المرصوص حين يلطّخ ركبتيها وساقيها الموحلتين، جسدها يصهل أمامنا مثل مهرة، فيما كنا نكركر، وحبات الطين تتناثر على عريها الفاتن، ونظل نكركر، والغلمة الموجعة تتأرجح في ثيابنا المتسخة، حيث انطبعت مؤخرتها المدورة الكبيرة على عجينة الطين ونحن نكركر/ ومعنا صبية سمر الوجوه، وبيض الوجوه: كلنا نكركر ضائعين، مغتبطين، ذائبين في شمس العالم، وحليمة أمامنا تطير بقامتها البيضاء. كر. كر. كر، حتى نتلاشى وراءها في ضجيج البراري البعيدة.

* * *

غابت حليمة مع أمها في رحلة قصيرة إلى جزر الخليج. لا أدري كيف قادني فشلي الدراسي إلى التطوع في الأكاديمية العسكرية البحرية. الآن أتذكر المناخ العتيق للأمكنة الغاطسة في ذلك الزمن الموبوء . تطوعت ثم فُصلت… انهض يا قس. انهض واجلس على كرسيك الوثير/ كان الكرسي مصنوعا من الخشب الأبنوس اللّماع وهو يبرق تحت نير الضوء الشمعي/ وخمرة الكنيسة المقدسة خفيفة، عذبة، ومغرية. اتجهت إلى المخزن وملأت الدورق ثانية/ ولم أكن إلا بعد أعوام قد عرفت سبب فصلي من الأكاديمية البحرية، كان ذلك عبر مسافة زمنية محرجة، همت خلالها على وجهي بين الضواحي والمدن/ عند الأقارب والأصدقاء ثم سقط على روحي من علياء السماء شهاب الرفقة الأزلية للفكر الحي: كان ذلك عبر صديق طيّب، وحميم/ حميم جدا، حميمٌ حد الفجيعة وحدّ الوجع كلما أذكره، تهطل شمس الجنوب على وجهي وتنسكب على روحي… كان القس يبدو هزيلا، ومتعبا حين نطق: عشرون عاما قضيتها هنا، قبل ذلك أفنيت شبابي في الدرس، داخل مدرسة للرهبان…
كان عمره يزحف مثل شجرة سوداء، هزيلة. وبعد يا قس/ وبعد، أكمل/ أنا سأكرع: حين انضويت في البداية تدربت على السلاح، ومضيت بعزمٍ وإقدام، شرعت أمنح كل قوتي وشبابي للحركة. اشرب. ملأت له قدحا، وشرب وانتفخت عيناه. أعطيته الكأس للمرة الثانية، وشرب. مسدسي مرميّ على الأرض تحت ضوء الشموع. أزحتهُ وأنا جالسٌ، ورميته بقدمي، بعيدا إلى أطراف السجادة الحمراء، المرقطة بزخارف سود/ يا قس: فُصلتُ من الأكاديمية البحرية، ضجرت وطُعنت في كرامتي، ثم انضويت إلى القضية بكل ما أملك من إيمان، والآن قتلت حليمة، لقد دفعت ثمن تأريخها الشخصي. أقنعتها منذ البداية، أو لنقل هي اقتنعت بقضيتي… كانت تنوي الهروب إلى أقصى أطراف الدنيا، بعد انجاز المهمة. كنا أفهمناها بأننا سنعتقل ضابط المهمات السرية أثناء دخوله مخدعها. وبعد ذلك نسفرها إلى بيروت، لكن المتفجرات الموقوتة كانت ترقد تحت سريره. إنتبه للشواهد يا قس: سأسير بحذر، أنت امكث مكانك. سأسير إليها: ثمّة أشباح لظلال مُحيّرة تُحرّك ذوائب الأشجار/ وشيشها الصاخب يسدّ أذني، وأطيافها تنعكس على لوائح الزجاج. الخمرة تتلألأ تطفح في القدحين. بصحتك/ ها/ يرنّ ضوء الزجاج المائي. فما الذي يعنيه لك الضوء..؟
القس: الضوء يعني لي عزلتي البعيدة، والباردة عن الناس، وألقهُ يُشعرني بجلال الله/ وأنت..؟
أنا: العتمة هي عزلتي وبعدي عن الناس، لكن الضوء هو منارتي، ودربي/ وأنت..؟
القس: العتمة تعني لي وجهي المختفي عن الأشرار/ وأنت..؟
أنا: الضوء يُشظيني في وجوههم، ووجوههم تتشظى في وجهي/ والنتيجة..؟
أنا: سأترك شفتي لكأسك كما تريد/ وبعد ذلك كأسي هي كأسك. لا، سنظل نشرب. هل تشرب بعد..؟ نخب الليل الغامض، المخيف، والشجاعة القصوى، والوطن الجريح، ونخب يسوع الخالد. ونخب الطين: منه جئنا، واليه نعود… ها. ها… آمين/ لقد صفّرنا الدورق تماما يا قس.

* * *

حان وقت الصلاة – انهض الآن– القس ينظر إلى الساعة الجدارية، وقد حانت لحظة قرع الأجراس في الكنائس البعيدة، رنينها البعيد يثير الخشية والورع في نفسه. كنت أتسلق درجات السلم وأطل من وراء سياج السطح أتطلع إلى الشارع العام، كان كل شيء ينبع من تربة الحذر، والترقب/ ثمة صمت ترابي، زاحف، جاف، اخذ يتلاشى أمام صوت أول سيارة تخطف عبر الشارع العام/ غاص القس غارقا بين يدي الرب.
– فلأقترب.
كرعت جرعة طويلة، حيث انبعث صوت رهيف يتمسح بالجدران عبر دفق الهواء اليابس، كانت الجرعة قوية غاص معها شراع الخيال: حليمة القادمة من رطوبة الخليج وملح الجزر الميتة، بطولها الفارع وصدرها المندفع المحروث تؤجج المواجع وتمطر أيامي بالضنك، تستنهض قهري وعذابي… قبل مجيئها كنت قد كُلفت بإيصال منشور خطير إلى الرفاق/ وهناك أدركت مقام بيتها المنزوي عبر زقاق يواجه البحر. لم أكن أبخس حق نفسي بدخول بيتها، وهي متزوجة من رجل خليجي. لكنها جاءت بطريقة ما. عجيبة. الله يعذره، أحدهم: في حقيبة سرها نبأ قدومي إلى جزر الخليج. داخت وكانت تذلّل المصاعب وتنفق الغالي لأجل الوصول لي… ثم استغل اشتعالات أشواقها أحدهم، وقادها إليهم، إلى وكر الرفاق العتيد.
دفعت هي كل أثمان زجاجات البيرة التي فرشوها على الساحل البحري شرط أن تراني. وشرعت تشرب، ظلت الريح تسفي وبواطن الرطوبة تندفع بفورات حارة مبحوحة… شرعت تشرب، وتشرب، وتدوخ، وتهذي/ وسنونو الغربة الأسود الحزين يحلم بالعود إلى أعشاش الطين. كانوا يصدحون في ساعة بوهيميّة خرقاء، تتدفق حشائش الرغاب المنفلتة، عارمةً، مكتظة ً بالخسّة الخضراء، الكل دخل سيرورة الغيبوبة والدوار، خلعوا كل ثيابها ورموها في البحر، حيث هجمت ذئاب الأمواج/ هناك تحررت من شعلة الإحساس الراقد/ قنفذ المرأة الميت/ وعوى البحر مدلهماً في الحلكة القيرية – وامتدت جسور اللقاء/ كنت على يقين من حزنها وعذابها حد الخراب.

* * *

نزوعي الموضوعي/ ركائز الأشياء/ الحقائق المقدسة: مَن تكون…؟ الرغائب القلبية/ فكرة التلاشي/ جدلية الخفاء/ أحداث الساعة/ غابة الأنا/ إمساكي لخيط القضية/ اندفاعي. فعلي. المصير. الدم الثوري–،،، من كل ذلك جعلت الخطوط العامة لسلوك حليمة مفتاحاً يفضي إلى المدى البعيد الذي نسميه نحن بنسبية عالية: حرية الكائن الشخصية (وفي قدحة خزي عارمة: عهّروها… رفاق الحركة الأجلاّء، وأعوذ بالله من المساس بجوهر الحركة– قد عهّروها… كانت تنوي، وبشوقٍ عارم: أن تراني– فاستغلوا أقصى درجات حنانها وأشواقها لي، وأوقعوا بها – وهي ثملة، ومن قلب ثمالتها اندفعت إلى احدهم تغرز أظافرها الباشطة في عنقه – كانت تودّ الوصول إلى عنواني،، ثم طعنوها، بينما وصلت برقية التحاقي فورا إلى المركب المرابط على الساحل، من بدء اللقاء، على أمل أن أعود، ولكن الظرف استدعى عبوري إلى عبادان… لقد طعنوها، بغيابي، أحدهم طعنها بشفرة سكين. شقّ لها شفتها العليا، وشرمها… وبعده تناوب عليها رفاق القضية، الواحد، تلو الآخر، وشرموها… كلهم، تناوبوا عليها، رفاق القضية الأجلاّء…).

* * *

وصلتني صدمة السقوط: كنتُ لا تهمني أبدا، تلك السقطات، ولا النواحي الشخصانية التي يرتكز عليها شذوذ الناس. كانت القضية، عندي، اكبر من السقوط الفردي لبعض الرجال… فهي نبض التاريخ الديناميكي الحي، فأنا ذوبت ذاتي في الجوهر العلماني للقوانين الكبرى، هذه القوانين تمثل كل مصيري الضئيل في هذا الوجود الهائل، لذا قفلت راجعا إلى أعماق الوطن، عائدا إلى قلب النار المشتعلة، متخفيا في الظل المعتم، بعيدا عن عيون الشرطة السرية، حاملا رقبتي على كفي: كنت في الحقيقة قد سحقت أناي بقدمي، ووهبت روحي للفداء، فمن تكون حليمة إزاء قضية عُظمى أنتمي إليها…؟ ومن يكون فلان من الرجال، وفلان، وفلان من أولئك الحثالات…؟؟ كانت القضية تجري بدمي وعقلي وكياني، فهي كل ما يتعلق بمصيري ومصير هذا الوطن الذي شددت نفسي إليه بأقصى العنفوان… وتخفيت في القاع السفلي، في بيوت الصفيح المُطلـّة على الأنهر المنسيّة، وصرائف القصب التي يكتظ بها النخيل–، ومن هناك، من قلب الأعماق، كنا نشعل الحرائق: حرائق التظاهرات، والانتفاضات المناهضة للاستعمار – حيث الجوع يلازمنا أياما، والبرد والخوف يصطليان في شراييننا – مع كل هذا كنا نتلذذ بطعم النضال وحرارة الكفاح،، الكأس، لا تنسَ الكأس إملأها رجاءً، أيها القس – ثم دوّت فجأة، في الشارع، الريح – ظلت عواءاتُها تخرق القاعة، بينما النبيذ ينعش المزاج ويبعث الدفء في الجسد – ثمّة ضغط الخوف يجمّد دم القلب–.
وكنت أتوقع اقتحام الباب الرئيس من قبل زمر ٍ مسلحة والسيطرة على الكنيسة – بالأسلحة الخفيفة – كانت عيناي تتلفتان، ودمي يتأكسد، فأشرع بالخطو – أخطو و أخطو – وقدماي تتوثبان متباعدتين على درجات السلـّم. حين أصعد على السطح ارقب الشارع من فتحة السياج وأمشط المنطقة بنظراتي – أمامي واجهات السطوح الخالية متدثرة بعباءات الريح. والنغم الرهيب يرتفع على شكل طبقات صوتية تتماوج، لتتأصّلَ في كهوف روحي.

* * *

صوب المخزن سار القس – وعاد بالدورق مملوءاً بالخمرة المقدسة، يبدو أن لديه خمرة كافية، في زوايا لا أعرفها: كنتُ ألمحُ تململهُ، وقلقه/ كرعت جرعة قوّية. إملأ لي ثانية ً. ورحت ارشف على مهل ٍ واغرز نظراتي في أعماق الأشياء المحيطة. قلت للقس على غير توقع منه: إذا كنت تنوي خيانتي سأرديك قتيلاً على الفور، وبلمسة جبن ٍ منه، أو نيّة طيبة جلس على السجادة وشرع يرشف من كأسه بفتور.
ـ هل أحكمت قفل الأبواب..؟ أحكمتها قال، واثقا ً من نفسه.
ـ في الغبش سأرحل. أعطني قفطانك الأسود سأرتدي مسوح الرهبان حين أخرج من باب الكنيسة.
وأنا أقهقه قلت: لا نوم الليلة. وبعد ساعات قليلة تخرج قُدّامي عارياً إلى الطريق العام، بحجة أنك رجلٌ مخبول، ثم تعود تتقصّى المنطقة – وفوراً سأخرج في ساعة الفجر الأولى – كنت على موعد مصيري قرب الجسر أنتظر التعليمات من هناك… و – حانت ساعة الانطلاق: خرجت مرتديا ثياب القس وكان الأخير مرتديا سرواله الداخلي القصير… مشيت بثقة عالية جدا، وخطفت صوب أقرب زقاق واختفيت. وهناك قرب الجسر كان ينتظرني رفيق الحركة ومعه رسالة… فضضتُ مظروفها وعرفت كل شيء: تدفن المتفجرات تحت الجسر وتنتظر تفقيسها..!! ما عليك سوى حراستها. أنت مجمّد عن الفعل الحركي، الآن، بانتظار التعليمات القادمة إليك من فوق.

الجزء الثاني

البيوض الميكانيكية

قنابل الحديد – كانت على شكل كرات بيضوية، أبرق لي الرفيق شفرة ً: قال إنها بيوض الصواريخ القادمة، ستفقس حتماً إذا أكملت دورة الحضانة، ستطير عاليا، عاليا، فوق سماء الوطن، ثم، بُمْ، تنفجر، ويهدر هديرها، وتمحق وتسحق/ تدوّي وتعوي/ ثم بُمْ مْ مْ مْ/ هكذا أبرق لي رفيق معتوه، أم أنا المعتوه…؟ هل أعيش حلما كونيا اخرق..؟ أنا في دوار ضبابي كثيف… وآخر قطرة في الدورق كرعتها هناك في الكنيسة – الآن – ينحني الخيال – ويغوص بي متوثبا إلى غور بعيد، هناك في الظلام المتخثر، يتمرّغ، ويندثر و يمتزج، وأنا معه هلاما ً هشـّا ً اندثر، مع اندثار الأشياء.
لا أدري كيف حطـّت الشمس على وجهي والقفطان يغطي جسدي/ ارتعبت من خفة وزني. هه. كنت قبل ذلك قد تركت القس ينحني وهو يخلع صديري البدلة الأمامي/ يخلع والظل ينبت على الجهة/ ثم ينهض – ويختفي الضوء/ الضوء يحز. لا…/ الظل يخلع مسمار الأمان، لا…/ ضوء. لا. ظل/ والقس يتمرّغ على السجادة الحمراء المغبرة كالقطة المنخذلة/ يخلع بقيّة البدلة ويسقط كل الثوب الفاحم على السجادة – وبالسروال القصير، الداخلي، الأبيض كالقطن يخرج إلى الفضاء البارد – وقلبي مثل اللولب على كفي/ ورغم الثقة المصنوعة بعناية، مصنوعة صنعا في معمل النفس الحائرة. كانت المتفجرات بكفي: والقس قد غاب في بحر الهواء الرمادي، البارد.

* * *

أين كنت حين خرجت –لا أدري…؟ الخمرة قاطرتي، أقلـّتني وحمتني وأوصلتني إلى رأس الجسر، حيث الرفيق الذي كان بانتظاري قد قال لي حافظ بجسارةٍ وإقدام على بيوض حركتنا الثورية – أنه أعطاني كتمان السر: لأنني حفظت كلمة السر في طيات نفسي/ وأنا أهزأ/ وأقنط/ وأضغط على صدغي، بكفي الراعشة: فماذا جرى..؟ أي بيوض..؟ هل أن القنابل تعني بيوضاً..؟ وكانوا أطلوها باللون الأبيض/ فأنا غائب في سورة الضياع/ وبحر اللوعة السريالية المشنوقة بخيط العقل التالف/ فأيّ توريط اكبر من هذا اللغز الذي أنا متورط فيه..؟
ـ أيها الرفيق: ستمكث هنا، تحت الجسر، بانتظار التعليمات وستحرس بيوض حركتنا الثورية: معك في الواجب رفيقة درب وحاملة سر. الوداع –

* * *

كانت معي امرأة، قصيرة القامة، قبيحة الشكل، سمراء، ضئيلة الحجم، تبدو كمعتوهة بمعنى الكلمة، مقرفصة، في الظلمة بمحاذاة خط الماء، تحت الجسر الكونكريتي الشاهق… تركوا لنا عدة طبخ بسيطة: أوان وقدور وقداحات وطباخ نفطي وفانوس وعدة لصيد السمك… يبدو سقف الجسر شاهقا، والظلام يهبط عموديا، وهدير السيارات يخرق الآذان، وفي المنحدر البعيد من قمة الجسر إلى الأسفل تتكوم الحجارة الضخمة وأكداس القمامة، وكهوف الكلاب والجرذان/ مكان موحش، مخيف، لا يقربه الإنسان السويّ (مرّ الوقت وأنا راقد في ظلام عقلي. كانت ظهيرة مرعبة قاتلة، مضجرة تماما على ما أذكر: تغربت فيها مع المعتوهة وقلت لها: قُفـّي على بيوضك – جيدا ً أنتِ دجاجة حركتنا الثورية المسلحة – كنت أغمز، وأواري غمزي حين تحسست القنابل الخمس تحت عجيزتها – شرعتُ أصيد السمك الناعم، والسلاحف الصغيرة الخضراء والضفادع المرقطة؛ -هكذا مرّت علينا الشهور، نأكل ما نصيد، ونغتسل بالنهر ونتبرز/ والمياه تذهب هادرة ً ولا تعود/ وتأتي مياه جديدة ليس لنا فيها قشـّة من أمل… في البداية كنت اعتقد أنها معتوهة كاذبة، تمارس دورا فكاهيا نابيا، فهل يعقل ذلك إزاء قضايا خطيرة..؟ لكنها واجهتني ذات يوم بسؤال لم يخطر على ذهني…
ـ كيف حدثت المصيبة لحليمة..؟
حين أفطن وأتأمل إدراكها الرصين، وأسألها بحزن فاتر عن البواعث التي حدت بها أن تسأل ذلك السؤال، وكيف عرفت، بالسرعة القصوى، عن مصدرها، كانت تلوذ بصمت هو خليط من المكر والعفة، الحكمة والدهاء/ مرّة غصتُ في النهر، تحت الجسر، وشعرت بقشعريرة الزجاج المحطم، وشظاياه تنغرز في اللحم المدمّى/ كان ذلك في كانون الثاني، حين خرجت عاريا تماما وأسناني تصطك من زمهرير البرد، واجهتها بكل عريي/ وضعت كفيها على كتفي وقالت– أجلس– كان بريق الذكاء يشعّ هذه المرة من عينيها المتـّقدتين– جلستُ– وتنحنحتْ هي من مكانها، تركت بيوضها الملمومة، وخلعت ثيابها، كان شرطي عليها أن تعلـّق ثيابها على شكل ستارة أو سياج دائريّ كالحمّام المفتوح، جلستُ بمواجهتها– وقبالتنا ماء النهر السريع… انخرطت في تلك الساعة العجيبة أحكي لها– ساعة عرينا الصارخ والبرد الفولاذي فوقنا يتمدّد مثل كلب ٍ بليد– قفزت فجأة ً، إلى ذهني، صورة قديمة، معتمة، صورة أمي حين كنتُ أعي الأشياء تماما رغم صغري، في أوائل صباي، لقد اشتعلت الآن بوقدة من وقدات الذهن: إنها صورة أمي في الحمام وقد راحت تنادي على حليمة لتفرك لها ظهرها، ذلك يتيح لي الآن أن أسأل: في أي غابة قديمة، مطمورة بالرمال منها انبعثت تلك الذكرى، اعتقد أن العري يجلو الصدأ عن كل حشمة، فما أن يتعرى الإنسان، خصوصا المرأة، حتى تتصاعد فضائح الماضي العتيق– ظلَّ الباب مفتوحا حين لمحتُ عُريهنّ الاثنتين– حشرت حليمة الليفة الخشنة المشبّعة برغوة الصابون بين فخذيّ أُمّي وشرعت تفرك تحت السرّة بكفها البضة الملمومة ذات الرغوة الطافحة بالوغف– تفرك بانفعال طفوليّ، غنج، وكفها تخرج من بين الفخذين لتعلو فوق البطن– ثم تنزلق برعشات ينتفض منها الماء الرغوي، ثم تعود موتورة، الذراع تحشر كفها أسفل اللطخة المفلوقة، المشعرة حيث اللحم بكل قبحه المضغوط ينفرش بدفق ٍ وسيولة/ ليعود صلبا و لدنا في نفس الوقت. ومع لهاثهن، عبر تموجات الحراك العنيف، وقبل أن يندلق الماء على ظهر أمي، صرخن، بكل قشعريرة، وخرجن إلى صحن الحوش، بينما تسلق على باب الحمام أبو بريص، أصفر جوزي، مقشعر بطول الإصبع الرفيع… كنت ممددا على حصيرةٍ والعرق الغزير يتدفق على ثيابي/ تركت لساني الأحمر، المنفعل، مسحولاً على الشفة السفلى، يتدلّى مضمّخا باللعاب، والزبد، وقشعريرة الخجل، حتى ولـّيت هاربا إلى الحجرة الصغيرة/ ولجمت الثعبان، كان خائرا، بعد الانتفاض وفي نفس المساء، كنت فوق السطح، في الظلمة الكثيفة، مغموما، حزينا، مغمورا بالضياع حين سمعت خطوات قوية، حذرة، والباب الخشبي الثقيل ينقفل بقوة/ وقتها سقط ميتا ذابلا ذلك الثعبان الذي سحقتُ على جثته إلى الأبد وفاحت روائح الموسيقى عبر تجليات سماوية، تفيض بالنور، ومثلثات اللون الأزرق الفاتح، موسيقى لا تهبط إلى الأرض، ترتسم مثلثاتها ودوائرها على خطوط مستقيمة مشعة يغمرها بياض تحسّه ولا تراه، نحنحت جسمي، ورحت، شيئا فشيئا التصق بسياج البيت الحجري، ظلت الرعشة الباردة، الواخزة، تطوق عنقي، وتفرش نموها على شعري، وتموع بنسيمها البارد على صدري، ويثب قلبي، صاهلا بالبرد، حيث الضوء يتشظى في كل قطرة من قطرات دمي، فلم تدمع عيون النجوم، وبقي القمر البعيد ينحدر في رحيل، لا يعني لي شيئا… ومضيت فوراً، منذ بواكير الصباح لأتطوع في الأكاديمية البحرية، عازما على فعل ٍ لا يعلمه سوى الله، بعد شهر واحد، مجساتهم كانت تعمل، وترصد، فكان طردي سريعا من الأكاديمية البحرية، وانضمامي أسرع إلى الحركة السرية الوطنية/ كنت أخطو إلى الأمام وأمي تنكسر عظامها تحت عجلات الليل الصلبة/ بينما حليمة قد دربت أناملها على حاسة اللمس الأبيض الناعم/ ورغم كل عزلتي، والظروف القاهرة للعمل السري، وأحزاني كانت تداري قراءاتي للكراسات الصغيرة وتحترمني وتترك أمامي كوب الشاي وتختفي أياما مع أمها – حتى حلـّت رحلة الخليج المشؤومة. هه. ماتت حليمة كما تدرين صريعة للغواية، والخديعة، والنذالة، ودرب السقوط الخطير… لكنها ماتت وفي قرب أعطافها إضمامة من الشهامة… لكنها ماتت، هكذا: ونحن بعرينا – سحبت غصنا كان طافيا في النهر يلوذ بدفق الأعماق الدافئة وفوقنا تمر شاحنات ضخمة، إنها تبدو ثقيلة من خلال ضغطها الهائل وطقطقتها لأضلاع الجسر… يبدو أن أحداثا جسيمة تجري في المدينة… ثم ساد ظلام قابض للروح، مخيف، يتدفق منفلتا.

* * *

حين بدأت لعبة العرائس. اقتربت مني، واختفت، لتنغمس مع صبيان الطفولة، ولما كنت فاشلا في الدراسة تطوعت إلى الأكاديمية البحرية حتى حانت اللحظة التي التقيت فيها بصديقي الذي فتح لي آفاقاً لا تنسى وسلمني إلى أول مسؤول في أول خلية سرية أنضمُ إليها، وهذا الأخير أدخلني مملكة عجيبة، كان ساحرنا كلنا، بموسوعيته المعرفية وتصدّره لطاولات الشراب، كان يدور بيننا والكأس في يده… لا زلت اذكر طول قامته، وسمرة بشرته، وشعره الأسود اللامع، وشفتيه الخلاسيتين… ظل يتصدر جلساتنا ويحكي لنا عن صلابة الرجال، التاريخيين، وعن المسرح، ونظريات السينما، وآفاق الفلسفة. إنه يُذهلنا بهالة الكياسة والتهذيب الباديين على سلوكه، ولكنه عرف بحبه، أثناء استقطابه الآخرين بفن تسليط الضوء على شخصه/ وهي أمور هيّنة إذا ما قورنت بمزاياه الرائعة، وفي هذه الفترة كنتُ صفيتُ حسابي مع شيء قاس ٍ وفظ ٍ يسمونه حب الذات، حتى فرقتنا مشاغل النضال وأعباء الحياة، ولم يعد احدنا يلتقي الآخر عبر سنين عديدة، إذ رُحّـلتُ إلى خلايا خفية مبثوثة في ربوع الوطن، وخارج الوطن.

* * *

اخرجي: خرجت/ كوّري: تكوّرت/ ومن الخلف تدفقت/ وغبت في الماء… تركتها تغتسل، بغرفها الماء بكفها من النهر ثم نشفت جسدها الهزيل وراحت تحتضن بيوضها، تحسّستها، وقلـّبتها مثل أي دجاجة حقيقية تحرص على بيوضها… وحكيت لها… إي … إحك ِ لي: لكي نغفو نحن الاثنين فقد كان النعاس يطوف كالبعوض المتعب على أجفاننا.
(القماش الزاهي، المشجّر، تلصقه حليمة على صدرها، وتحسر ثوبها القصير، عامدة ً، فيبرز فخذاها البضّـان، الريّانان، ويشهق صدرها الناهد – وتنهض بطولها الفارع – ثم تنحني يفوح زفيرها كالبخار المسكر، تنحني لتفرش القماش المشجّر كفصال ٍ أوليّ، فيتدفق عريها من الخلف كأنه هالة من الفحش، والبياض الحليبي، المذهّب/ بأشعة البريق – كنت أحسّ ذلك، المتحرّك الغبي، المتململ، قربي، فأشيحُ، متعكّر المزاج، عبر ذلك الصبا الزاهر بالخسران، والضياع، والكره للمكان الذي أعيش فيه – كنت أمدّ كفي لتلامس القماش، الأخضر، ذا الورد، والأشجار، والطيور الفارشة أجنحتها على فضاء الثوب الصيفيّ الفسيح، فأحسّهُ، مثل طيّةٍ عابرة يخجلني انكسارها الرخيص… كان ذلك العري – الجميل، صدمة لي، سأظل أدفع أثمانها / بالنسبة لي تأتي أمي وتجلس بيننا تُسوّي القطائف وتصفف الدانتلا / ثم اشرب الشاي لأخرج إلى مناخ غريب أحسّ به يحتويني، كقوّة غاشمة، أو، قدر عنيف ينبع من أحشاء زمان ومكان رمتني إليه شياطين خارقة، آتية من أعالي الجحيم / وحدي كنت أدور حول الأسوار العتيقة، الخرائب. الحيطان المغبرة، وألصق جسدي بسياج المدرسة الابتدائية وأمسح لساني به، أتذوّق طعم الطين العتيق، المفخور، وهشاشة الاسمنت الأخضر، والجص، والحجر الحائل، وحتى أجنحة الذباب المحنّط، المنسيّ، مغروسا في كل ثقبٍ من ثقوب الجدران: كنت أشمُّ بعنفٍ ذلك الفراغ العدمي، الذي خلّفه لنا صبية الأمس البعيد: أين غابوا..؟ ورحت ابحث عن لاشيء / عن نفسي الدائرة، كأنها فقاعة ملتصقة بمكان اسمه القدر … كان الغموض الأسود، داكنا، فوق حافات ليل المنطقة / رحت انعطف على المقاهي فأرى: شاربي الشاي، والاسكافيين… وضوء النيّون الكثيف… ثم مشيت إلى أنبوب البترول الممتد إلى حافات البراري وراء المدينة – هنا، كنا نجلس على، ذلك الأنبوب الأحمر، أنا وصديقي، رفيق دربي وأستاذي الذي مات في لبنان، منتحراً: كان يحكي لي عن شيءٍ متعرّج يبدو لي مثيراً، محيّراً، قال، حزينا، متأملاً مسحة الغروب: الأشياء، لا أحسّ، التواريخ، لا أنحّي الأفكار… ثم راح القلق الأبيض يتدحرج على قميصي، كان يقول قد تعني الأفكار عظمة الموت، وحِطة الخيانة… تذكر، قال، إن أعظم الميتات، وأغربها، لا يُتوّجها إلا فكر، قوي، زائغ، ومجهول،،،… إنني أمسك ياقتي بإصبعين متوترين، عندما راح يتركني، ويمضي إلى خرائط أخرى، غارقة في العتمات / هاهي المقاهي، بعد أن غصَصتُ بلوعة الذكرى، تعوم في ضوء كثيف، والسيارات تجرفني إلى الحيطان التي شعرت بغبرتها، وقت ظلمة الغروب، على ما أذكر؛ كان مزاجه فَضَّاً رغم كرهه للضوء أكثر من كرهه للظلام، وكلماته لا زالت في أذني: كل الوجوه الساطعة عليها غبار العناكب، آلمني، وحطمني كرهه للمكان لأنه كان يعدّ نفسه للذهاب إلى النار المجهولة، حيث قتل، هناك في لبنان / كان منسيّاً من نفسه، وقبل عامين من مصرعه، أعطوه إجازة – ذهب إلى داخل بيروت، وكانت السماء صافية. وقف قبالة شباك قطع التذاكر أمام مدخل السينما، نسي نفسه، ومرت أفواج المشاهدين، عاد وقتها إلى الباص. كان خاليا. حدثه السائق عن الجهة التي يريد (فجأة) أوقف السائق الباص. نظر هو إلى السائق والسائق نظر إلى وجهه. لا يدري كيف هبط وغاب الباص وداست على رأسه الظلال، مرّت خاطفة، وعادت، رفع رأسه، رأى سرباً من الحمام الرمادي / وغاب في أزقّةٍ حجرية، عتيقة، دار حول جبل صغير حين كشرت أنيابها جحافل الظلام / غاص وحده في الملجأ، وراء الثكنة الفدائية: وحده، في العتمة، ظلّ يصيخ لإيقاع أنفاسه المتعبة، كان وحده، كلهم نزلوا في إجازات طويلة، ثم مرّ الوقت البطيء، يحبو مريضاً في غربة لبنان): وكنت التحمت بالحركة السرية التي كسبني هو إليها عضواً، مغموراً حتى نشطت وقوي عزمي بعد رحيله وكنت أُنمِّي نفسي، أدرّبها / وأغالبها لكي احكم عليها قفل الزجاجة حتى لا أخرج منها إلى فضاءٍ يُقصيني عن المعركة… وأسفت لخوزقة القدر لي / وكانت نصاعة القضية وطهارتها هي عزائي العظيم، فاندفعت أكثر، أجاهد نفسي ضد نفسي، خوفاً من خذلانها أولاً، ثم ضد القوى الغاشمة التي يمثلها آلهة القمع السريون…
وبدراية قصوى، عمّقتُ آفاقي النظرية. وكلما توسعت بذلك صرتُ أهزأ بكل التقاليد الجائرة التي زرعني فيها ذلك القدر الغبي، ومجمل الظرف التاريخي لتقاليدنا الاجتماعية البائرة.

