وائل عبد الفتاح - النص... والسلطة!

"هذه ندوة الاعترافات..".همست لمحمد شعير ونحن نلتقط انفاسنا اخيرا. سافرنا في الثانية عشر من القاهرة ووصلنا الى الاسكندرية قبل موعد ندوة نصر أبو زيد بعشر دقائق (الثلاثاء الساعة الثالثة ظهراً). اسميناها بهذا الاسم على الرغم من انها احدى جلسات مؤتمر الجمعية الفلسفية (موضوعه: النقد في الفلسفة والفكر الاجتماعي). لكنها المرة الأولى التي يشارك فيها نصر أبو زيد في نشاط علمى بعد معركته الشهيرة مع قناصة التكفير. بمعنى انه هنا بدعوة من جمعية مصرية ولانه استاذ جامعي. وهذه وحدها حدث كبير يقطع 8 سنوات من الحياة في المنفى الثقافي: هولندا. (نصر يتمنى مقابلة نجيب محفوظ قبل عودته. وهناك مشروع أيضاً لظهوره في صالون جمال الغيطانى على قناة دريم).نصر افتتح كلامه بهذا الاعتراف: "..اليوم فقط اشعر برد اعتباري.. انتظرت طويلاً لكي أتلقى دعوة من جامعتي. جامعة القاهرة... لكي أرجع.. انتظرت ان يسألوني عن الرسائل التي أشرف عليها.. أو ان يشعروني بان هناك من يدافع عن حق البحث العلمي وحريته.. لم يتحرك أحد من المسؤولين.. وربما لم يهتموا.. شعرت بالحزن الكبير حتى قلت لنفسي: الجامعة ليست وطني.. وطني هو مصر وسأعود... هكذا أتيت في زيارة عادية بناء على نصيحة الدكتور حسن حنفي... وها هي الزيارة الثانية بدعوة من الجمعية الفلسفية وحسن حنفي... دعوة انتظرتها طويلاً.. ولا أعتقد ان هناك تكريماً أكبر من قراءة كتبي... وما أسعد من يناله هذا التكريم بهذا الصيغة..".الشحنة العاطفية بدت متساوية هنا مع دقة توصيف الحالة: باحث جامعي يطارد في بلده بسبب أفكاره. نتاج بحثه خارج الأسوار المستقرة للمعرفة. ربما تكون بدات من مخازن الايديولوجيا لكنها مع التفاعل تحررت وبحثت عن فضاء اوسع. انتظر نصر ان تتحرك الجامعة. هى بالنسبة له ملعبا من ملاعب انتصاره في الحياة والحرية. فهو دخلها في سن الخامسة والعشرين عندما بدأ الدراسة بها في 1968. تفوق وتخرج بامتياز ومرتبة الشرف وكاد يضيع حقه في التعيين بالسلك الجامعى (بسبب أحلام رشاد رشدي في بسط هيمنة قسم الانجليزى على الجامعة) لكنه قابل رئيس الجامعة وظل يلح في الدفاع عن حقه حتى ناله هو وزملاء دفعته.. ثم عندما اختار فرع الدراسات الاسلامية ليكون محور دراساته العليا اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعاظ).. وخرج نصر من المعارك باحثاً متميزاً.. يؤمن بحرية البحث العلمي.. وعلى الرغم من انه لم يخرج عن حدود الايمان.. الى درجة انه وصف أحياناً بأنه أصولي.. و"شيخ".. الا ان تصديقه فكرة الجامعة وانحيازه الى قيمة التفكير.. جعلاه يتجاوز الخطوط الحمراء في عصر لا تهتم الجامعة الا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين لشهادات علمية.الكلمات الختامية حملت اعترافاً آخر..: "..يجب ان ندافع عن الحرية.ويجب ان تكون للجميع.. لماذا لا ينشيء "الاخوان المسلمين" حزبهم السياسى..و لماذا لا ينشيء العلمانيون حزبهم؟.." قبلها بقليل كان يعترف: "..الهجوم على شكل نوعا كبيرا من الضغوط اثرت على عملي. وحين أحسست بهذا التأثير مزقت فوراً كل ما كتبت.. اسمي هذا ضغوط الخطاب النقيض.. لكنني أعرف أن قهر الضغوط يتحقق بمطلب بسيط جداً وهي: الحرية..".بين اعتراف البداية والنهاية. كان هناك ما يستحق الدهشة.
