أمل الكردفاني - الشقة الثانية.. قصة

متمدداً على سرير نوم كبير، كان يرقد وبيده اليمنى هاتفه، وعلى عينيه سحابة نعاس:
- لقد كبرتَ في السن يا صديقي...نعم أدركت ذلك وأخشى أن تكرارك لنفس الملاحظات والقصص وسردك لنفس الوقائع يؤكد أنك فقدت حاضرك..
(يبتسم ابتسامة خفيفة؛ ثم تتسع عيناه) لا..مستحيل..لا لا لا..أنا لا أكرر نفس القصص ولا نفس الملاحظات مثلك..ماذا؟.. حقا؟!..هل قلت لك بأنك كبرت في السن من قبل؟! البارحة وقبل البارحة؟!.. نفس الأسلوب..ونفس الكلام؟..(يزم شفتيه ويطير النعاس من عينيه اللتين تنقلبان لأعلى بحيرة)..يسمع صوت طرقات على الباب:
- من؟!. لا لست معك..أحدهم يطرق الباب..رغم أنه لا أحد غيرك يعلم بهذه الشقة.. حسنٌ..إلى اللقاء..
نهض بتثاقل وأشعل سجارة دون أن يغادر جلسته على طرف السرير، ثم رفع رأسه حين اشتد صوت طرقات الباب فارتسم الغضب على ملامح وجهه.
من السرير وحتى الباب مرت بذاكرته قصص كثيرة وشخصيات عدة..كان الفشل يلاحقه ككلب مصاب بالسعار، ماداً لسانا ملتمعاً بلعاب الهزيمة، الصور تقفز في عقله، صورة رجال هزموه باستمرار، ثم انقلب كل ذلك بغتة وهو في بداية الأربعين، وتزوج "حسنية" لتنجز طفلها الوحيد قبل أن تغادر عهد الخصوبة بسنتين فقط. رجال هزموه ومع ذلك لم يحاول الانتقام منهم، لقد مات بعضهم وأصيب بعضهم بالأمراض الصعبة، واشتدت قوة البعض بحيث لا يمكنه هزيمتهم، وانهار بعضهم فجأة. صعقت شعلة السجارة أصابعه وامتد الألم إلى دماغه لوهلة فألقى السجارة من يده بفزع ثم دهسها بكعب نعله الإسفنجي، قبل أن يمد يده ويدير أكرة الباب ليجدها أمامه مباشرة:
- حسنية؟!
- منذ متى؟
قالتها بوجه لبوءة تخوض معركة..وحين صمت دخلت إلى الداخل كفأر مذعور مقتحمة الغرفة الوحيدة والحمام ثم المطبخ؛ وبعينين دامعتين وشفتين مرتجفتين قالت:
- أين هي؟
- من؟
- فتحي..أين هي؟ لا أتحمل أي كذبة جديدة
أخيراً شعر بنيكوتين السجارة يغزو شرايينه، فدار على عقبيه ببطء ودخل إلى الغرفة مستلقياً على السرير الوثير، لتعود إليه نظرته الناعسة التي أتبعها بتثاؤب ثم انقلب على جنبه الأيمن في حين وقفت حسنية وهي تصيح بكلمات لم يسمع منها شيئاً..
- هل انت مسطول؟ هل جعلتك تتعاطى المخدرات يا فتحي .. تحدث إليَّ يا فتحي.. تخدعني طوال كل تلك السنوات..ولولا ابنة أختي التي شاهدتك تفتح باب هذه الشقة بالمفتاح لما علمت بأنك تخونني مع أخرى..لماذا يا فتحي؟ هل قصرت معك؟ لقد ضحيت بشبابي من أجلك (رفت على شفتيه ضحكة مكتومة)..تنازلت عن كل حياتي من أجلك وطفلي الوحيد..فتحي..هل طلقتها أم لا زالت في عصمتك؟ تحدث معي يا فتحي..إن..