* * *

أنتِ نمتي: فأنا يقظان، والنهر أيضا يقظان / والنجوم التي لا نراها يقظانة، لكن حركتنا، التاريخية، الحيّة، كانت نائمـمممممة / لِمَ آلت الأمور إلى ذلك الانحدار…؟ ولِمَ صار الذي صار..؟ ها. ها. ها حليمة تبحث عني، وكنت وقتها في الخليج: فهي تودّ رؤيتي بأيّ ثمن كان: وكان أبرز رفاق القضية المهاجرين إلى المنافي، حين كنتُ متخفيّاً في الداخل قد شرع يلوّح بالورقة الرابحة / واندفعت حليمة تساوم / والرفاق الكبار يُساومون، هه، كان المنفى قد صار حديقةً لفسحة الفكر وخموله وتفسخه / كنت عبرت الحدود في مهمة سريعة وحاسمة/ ومن أعجب الأمور أن الشرطة السريّة قد تيقظت وحسمت أمرها، لقد أدركتْ عنف الحركة ونشاطها وأساليبها القوية، حيث الشارع ملتهب: حينها تبدّت لي نجمة الانتصار – فلا زال هناك متسعٌ من الوقت لقبر اليأس في مهادهِ…، وعبر ذلك المناخ العارم / وعبر تعرّج الشرط التأريخي / تيقظت قوات الشرطة السرية وحسمت أمرها… / كان الصراع محتدماً حين نصّبت الوزارة ذئباً مجهولاً، باطشاً لديه الاستعداد الكامل للصيد في الأعماق الضحلة والبعيدة. كان اسمه السريّ (أكثم) يوم راح رجال حركتنا في الداخل يتساقطون في شباكه العجيبة، وأدركنا، بجهود خارقة أن كل الأسماء السرية لرفاقنا قد وردت على لائحة أكثم السوداء.

* * *

عدت إلى الجنوب، حذراً، وأوصلت البريد السياسي… ها… الرفاق الكبار في زوايا – المنفى – داخل الخليج يعقدون، الصفقة المخزية، دون علمي… مع مَن..؟ … مع مليحة… وفي خيالك ترتسم أيها القارئ، الليالي الحمراء – بينما الرقاب تتدلّى وأحواض الخمور، هناك، تشتعل، بينما الأوكار في الداخل تتساقط في قبضة السلطة… ها. ارسموا في أخيلتكم، وتصوروا أفخاذ حليمة الملتهبة، تتعهّر بنار الشبق / كنت عائداً، وبسرعة خاطفة عبر الصحراء، حين نجوت بأعجوبة قدر، بعد يومٍ واحد من سقوط أهم الأوكار في الداخل – يبدو أن عناصر قذرة اخترقت قلب الحركة ونخرتها، وأوكلت خطوط ارتكازها إلى مكاتب الشرطة السريّة / والنتيجة / حليمة نائمة / والحركة مُنوّمة / بينما الرفاق يتساقطون سقوط الذباب … وكانت لحظة الخرق أو، سمّها أنت: القمة الخاطفة والعار الأبدي – يوم وصلتُ سالماً من موت محقق: أدخلوني وكراً، هو بالحقيقة خدراً، أو مخدعاً… شربت كثيراً لأزيل هلعي، وأعيدُ توازني، فتحدثوا معي كأساطين نضال تأريخيين… تحدثوا عن العمل الخاطف / والتراجع المنظم وعن قيادات الظل/ وأمور السياسة الأخرى… وبعد أن أُترعوا كؤوسهم قالوا. أدخل. أين..؟ -أدخل- ودخلت / صهل أحدهم مخموراً حد الصفاقة أدخل يا رفيق / جاوبه الآخر. إروِ ظمأك يا رفيق / نضالك العظيم أيضا له ثمن / ولا ثمن. أنا أدري. لا ثمن في النضال. قلت / إنها استراحة المحارب / قالوا بصوتٍ جماعي…، …، وعلى مضض دخلت / ساعة ترويح وانتعاش للحواس / كان ذلك في الظلمة / والغرفة مظلمة، تعبق بالرطوبة / وعلى بصيصِ شمعةٍ بحجم الدبوس، رأيت أشباحاً تتمايل / ثمة أفخاذ مفتوحة بطريقة مزرية. أفخاذ رطبة، صقيلة / دخلت، في نفق موحش / جفلتُ، بعنف، وكانتْ قد شمّت رائحتي / ومثل أنثى الجاموس الوحشي تململت وأنا اهبط على كتفها… وراحت تصرخ بأعلى صوت، وصرختُ بأقصى حشرجات الفجيعة / كنا مثل كلبين متعانقين، عرايا في ليلٍ مخيف / الستر الستر يا أخي صرختْ حليمة… ومادت بنا الأرض ، وانخسفت، لم أدرك إني أدفن رأسي في حضن حليمة التي شرموا شفتها السفلى، ذات يوم، وقد غبت عن العالم… تراءت لي أخيلة بعد شهور إني كنت قد كتمت صوتها وضغطت بكفي على شفتيها: اسكتي، استري عرضي يا حليمة… حين لاذت بالخرس لبست ثيابي وتركتها تخلع شعرها، وتمزق صدرها، وتدمي وجهها لتزحف بعريها صوب الحائط… تقرع رأسها بالحائط مرات ومرات وأنا اختفيت… ودار في سري خاطر يقول: أنت لست على أرضٍ يحيا فيها الإنسان… كنتُ غاطساً في بحيرة مظلمة مترعة بمخالب الحلم…

* * *

كنتُ عدتُ عبر صحراء الخطر / تركتُ المنافي تتّسع، والرفاق في الداخل، يُصلبون على أعواد المشانق / كنت عائدا صوب حتفي، ورائحة أختي تعبق بأنفي / كأنني عائد بعد أن عهّرت ضميري بيدي / وعبر تلك الصحراء / في خرائبها / أطلالها / مقابرها / شعابها / همتُ هارباً من عهرٍ لزجٍ كثيف / هارباً من غبائي وسقوطي / أنا لا ادري كيف هويت..؟ مَن هو المسؤول عن كبوتي المفزعة..؟ خلعت كل ثيابي وحرقتها في عمق الصحراء وشرعت اعزم على الانتحار، وزحفت أتلوّى فوق كثبان الرمال / أمرغ جسدي بطهارة التيه العظيم حتى عثرتُ على بشرٍ، غسلتُ ما تعفر به جسدي من غبرة الرمال، وفاحت ريح الحناجر المجهولة تهتف بداخلي: لا توجد قطرةُ عارٍ فيك، وها أنا أعود إلى الوطن، وهي عادت تبحث عني، توقعت انتحاري وخلاصي / وأنا أيضا صرت ابحث عنها، لنتكاشف، ونموت في وضح الحقيقة التي ، – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – اعذريني، هل تسمعين..؟ لمحتها غضبت، حين جعلتها تفيق وأنا أقصّ عليها مشهد لقاءنا ما قبل الأخير – وكنت ساعتها مطارداً، إذ تسلّلت ليلاً في زورق صيد عبر الأرياف، لأنطلق في رحلة الخلاص، صوب العاصمة، ومن هناك ركبت القطار الذاهب صوب الشمال / كانت معي، متلفعة بشالٍ أسود، تطلعتُ إلى أصابعها البيض المشعّة / ولا اعرف ما الذي دفعني إلى هذا الموقف..؟ تجاهلت وجودها تماماً، والظلام قاسم بيننا / هل أن رغبتي في تجاهلها توقدت، وجمحت..؟ لا أنكر أن أصابعها كانت تتلّوى، وتموج، وتفحُّ لدنةً وهي تفترش كرسيين في مؤخرة قاطرة الدرجة الأولى / والقطار يخترق فراسخ الليل، مندفعاً صوب الشمال / قلقت، وهتفت أين يتجه..؟ – لمحتها تنهض إلى التواليت، نهضت وراءها، دون علمٍ من أحد. وقفت قرب الباب… طرقت وإزاء أول حركة لصرير المزلاج اقتحمت الباب فوراً، لأقفله ورائي، هلعت وارتعبت وكادت تصرخ قلت أكمم فاها: هنا يا حليمة في ذلك المكمن المكين، سنرسم، أنا وأنت طريقا للنجاة: يا أختي العزيزة إني مطارد ومطلوب للشرطة السريّة، ورفاقي أعدموا، تساقطوا بالعشرات وفي كل خطوة أخطوها يدهمني لغم من ألغام الخطر / كنت ألهث، وأنا اقذف كلماتي، أحسّت فجيعتي وكان سروالها تحت الركبتين، حين ظلّت على حالها، جامدة تماما ساعة اقتحامي عليها، باب التواليت… لقد أصابني خجلٌ مُدمّر وأنا أرى الفخذين يتململان ويرتجفان / قالت: استدعاني ضابط الشرطة السرية أكثم وطلب مني التعاون معه، وشرب الشاي معي في الشقة / قبّلت عينيها وجبهتها: أنت عظيمة يا حليمة، الآن سنتم صفقتنا الرائعة – أي صفقة يا أخي – قالت..؟ صفقة العمر الأبدي يا حليمة، سيري مع أكثم، وخليك معه على طول الخط – ،، أجل سيري بالمشوار إلى أقصى النهايات – حتى يحين وقت التخلص منه، وسنُرحّلكِ إلى منتجع في لبنان، بضمان كبير.
اتفقنا على عهد الخلاص، تصافحنا: إنها صفقة شرفنا الأخويّ المغدور يا حليمة. خرجتُ من التواليت سريعاً وسرتُ إلى النافذة، وقد تقوّس الفضاء الخارجي، على امتداد الأمل الأخضر المورق في روحي وشراييني… كانت القرى تتلاشى في الظلام المتماوج والريح توشوش على سطوح الزجاج / وأدرت وجهي، فلمحتها تعدّل من جلستها، كأنها لا تعرفني تماماً وكأن شيئاً لم يحدث أبدا، فأيّ قدر عظيم قد أتى بكِ يا حليمة..؟ حين اقتربت همست: هس.. هس، وعند أقرب محطة ترجلت وكان الظلام فاحماً… قدتها من يدها نحو مقبرةٍ في أطراف الشمال حيث سننتظر كلمة سر حاسمة ينطقها رفيق قادم إلينا… ثم اذهب معها إلى موعدٍ دبرته هي للّقاءِ بأكثم مسؤول أمن المهمات السرية في شقةٍ مؤثثة، هناك، فارقتها، وعلى غير علمٍ منها وضعتُ صندوق المتفجرات تحت السرير… كان ذلك آخر عهدي بحليمة، ودّعتها وأنا أمسح دموعي.

* * *

إني أحدس قدوم رفيق آخر اشتعل الضوء وانطفأ ثم اشتعل متقدماً بين صخور الجسر، والأدغال الكثيفة النامية التي تحيط به بمحاذاة الضفاف… لقد انتهت مدة الحضانة / وكانت المعتوهة تحرص على احتضان بيوضها. أنهضها الرفيق وعدّ بيوضها، كانت أربعة، حملها ووضعها في صندوق بنيّ مربّع وتدفق ضوء المصباح على مكان الحضانة / لمحنا هلاماً حديديّاً يتحرك / يوصوص / قال لنا: هذا صاروخ الحركة المجيدة. أربعة بيوض فاسدة والخامسة فيها صاروخ حي بكل أجهزته الالكترونية والكهربائية الدقيقة / قال سيكبر ونوجهّه صوب معاقل الطغاة… إني ذهلت. الأمر كله يربكني… أدرك ذلك الرفيق انخطافي فأعطاني حبة دواء شذرية اللون – قال ابلعها حتى تنام – أنت تعبت معنا أيها الرفيق. وضعت الحبة تحت لساني وغفوت / الصاروخ يكبر مثل نسر لحمي: ينمو له جناحان وزعانف هي عبارة عن خليط من الريش والفولاذ وبعض المعدن الثقيل والبلاستك. عينان تشتعلان بلون الكبريت. الرقبة عارية مثل وتدٍ حديديّ والمخالب مدببة / كان نموه انشطاري عبر كل ثانية تنشطر إلى مئات الثواني / والدقيقة الواحدة تنشطر إلى مئات الدقائق / والساعة الواحدة تنشطر إلى مئات الساعات / انه الآن يتحفّز، ويعلو ويزحف مثل ديناصور فتيّ يطلق زعيقاً أخرق في أوقات الفجر / وحين ارتقى السدة الترابية المتاخمة للجسر بدا امتداده الاسطواني ضخماً بشكل لا يصدق، وراح يشهق قبل أن يعلو / يشهق وعلى شهيقه المخيف أفقت… كان هناك فصيل ثوري متأهب من حركتنا السرية، راح يعمل على ربطه بأوتاد الجسر / تمت العملية – ولا ادري كم مضى على غفوتي بعد بلعي الحبة الشذرية / هل هي ساعة، يوم، أسبوع، شهر، عام . عشرة أعوام . عشرون عاماً..؟ لا أدري . أنا لا ادري، كل ما هنالك طفحت ذكرى أهل الكهف بازغة أمام وعيي، ولكنني كأي مخبول يرى صاروخاً موجهاً من فوق الجسر صوب المدينة النائمة – قالوا لي ابتعد: انتهت مهمتك من مدة طويلة، ولا صلة الآن لك بالحركة. ثم أخرج الرفيق المسؤول كتاباً سريّاً حيث ظل الرفاق يتأملون وجهي بحزن منقطع النظير: أنت مفصول من الحركة لاعتبارات تمس السلوك العام، وسمعة حركتنا الثورية فوق كل الشبهات… قادني هو مع الرفاق إلى الطريق العام، كان ذلك وقت الغبش، قال نحن لا ننسى دورك البطولي في تنفيذ مهمات فذة، ولا ننسى نسفك لأكثم – ذلك الخلاسي القذر – مسؤولك الحركي في أول خلية نسبت إليها – يوم قطع معنا نصف الرحلة وغاب أعواما ليطل على الدنيا عميلاً إرهابياً قام بتصفية خيرة رفاق قضيتنا الشرفاء وصرخت بأعلى صوتي: الخلاسي، الخلاسي ذلك المهذب، الموسوعي الكبير، الذي كان يتصدر موائد السهرات الليلية. لا. لا… وقام الرفيق بوضع كفه اليمنى على فمي: الآن، انصرف…
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
كنت أدرك، جازماً، أن العملية أعادت الاعتبار إلى حركتنا السريّة ومنحتها العافية، والديمومة، والثقة: وحين أعدت السلطات الفاشية العدة لكارثة الحرب والدمار شرع قادتنا يلهبون حماس الجماهير لعمل إضراب عام / أما إذا امتنعت الجماهير عن استجابتها للزحف التاريخي بوقف الكارثة سيسلط رجال حركتنا صاروخ الرحمة عليها… وفعلاً اشتعلت نيران الحرب وشبّت حرائق الكارثة / وفجروا الصاروخ الهائل يا قارئي العزيز ولكنه سقط / أين..؟ ها. ها. ها… كان سقوطه وانفجاره هائلاً في رأسي – فإذا كان ذلك الفعل المشين لا يُرضي قناعاتك الفنية والفكرية فهل تسمح لي بوضع جمرة الحرف الأولى على الورق الأبيض الصقيل ثم أحكي الحكاية مثلما جرت في معمل العقل والخيال – هل تسمح ..؟



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة من موقع الناقد العراقي
:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.

أعلى