القنابل الموقوتة
من الثانية الأولى كان الدكتور حسن حنفي منزعجا. انتظرنا طويلاً حتى صعد موظف الامن بالمعهد السويدي (مقر الندوة) ليستأذنه في حضورنا. لم نكن متأكدين من ان الندوة مقصورة على الضيوف فقط. لا صحافة... هكذا قال لنا قبل ان يتركنا امام شاشة تكشف عبر الكاميرا ما يحدث أمام باب المعهد.. بحثت عن السيارة غريبة الملامح التي لاحظت وجودها قبل ان نضغط على زر التليفون الداخلى للأمن.. وتذكرت انه كان مكتوبا عليها: "..سيارة الكشف عن المفرقعات". ضحكت على المفارقة: ".. كاميرا سرية.. وكاسحة قنابل لحماية ندوة..". موظف الامن عاد برفض الدكتور حسن حنفي. طلبت منه ان يخبر الدكتور نصر. غاب ثم عاد مرة اخرى منتظرا الرد على التليفون... "اتفضلوا".على طاولة مستطيلة التف مدرّسو فلسفة في جامعات مصر وتونس والجزائر والسودان ولبنان. موضوع هذه الجلسة هو مناقشة كتابات الدكتور نصر أبو زيد. كان المتحدث الاول على وشك الانتهاء. وفجاة قفز الدكتور حسن حنفي من مقعد مدير الندوة باتجاهنا واشار بحسم: "..من فضلكم ممنوع التسجيل... هذه ندوة مغلقة" لم نرد عليه ونظرنا إليه باستغراب حتى عاد الى المقعد وقدم المتحدث الثاني "الباحث الجزائري أبو زيد مزيان" الذي اعترف بأنه نشر عرضاً لمجموعة من كتب نصر أبو زيد في مجلة "الشروق الثقافي" تحت اسم مستعار. كان هذا في "زمن المحنة". وهو توصيف عاطفي عن سنوات مطاردة واغتيال الكتاب والمثقفين في الجزائر. الخوف من مصير القتل كان يتطلب السرية على مايبدو في مواجهة جماعات العنف الاصولى. وفي الوقت نفسه كانت كتابات نصر أبو زيد "دعماً لتيار المثقفين المعربين في مواجهة كل من المثقفين الفرانكفونيين من جانب والحركات الاسلامية من الجانب الآخر...".هكذا قال مزيان مشيراً الى ان: ".. في مواجهة الفرانكفونية لم يكن قويا في ذلك الوقت الا الاسلاميون.. لكن المثقف المعرب وجد في كتابات نصر أبو زيد سنداً علمياً لمواجهة كلا الفريقين.. كان هو أهم تمثيل للحرف العربي المستنير..". الباحث الجزائري اعتبر ان نصر أبو زيد واقع تحت "سطوة محي الدين بن عربي الروحانية والعرفانية.." واعتبر أيضاً أن كتاباته أصبحت "سجينة الخطاب الذي تنتجه الحركات الاسلامية.." وانها أصبحت "سنداً ومرجعية في الصراع الايديولوجي والسياسي للتغلب على سطوة الحركات الاسلامية".هذا النوع من نقد افكار الدكتور نصر أبو زيد كان هو محور الندوة. لكن لم تتحقق هذه الفكرة تماماً. ربما لأن أغلب الحاضرين يمثلون الحالة الحاضرة لأستاذ الجامعة. وخاصة الفلسفة. فالجامعة التي ينتصر فيها عبد الصبور شاهبن ومحمد عمارة وغيرهم من "فقهاء التكفير". لن يخرج عنها سوى اساتذة لا يختلفون كثيرا عن خطباء الجمعة وان افتقدوا لجاذبيتهم في التعامل مع مشاعر الجمهور.هذه حال دارسي الفلسفة التي لم يعترف بها أحد في الجلسة وان كانت اعترافات حسن حنفي هي اشارة هامة الى واقع الجامعة....والمجتمع ايضا ) لكن من زاوية مختلفة.
قال حسن حنفي (وهذه صياغات لما قاله وليست نصوصاً):
1 ـ نصر أبو زيد بالنسبة لى مسالة شخصية. وليس مجرد موضوع. فهو تلميذى الذي تعلمت منه.