قاطعها بغضب:
- أسكتي..كفى..لقد أصبتني بالصداع.. دعيني أنام..
ارتفع صوتها بكلمات أخرى تنطلق كمدفع رشاش:
- تلغتبباتمك...تالىببلت ابيلت ججطك ءبثششمظ..ةىافبب..ووىلغفخحز...ىلبىبب ءسسهه حنزعلبس..
فصرخ:
- اللعنة اللعنة ..توقفي توقفي...
صمتت وأنفاسها تعلوا ووجهها شاحب، عاد ليتمدد على ظهره ثم أشعل سجارة أخرى وقال وهو يربت على الجانب الخالي من المرتب:
- تعالي وتمددي إلى جانبي لأحدثك دون أن أحتاج لرفع صوتي..(ظلت ساكنة) قلت لك تعالي..
ببطء -وهي تمسح عينيها- جلست على طرف السرير، لكنه أصر:
- قلت لك تمددي..
مدَّدت جسدها وبدت كدلفين في حوض سباحة.
- حسنٌ..أنا لم أتزوج عليك..ولم يكن لدي عشيقات، لا قبلك ولا بعدك..الحقيقة أنني تزوجتك وأنا كبير في السن.. هل تعرفين معنى ذلك؟ لقد كنتُ أخشى من العلاقات الطويلة، حتى أصدقائي لم أفضل أن تستمر علاقتي بهم لفترات طويلة.. عندما تزوجتك شعرت بأنني ورطت نفسي وبأنني لن أكمل المشوار معك..لكنك لست كالأصدقاء ففي كل الأحوال انتِ زوجتي وسيكون التخلي عن العلاقة مسألة شائكة ومعقدة لذلك اشتريت هذه الشقة الصغيرة وجهزتها للهروب منك في اللحظة الحاسمة...غير أن الأمور اختلفت يا حسنية.. انجبنا طفلاً وأحببتك وبات مجرد التفكير في الفكاك من زواجنا مؤذياً لي نفسياً.. وها هي عشر سنوات قد مضت ولأول مرة تستمر علاقتي بأحد لهذه المدة الطويلة.. أزور هذه الشقة كل بضعة أسابيع لأنظفها فقط ولتبقى ذكرى صمودي الوحيد واليتيم في علاقة ما.. لقد أكد لي ذلك بأن المشكلة لم تكن مني بل ممن تعاملت معهم..أما أنتِ فاستطعتِ السيطرة على انطوائيتي..أصبحتِ ملاذي الآمن نفسه ولستِ مجرد شريكة في ذلك الملاذ..
تهدج صدر حسنية ثم بكت وهي تحتضنه:
- وأنتَ كذلك كنتَ ملاذي الآمن دائماً..
- هيا بنا.. سنعود إلى شقتنا الأولى..
- حسنٌ..
- انزلي وسالحق بك..
برشاقة سعيدة قفزت الدلفين من السرير ومؤخرتها ترقص يميناً ويساراً وفمها مشرق بالإبتسام.
أخرج هاتفه وقال:
- لقد ضبطتني حسنية في الشقة يا عزيزي..نعم ظنت أنها لعشيقة أو زوجة أخرى..هل قصصت عليك هذه القصة من قبل؟.. بالتأكيد لا.. فقدت حدثت للتو.. نعم حدثت للتو ولكنني لن أحكها لك غداً..متأكد من ذلك.. يجب أن نتراهن.. ماذا..لا بالتأكيد لن انسَ الرهان..ذلك الرهان السابق..لقد اختلقته أيها الكذاب مستغلاً ضعف ذاكرتي..أقسم بأنك اختلقته فأنا لم أحدثك عن قصتي مع المدير الفاسد من قبل..لا.. إنه ليس صهر الوزير بل ابنته زوجة ابن شقيقته..لا لا.. لقد كان متزوجاً من امرأة اخرى..آه بالمناسبة..دعني أحكي لك ما حدث اليوم... لقد ضبطتني زوجتي في الشقة الثانية..
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى