د. زياد العوف - يحيى حقّي وعطر الأحباب

الأديب العربيّ المصريّ الكبير يحيى حقّي(١٩٠٥-١٩٩٢م) كاتب بليغ ، وقاصّ رائد قدير، وناقد حصيف، وصحفيّ متمرّس، وديبلوماسيّ أريب .وُلِد في القاهرة لأب ذي أصول تركية، وبها نشأ وتعلّم ، فدرس القانون ، وعمل لفترة وجيزة في سلك القضاء والمحاماة، بيد أنّه لم يُحرز نجاحاً يُذكَر، ثمّ ساقته الأقدار إلى السلك الديبلوماسي ، فتدرّج في العمل فيه من ( أمينٍ للمحفوظات) في قنصليّة مصر في مدينة جدّة ، سنة( ١٩٢٩م) ، مروراً بكلّ من استانبول وباريس وأنقرة،إلى أنْ انتهى به المطاف ( وزيراً مفوّضاً) في السفارة المصرية في ليبيا، سنة( ١٩٥٤م) حيث غادرها ليدير( مصلحة الفنون) المستحدثة آنذاك، ثمّ مالبث أن استقرّ به الحال رئيساً لتحرير مجلّة( المجلّة) الثقافية بين عامَي( ١٩٦٢- ١٩٧٠م) ، حيث استقطبتْ حينها أبرز وأهمّ الأسماء الأدبية والفكرية والثقافية في مصر والعالم العربيّ ، لينكفئ بعدها أديبنا الكبير ، فيعتزل النشاط العام ، مؤثِراً الركون إلى حياته الخاصة.
لقد أثرى يحيى حقّي المكتبة العربية بعدد كبير من المؤلفات القيّمة في مجالات الرواية والقصة والنقد والترجمة ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ، روايات: ( قنديل أم هاشم ) و( البوسطجي)و( دمعة فابتسامة) و(فكرة فابتسامة) و( دماء وطين)، والمجموعة القصصية( دنيا) ، وكتاب( عطر الأحباب) في النقد الأدبي.هذا..وقد قدّمت السينما المصرية للجمهور العريض عدداً من روايات يحيى حقّي ، حيث لاقت نجاحاً كبيراً في أوساط كلّ من الجمهور والنقّاد على السواء ،بل إنّ " فيلمَي" قنديل أم هاشم ، و البوسطجي ، اللذين جسّد دور الشخصية الرئيسية فيهما فنّان مصر القدير الراحل( شكري سرحان) قد تمّ تصنيفهما ضمن أفضل الأعمال السينيمائية المصرية في القرن العشرين.
نال أديبنا الراحل عدداً من الجوائز والأوسمة الرفيعة تقديراً لجهوده المبذولة في ميدان الأدب والثقافة، نذكر منها:
- جائزة الدولة التقديرية في الآداب
( مصر) ،عام ( ١٩٦٩م).
- وسام الفارس( فرنسا)، عام ١٩٨٣.
- جائزة الملك فيصل العالميّة للأدب العربي ، عام(١٩٩٠م).
لقد وقع اختياري على الكتاب النقديّ( عطر الأحباب) ليحيى حقّي
لما احتواه من ملامح فكريّة وفنّية وإنسانيّة تمثّل خير تمثيل هذا الكاتب المبدِع.
قسّم المؤلِّف كتابه هذا إلى ثلاثة أقسام ، هي:
١- نحو منهج نقديّ.
٢- تطبيقات في فنّ الرواية.
٣- عطر الأحباب.
جاء في( الإهداء) الذي تصدّر الكتاب:
"أهل بيتي هذا لم يسكنوه إلاّ لأنّني أحببتهم واحداً واحداً. جذبني الإنسان فيهم قبل الفنّان. لم أتحدّث عنهم حديث ناقد بل حديث صديق.
يسعدني أنّهم اجتمعوا تحت سقف بيتي، وأنّني فيما أرجو وفيت لبعضهم بحقّ كان منسيّاً.
إنّني أتمسّح بأردانهم لأشمّ عطر الأحباب".
بهذه الروح الشّفّافة النقيّة يتحدّث يحيى حقّي عن صديقه الكاتب والناقد والقاصّ الكبير ( ابراهيم عبد القادر المازنيّ) .
أدعوكم لقراءة هذه السطور المعبّرة والبليغة للتمعّن فيما انطوتْ عليه من دلالات إنسانية عميقة:
