عبير عزاوي - مسافة أمان

ارتطمت مقدمة سيارتي بالمصباح الخلفي للسيارة التي تتقدمها. توقف الرتل الطويل كله
همستُ بغيظ :
-" اللعنة!
هل من الضروري أن تتحرك كل سيارات أفراد العائلة لمجرد الذهاب إلى حفلة عرس
كان يمكن أن نذهب بسيارتين فقط ."
ارتجت السيارة وارتج معها جسدي وارتدّ رأسي إلى الوراء بعنف ، قلت بحنق:
-" كادت رقبتي أن تنكسر ، اللعنة على السيارة"
لم يتوجب علينا أن نذهب إلى كل احتفالات وأعراس العائلة والأصدقاء و إلى كل المناسبات السخيفة تلك ؟!
هسّ صوتٌ في رأسي :
-"تافهون، .ترهات اجتماعية بالية "
هززت رأسي موافقة، فتابع الصوت هسيسه:
- كم تكرهين الموز؟!
أجابه صوت آخر :
-" يالك من غبية ما دخل الموز الآن ؟!
-" طعم الموز مقرف ،كأنك تقضمين فرو أرنب أو سنجاب.
الحيوانات ذات الفراء،.أكرهها أيضاً ،وحتى الألعاب والدمى منها ..كريهة ....ييييعع "
نفضت رأسي بقرف وأخرجت لساني حينما تذكرت كيف كانت أمي تغرقني بها في كل عيد أو مناسبة أو رحلة تسوق،
تلك المرأة مهووسة بالألعاب و الحيونات الأليفة.
لا أنسى كيف كانت تدسّ قطع الموز في فمي وتحرّك فكي السفلي لأسرع بمضغها ."
وجهي الذي قفز في المرآة المنتصبة امامي والتي هبطت بسرعة بفعل الصدمة طالعني غاضباً.
نظرت إلى خطوط التجاعيد الدقيقة التي رسمت جبيني وحددت أطراف جفنيّ.
- ياللقرف!
همس الصوت الأول
خط الكحل الأسود مدّ لسانه لي والألوان الخفيفة حوله ضحكت ساخرة... قال الصوت نفسه:
- مجنونة.
تابع الصوت الثاني :
أتعلمين أن زملاءك في العمل يتوجسون منك عندما تلقين إليهم بالتعليمات الصارمة ؟!
أتعلمين ماذا يقولون؟!
ارتفع رأسي نافياً ، ساعده حاجباي بقفزة للأعلى .
تابع :
- "مزاجية، خرقاء، عانس، بدينة"
- لاااااا هذه الأخيرة كاذبون فيها
قوامي جميل ولا مثيل له ، أقارب الأربعين ولازلت محتفظة بجمالي ورشاقتي.
ردّ الصوت بكلمات و جمل تتوالى بسرعة وتوتر، برافقه الصوت الآخر ، تتداخل الكلمات ويتضخم الصدى فأنفض رأسي صارخة:
- سكووووووت
يصمت كل شيء
أردد بإصرار:
-" لن تمرّ مناقصة واحدة دون ان أدققها بنفسي
- سارقون فاسدون"
يعود الصوت الأول للهمس:
-" كيف عيّنوك رئيسة للقسم .. "
أتعلمين مايتهامسون به عنك ؟
هززت رأسي نافية .
تابع الصوت
- " متشددة .. عصابية .. خرقاء
غبية ....عانس حقود ....."
اهمس وأنا أصرف بأسناني:
-" لابد أنها وسمى، تلك ال.........."
تشرئب عينا وسمى؛ واسعتين سوداوين بخطي كحل دقيق الرسم وبأهداب طويلة، ترمش بغنج.
وسمى جميلة الموظفات، فراشة القسم كما يحلو للجميع مناداتها وتدليلها للتقرب منها ،
أنا أحفظ حركاتها جيداً،
و أستطيع ان أكشف أفعالها من حركاتها ؛ عندما يتحرك حفناها بسرعة فلابد أن أحدهم غمزها أو أشار لها إشارة ذات معنى،
عندما تغمض عينيها نصف إغماضة وكأنها تتأهب لتأخذ قراراً فذلك يعني أنها تلقت هدية او دعوة على الغداء ،وحين تميل بجذعها نحو الأمام يكون المتعامل قد دسّ لها مبلغاً محترماً بين صفحات الطلب . وعندما تعقد ذراعيها أمام صدرها فهذا يعني أنها تعتزم القيام بوشاية ما.
-" سأنتقم منها شرّ انتقام ربما أنقلها إلى الديوان !
قال الصوت:
لا لا هذه فكرة ساذجة؛ المدير سيجعلها سكرتيرته الخاصة"
عدلت عن رأيي ودمدمت:
-" لن أمنحها هذه الفرصة ."
قطع حبل أفكاري
صوت طفلة تبدو في السابعة من عمرها يهمس:
-انتبهي ماما
شهقت ُ وأنا ألتفت للمقعد الخلفي قائلة:
- ماما ؟!
هزّت راسها ونظرت إلي .
كاتت ترتدي ثوباً عاجي اللون وخصلات شعرها الأشقر تتبعثر على كتفيها
همست بلا وعي :
-" لاتخافي حبيبتي
انا منتبهة خطأ صغير فقط .
همست لنفسي وأنا أدير رأسي وأحنيها للأسفل :
-" خطأ صغير أيتها الكاذبة، لقد حطمتِ مصباح السيارة"
ثم قلت بصوت مرتفع :
-" سأصلحها لابأس"
قالت الطفلة.
-" تصلحين ماذا ؟ "
التفت لأجيبها لكن المقعد الخلفي كان فارغاً .
الثوب العاجي اللون تلاشى ومعه الطفلة والشعر الأشقر ...
همس الصوت :
- ألست تكرهين اللون العاجي؟!
-" بلى "
-" لم تلبسينه لابنتك؟!"
-" أية ابنة؟! يا للسخف ... لقد اختفت..إنها محض وهم!
" قلت له لاأريد إنجاب فتاة !أريده صبياً اولاً
لو بقي معي لكان عندنا الآن أولاد وبنات.
-" كانت أمك هي...."
-"لاتثرثر ... أمي ليست سبباً رغم أنها تجبرني على حضور الأعراس كلها كما كانت تجبرني وأنا صغيرة على مضغ قطع الموز
هو كان جباناً حين تركني في ليلة العرس."
همس الصوت:
-" أنت كنت جبانة ولم تخبريه بحبك؛
كان يظن أمك قد أجبرتك على الزواج!"
عينا وسمى ترمشان حين تذكر اسم مدير القسم هل كانت تعلم أنه حبيبك القديم نفسه ! "
همست للصوت الغبي:
-" لكن تلك المناقصة تبدو مختلفة
ماالذي فعلته وسمى ؟!
نظراتها المتشفية تبدو وقحة، وهي تسلمني أمراً إدارياً بإحالتي إلى التحقيق . غداً سأمثل امام لجنة الرقابة ..
وأنا متورطة الآن بهذا العرس السخيف."
السيارة لا تستجيب لي و مازالت ملتصقة بمصباح السيارة التي أمامي.
من النافذة يطلّ وجه أمي المكفهر وهذا ماكنت أخشاه ؛ صوتها وهي تهتف صارخة:
-" لقد حطمت مصباح سيارتي
أيتها الغبية الم أقل لك لاتشردي اثناء القيادة!
متى تتعلمين أن تحافظي على مسافة أمان كافية؟!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى