هيفاء أحمد الجندي - التغيير الجذري من منظور أزمنة البنية الاجتماعية الكولونيالية كما حللها مهدي عامل

عرف مهدي عامل الثورة ، وكما ورد في كتابه "مقدمات نظرية" ، بأنها عملية اجتماعية معقدة، يستلزم تحقيقها معرفة آليتها المتميزة ، وهذه المعرفة ضرورية لنجاح الحركة الثورية ، فكم من ثورة فشلت لأن القائمين بها جهلوا تميز منطقها ، فلم يفرقوا بينه وبين منطق تطور البنية الاجتماعية داخل إطارها البنيوي.
ميز مهدي عامل واستنادا إلى التعريف الموجود أعلاه ، ثلاث أزمنة للبنية الاجتماعية الكولونيالية : زمن التكون و زمن التجدد التطور وزمن القطع الثوري والذي يتجلى على شكل قفزة بنيوية أو فاصل بنيوي بين مرحلتين تاريختين.
في زمن التكون يتم إقامة وترسيخ علاقات إنتاج جديدة، بحيث يستحيل فيه على البنية الاجتماعية أن تعود في تطورها إلى علاقات الإنتاج القديمة ، كالانتقال الذي جرى من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية ، والتي تكونت في إطار تفكك الإقطاع وضمن تعايش أكثر من نمط للإنتاج في وحدة بنيوية، وهنا لا بد من التمييز بين مفهوم نمط الإنتاج والبنية الاجتماعية إذ لا ينبغي النظر، إلى حركة انتقال البنية على أنه انتقال تصاعدي ارتقائي ، يتفكك الأول فيما يتكون الثاني فيرتسم التاريخ بهذا الانتقال في حركة خطية ،لأن التداخل قائم بين أنماط الإنتاج وبين أزمنة كل منها، بحيث يمنع هذه الأزمنة أن تكون ارتقائية خطية ، والتي بحركتها يتمرحل التاريخ والحركة التاريخية في حقيقتها المادية ، هي حركة التكوينات الاجتماعية لا حركة أنماط الإنتاج في الواقع الفعلي، فلا وجود لنمط الإنتاج إلا في علاقة تعايش مع أنماط أخرى، وهذا يؤكد ما ذهب إليه "بولنتزاس" والذي اعتبر بأن تداخل وتعدد المواقع الطبقية في مجتمع معين يجب أن ينظر إليها ،على إنها دالة ليس فقط على تعدد علاقات الإنتاج في إطار نمط إنتاجي معين، وإنما دالة على تعايش وتداخل أساليب وأنماط مختلفة في إطار التشكيلة الاجتماعية، وسبق وأشار ماركس في رأس المال ،بأن تحول أقنان الأرض في ظل علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى مزارعين شبه رأسماليين، من خلال المشاركة أو المحاصصة هو نمط انتقالي بين علاقات الإنتاج الإقطاعية والرأسمالية .
ويتسم الزمن التاريخي للتكوين الاجتماعي ، بأنه زمن معقد والعلاقة بين أنماط الإنتاج المتعايشة ، قائمة على أساس تفاوت التطور، بحيث تعود فيه السيطرة إلى نمط إنتاج مسيطر، في هذا التكوين الاجتماعي ، عدا عن أن تمرحل التاريخ يجد من حيث هو تاريخ التكوينات الاجتماعية، أساسه المادي في تمرحل قاعدته الاقتصادية ،التي تحدد كامل البناء الاجتماعي ومستوياته البنيوية ، وبناء على سبق يمكن القول بأن حركة إعادة الإنتاج الموسعة هي التي تحدد زمان التجدد فيه، في شكل يبدو أنه تناقضي أي في شكل تغير وبقاء في آن معا ، والتناقض يكمن في حركة تطور الإنتاج الرأسمالي، الذي يميل إلى التوسع الدائم اللامحدود والتغير الذي تحدثه هذه الحركة في علاقات الإنتاج ،هو تغير على أساس بقاء البنية من هذه العلاقات، أي علاقات الإنتاج الرأسمالية ، إذ تختلف علاقات الإنتاج الرأسمالية في مرحلة التنافس الحر عنها في مرحلة الاحتكار، ولكن تبقى العلاقات في طابعها الاساسي ، رأسمالية الطابع واستنادا إلى مقدمة كتاب "اسهام في نقد الاقتصاد السياسي" اعتبر ماركس بأن الرأسمالية تمر بمرحلتين ، هما طوران من زمان البنية ، طور الصعود و طور الأزمة والتناقض الاقتصادي هو الذي يحدد بنية زمان التجدد في طوريه الاثنين، في طور الصعود تكون علاقات الإنتاج حافزا لتطور القوى المنتجة، وفي طور الأزمة تكون عائقا امام تطورها ويمكن النظر لهذه للأزمة على أنها حادث عرضي يستعيد بعدها الإنتاج حركة تطوره ونموه.
لا ضير من القول، بأن ما يميز مرحلة زمن التجدد هو الانتقال المرحلي من مرحلة إلى مرحلة ، ضمن ثبات علاقات الانتاج القائمة ، وهذا الزمن يعتبر العصر الذهبي لسيطرة الطبقة المسيطرة ، وتتسم حركته بأنها دائرية تكرارية ، لإنها إعادة مستمرة لعلاقات الإنتاج القائمة وتتم بشكل آلي ويظهر في هذه المرحلة الصراع الطبقي( الصراع الطبقي كفكرة نظرية مجردة بمعزل عن التعيين العيني والواقعي للطبقات وتداخلها ) كحركة انتباذية ، أي لا يظهر على حقيقته كصراع سياسي، بل يظهر بمظهر الايديولوجي أو الاقتصادي و في ازاحة عن مستواه البنيوي ، وعدم التمييز بين الأزمنة التاريخية وممارسات الصراع الطبقي، أوقع عدد من الماركسيين واليساريين بفخ الأخطاء الفكرية الثورية كالإرادوية والتجريب واليساروية والاقتصادوية ، وهذه الأخيرة أنتجت على يد الأساتذة الماركسيين في الأممية الثانية مفهوما تطوريا حتميا للتاريخ ، الذي فهم على أنه محكوم بقوانين موضوعية تتخطى مجال التداخل الانساني والتفاعل بين الذاتي والموضوعي في العملية التاريخية ، وسبق لكل من غرامشي ولينين ولوكاتش أن انتقدوا الاقتصادوية مؤكدين على الدور السياسي للعملية التاريخية ، وعلى دور التنظيم في خلق إرادة طبقية، تمكنها من تخطي الاقتصادوية التي تحبس النظام ضمن القائم.
ومن جهته رأى مهدي بأن الاقتصادوية ، هي إيديولوجية الزمن البنيوي تزدهر فيه لا لكون التناقض الاقتصادي ،هو القوة المحركة للتاريخ بل لكون الصراع الطبقي، في إزاحة عن مستواه البنيوي السياسي في هذا الزمان التاريخي المحدد للبنية، فالقول بأن التناقض الاقتصادي هو المحدد هو قول صحيح، أما القول بأن هذا التناقض هو المسيطر في هذا التطور فهو قول خاطىء، يجهل مقولة ماركس بأن صراع الطبقات هو القوة المحركة للتاريخ ، والصراع الطبقي في إطار الزمان البنيوي، يظهر بمظهر الشكل الاقتصادي أو الإيديولوجي ، لأن السيطرة في هذا الزمن تكون للممارسة السياسية للطبقة المسيطرة ، والتي تهدف إلى منع الطبقات الخاضعة لسيطرتها من أن تمارس صراعها الطبقي ممارسة سياسية، لأن ممارسة هذه الأخيرة لصراعها تعني إجراء تغييرا جذريا وتحويلا ثوريا لعلاقات الإنتاج القائمة ، أي محاولة لانتزاع السلطة السياسية من الطبقة المسيطرة ، والتي تهدف إلى تثبيت علاقات الإنتاج القائمة والتي تحقق من خلال هذه العلاقات سيطرتها الطبقية الكلية والمطلقة.