" كنتُ في مطلع شبابي إذا صادفت المازنيّ عَرَضاً في الطريق عرفتُهُ وتلبّثتْ عيناي على شخصه، تقفز منهما نظرةٌ تصافحهُ سرّاً- فقد كنّا حينئذٍ لم نتعارف- بمحبّةٍ وإعزاز وإعجاب، فقد دخل حياتنا بفرقعةٍ حين أصدر مع شكري- رحمه الله- والعقّاد- أمدّ الله في عمُره- كتاب" الديوان" فبصّرنا لأول مرّة بأصول النقد ومعنى الفنّ وأسرار البلاغة، والفرق الكبير بين الزّائف والجوهر الكريم، ولم ننتبهْ في دهشتنا إلى ما شاب أسلوبه من تلذّذ بالإيلام، وشيّهِ للمنفلوطيّ على الجنبين بلا رحمة أو شفقَة، لذّة شهيّة تنفّس عن نزعة القسوة والاستعلاء في قلوبنا - نحن الشبابَ- وقد ندِم المازنيّ فيما بعد على ما سلف من سخريته اللاذعة، وعاش في صلح مع الحياة والناس..... ......... . ..... . . .
ثمَّ شاء لي حُسنُ حظّي أنْ أجتمعَ به وأعرفَهُ عن قُرب. كنتُ في سنة( ١٩٢٩) وسنة( ١٩٣٠) أعمل أميناً للمحفوظات بقنصليّتنا في جدّة، وجاءنا المازنيّ مع وفد من الصحفيين لزيارة الحجاز ، فأسرني منه حياءٌ شديدٌ ورقّةٌ جذّابةٌ، وذهبتُ أزوره ، فوجدتُه في حُجرة نومه مكوَّراً في مقعدٍ لابساً جلاّبيّة، النوافذ مغلَقَة دفعاً لحرّ الشمس، ولا أحسبه كان يضيق بوحدته أو خلوتِه، بل كان مطمئنّاً لها، والاطمئنان للوحدة والخلوة من طبع النفوس الراضية المستقرّة، وبدأ من فوره يمازحني، قال:
- يا أخي وقعتُ في مشكلة! هذا المنزل أمامنا أدهشني، حين فتحتُ النافذة، رأيتُه مائلاً يوشك أنْ يقعَ، فلمّا نزلتُ للطريق رفعتُ إليه بصري فوجدتُه معتدلاً أحسن اعتدال.......
....... ........... ........
كِدتُ أراه يُطلعُ لي لسانهُ هزءاً بي ، وبقيتُ في حيرتي بغير شفاء، حتّى لاحتْ منّي في الطريق نظرة عابرة إلى المنزل الذي أسكنه فإذا هو المائل على جنبه.
فلمّا ضحكنا واتّصل الحديث بيننا، قام من مقعده ليرتدي ملابسه، فهالني منه منظرٌ كاد ينفطر له قلبي، وشعرتُ نحوه بحنوٍّ شديد ، وتملّكني إحساس عجيب، كأنّني أشهد سلحفاةً خرجتْ من حصنها ، فإذا أمامي مخلوق رقيق يفتك به أضعف عدوٍّ، إذ وجدتُ المازنيّ - رحمه الله- يمشي مِشيةً منخلعةً، يكاد شقّه كلّه يهوي عن يميني إلى الأرض
فوق ساق أقصر من أختها بكثير.. ...
.......... ......... ..........
ولكنّني لا أدري لماذا أحسستُ أنّ هذه المشية رغم تجرّعها مرارة الضعف تنطق بالحزم، كأنّما تشقّ الصخر لا الهواء بضرَبات متتالية.
أكانتْ سخريتهُ بالمنزل المائل تشبيهاً خفيّاً لعلّته؟ أكانَ حبّهُ للمعابثة تنفيساً لكبت قديم حين أقعدتْهُ علّته عن المشاركة في عبث قرنائه بالجري واللعب؟
ورأيتُ المازنيّ يقوم فيضع في قدمه فردة حذاء لها كعب مرتفع يعالج الفرق بينها وبين أختها، ليس في نظراته إليّ أقلّ دلالة على الحرج، كأنّها تقول لي ببساطة وبراءة:
- ها أنتَ ذا قد رأيتَ، الآن أصبحتَ صديقي.
ولو كنتُ مكانه لقلتُ لهذا الذي اقتحم عليَّ خلوتي وسرّي:
- ها أنت ذا قد رأيتَ، فغُر من وجهي! " *
*- يحيى حقّي، عطر الأحباب، شركة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،٢٠٠٨م، ص ص.٢٢٠- ٢٢٢.

دكتور زياد العوف




أعلى