علاوة على انه لا بد من التمييزأيضا بين علاقة التحدد وعلاقة السيطرة ،في إطار علاقة التحدد تظهر التناقضات البنيوية في البنية الاجتماعية ،على مستويات متميزة فيكون التناقض الايديولوجي أو السياسي والاقتصادي مستقلا عن بقية التناقضات ، أي متميزا عنها .في إطار علاقة التحدد يظهر التناقض الاقتصادي كتناقض أساسي محدد في النهاية لبقية التناقضات ،لأن تحديد الوضع النظري للتناقض الاقتصادي، يتم في إطار علاقة التحدد وهنا تكمن الأهمية النظرية في التمييز بين هذه العلاقة وعلاقة السيطرة، لأن تحديد الوضع النظري للتناقض السياسي ،مستحيل في إطار علاقة التحدد ويمكن فقط في إطار علاقة السيطرة ، وعدم التمييز بين هاتين العلاقتين ، يعود إلى استحالة فهم الصراع الطبقي كالقوة المحركة للتاريخ ، كما أن حصر علاقة التحدد في علاقة السيطرة بين التناقضات ، يؤدي إلى حجب التناقض الاقتصادي في تحديد تطور البنية الاجتماعية ، ويؤدي إلى الارادوية الناتجة عن تضخم العامل السياسي والى التأويل الإرادوي قبل أن تكون التناقضات الاجتماعية قد بلغت بالفعل في حركتها المحددة درجة نضجها الثوري، أي نقطة انصهارها و بتعبير أخر الإرادوية هي افتعال الثورة عند أي أزمة يمر بها تطور البنية الاجتماعية ، دون تحديد علمي لطبيعة هذه الأزمة التي ترى في كل أزمة أزمة عامة ، لأنها تنظر إلى الأزمة بشكل مجرد عن الصراع الطبقي ، وتنقل الضرورة في منطق الثورة ومنطق حركة الصراع الطبقي، إلى ذاتية الصراع الطبقي في عملية التحويل الثوري وبهذا تتحول العملية الثورية المعقدة ، الى لحظة زمنية خاطفة تضعها في علاقة خارجية مع صراع طبقي معقد، فيستحيل عندها حدثا . ولهذا انتقد مهدي عامل "شعار السلطة العمالية" والذي اعتبره شعار متطرف ، لأن رافعيه لم يميزوا مابين المستوى الاقتصادي والسياسي للصراع الطبقي ، وعزا ذلك للوهم الذي تنتجه الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة ، إذ يستحيل انتزاع السلطة الاقتصادية دون انتزاع السلطة السياسية ، وكل حل اقتصادي ضمن سيطرة الطبقة المسيطرة، يبقى حلا بورجوازيا شكليا يهدف إلى ثبات علاقات الانتاج، كما أن الأزمتين السياسية والايديولوجية للطبقة المسيطرة، ليستا كافيتين لانتقال حركة الصراع الطبقي من الشكل الانتباذي إلى الشكل الانجذابي ، ولكي تكون السيطرة للطبقة الثورية في الصراع الطبقي ، ينبغي عليها التفكير بالتسييس وحركته ليست بسيطة بل معقدة كما يتوهم المغامرون بالثورات، فوصول الممارسة إلى قطبها السياسي يستلزم المرور بالقطب النظري ، معنى هذا أن الصراع السياسي للطبقة الثورية يستلزم وجود نظرية ثورية ، قادرة على فضح المنطق التضليلي للممارسة الايديولوجية للطبقة المسيطرة وعملية انتاج المعرفة ، تكون بنقد هذه الايديولوجية التي تقوم على طمس الصراع الطبقي ، وهنا يكمن الاختلاف بين الممارستين فالممارسة الايديولوجية للطبقة الثورية تمر بعملية تنظير ، أي بممارسة نظرية هي انتاج للمعرفة العلمية بالصراع وهذه المعرفة ضرورية لتحديد ممارسته كممارسة ثورية ، والفارق كبير بين التسييس الثوري والخاطىء الذي لا يميز بين القطب النظري والسياسي، الأمر الذي يؤدي الى التجريب والمغامرة واليساروية والثورة تنضج فعلا حين تتأزم جميع التناقضات ، إلى درجة كافية بحيث تعبىء قوى اجتماعية قادرة على حسم الموقف بصورة جذرية، أي حين تصب كل التناقضات في تناقض واحد وهو نقطة انصهار واحد لكل التناقضات ، ونقطة الانصهار تتحدد كنقطة القطع الثوري وعندها يظهر الصراع الطبقي على حقيقته كصراع سياسي، وهذا ما يفسر القول بأن كل ثورة اجتماعية بالضرورة هي ثورة سياسية ، وحين يتحرك الصراع الطبقي كصراع سياسي في لحظة تاريخية حاسمة ، تتسييس فيها مختلف التناقضات الاجتماعية وتقفز الجماهير قفزتها التاريخية ، فتثبت في ممارستها السياسية أنها القوة التي تصنع التاريخ وتقوم بهدم علاقات الانتاج القائمة ،على عكس التغيير الذي تجريه الطبقة المسيطرة وهو لا يعدو كونه تغييرا شكليا يأخذ شكل اصلاحات فوقية تهدف إلى تثبيت علاقات الانتاج، والى ثبات التوافق بين البناءين الفوقي والتحتي .على عكس الطبقة الثورية النقيض التي تهدف إلى كسر حالة التوافق ، وهذا لا يتم بشكل آلي بفعل تطور القوى المنتجة، بل من خلال عملية معقدة للصراع الطبقي الأمر الذي يؤدي إلى تفجير التناقض ، وإلى تحرير القوى المنتجة . وتفجير التناقض ليس رهنا بإرادة طبقية ، بل له شروطه الموضوعية في التطور العام للصراع الطبقي في الشكل الذي يتحدد به هذا الصراع بتطور التناقض الاقتصادي والذي هو الاطار البنيوي لتطوره . علاوة على أن الطبقة المسيطرة قادرة تتجاوز أزمتها الايديولوجية ، حين لا تتوفر الشروط الضرورية لتفجير هذه الأزمة في أزمة سياسية ، ولا يلعب الصراع الطبقي دوره الرئيسي المسيطر إلا في هذه اللحظات الثورية ، أي في اللحظة التي تنتقل البنية فيها إلى نظام جديد من خلال ثورة سياسية تعطل حركة التوافق، وعندها تصبح علاقات الانتاج عائقا أمام تطور القوى المنتجة وهنا تكون البنية قد دخلت مرحلة ثورية من التطور.
لا بد من الاشارة إلى النقد الذي وجهه مهدي لبولنتزاس ،على الرغم من تأثره باطروحاته لأنه خلط بين التناقض الأساسي الاقتصادي "علاقة القوى المنتجة بعلاقات الانتاج" والحقل الاقتصادي للصراع الطبقي ، وليس مستغربا أن تخوض الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية صراعات اقتصادية ، وليس مستغربا أيضا أن يتم لجم تطور القوى المنتجة في البلدان العربية بفعل العلاقة الكولونيالية.
غني عن البيان القول بأن ما يميز مرحلتنا الراهنة ، هي أننا نعيش في مرحلة زمن التجدد حيث يتم اعادة انتاج دائمة لعلاقات الانتاج القائمة أي الانتقال من مرحلة الى مرحلة والتي أطلق عليها مهدي مسمى " الاستبدال الطبقي" حيث يتم استبدال هيمنة طبقية بهيمنة أخرى مماثلة، مع ثبات التناقض الاساسي داخل الاطار البنيوي، والتغيير المرحلي مؤشر على عجز الطبقة الثورية التي لم تتكون بعد على انتزاع السلطة السياسية ، وما يميز هذه المرحلة هو تكرار زمنها ودائريته ويمكن القول بانه حاليا وفي هذه المرحلة يوجد استحالة تاريخية وبنيوية لانتصار الانتفاضات الشعبية.




أعلى