2 ـ هو استطاع ان يواجه الفكر المسيطر. أنا أستخدم أسلوباً آخر. اسلوب حرب العصابات "أضرب وأجرِي". ازرع قنابل موقوته في اماكن متعددة. تنفجر وقتما تنفجر ليس المهم هو الوقت. المهم ان تغير الواقع والفكر.
3 ـ نحن نقاوم 1000 عام من التخلف.
4 ـ يسمونني "المفكر الزئبقي". لا يعرفون كيف يصنفونني. الجماعات الاسلامية تراني ماركسياً. الشيوعيين يرون اني أصولي. الحكومة تتعامل على انني شيوعي اخواني (ضحك في القاعة ).
5 ـ الاختلاف بينى وبين نصر ليس في القول بل في المنهج. هو اختار العلن وأنا أرى ان المسألة لا بد ان تكون سرية. هم مسيطرون على العامة وقضايانا هى قضايا الخاصة.. اننا مجموعة قليلة يمكن ان يصطادونا واحداً واحداً. وينتهون منا. لهذا استخدم "آليات التخفي".
6 ـ اصحاب المصلحة هنا يريدون تثبيت النص لانهم يريدون تثبيت السلطة. والنص هنا ليس المكتوب فقط بل ان صدام (حسين)نص. واشباهه نص. وكل تحريك او نقد للنصوص اهتزاز للسلطة.
7 ـ ربما لو كنا واجهنا لما كان نصر تعرّض لما تعرّض له. ومنذ طه حسين مرورا بأمين الخولى وحتى الان البداية دائما من الصفر.
8 ـ ربما لهذا اعتبر ان نصر أبو زيد هو حسن حنفي كما ينبغى ان يكون.
مشاريع الوهم والعذاب
اعترافات حسن حنفي كانت صادمة.فهو واحد من اهم اساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية. مشغول بتركيب مشروع فكرى.زهوته كانت في الثمانينات عندما قدم فكرة "اليسار الإسلامي". وكما افهمها هى محاولة البحث عن الجوانب العقلية والراديكالية في الفكر الإسلامي. وهو نوع من المشاريع التي وصفت بانها "توفيقية". تتصور انه يمكن الجمع او التركيب بين مفاهيم "الحداثة" و"التراث". وهي يوتوبيا نظرية بدات مع الجنرالات اصحاب المشاريع القومية من محمد على الى جمال عبد الناصر مرورا بالجنرالات في العراق وليبيا. حلمهم كان اكتشاف صيغة تجمع الاضداد: اشتراكية الاسلام. الاشتراكية العربية. النظرية العالمية الثالثة (المعروفة باسم الكتاب الاخضر).
لكن حلم الجنرالات كان تفسيره مختلفاً عند المثقفين. فالرغبة كانت إبداع مناهج انفرد بها الغرب. ولمعت مشاريع لأسماء مثل: محمد عابد الجابري وعبد الله العروى وحسن حنفي ظلت هذه الاسماء لامعة حتى التسعينات. ومع انتهاء الحرب الباردة اصبحت الافكار أكثر حدة واستقطاب فغابت مشاريع الوسط الذهبي الحالمة (نصر أبو زيد وجه ملاحظات نقدية مستفيضة حول مشروع حسن حنفي في كتابه "نقد الخطاب الديني").من هنا كان كتاب "الاستغراب" لحسن حنفي موضع نقد كبير. وبداية لانحسار أفكاره وبقاء قيمته كاستاذ جامعة.ومعلم اجيال. وهو بالفعل "علامة ارشادية" لطلاب واساتذة اقسام الفلسفة. ونموذج غائب الان يهتم بالثقافة والمعرفة وليس بطبع المذكرات والدروس الخصوصية.نصر أبو زيد بدأ باشارة وحكاية. الاشارة هى ان: "... الدكتور حسن حنفي استاذي. تعلمت منه طالبا في مرحلة الليسانس. الماجستير. ثم الدكتوراة. ومازلت اتعلم منه. تطورت علاقتنا من الاستاذية الى الصداقة. بيننا حوار دائم خصب. عنيف أحياناً.. لكنه محاولة للوصول الى نتائج مثمرة..".والحكاية.. "عندما كنت طالباً.. استمعت الى محاضرته.. وطلب منى تعليقا... قلت له.. حضرتك بتقول اننا ممكن نغير الواقع بالفكر.. تقول هذا الكلام وانت ترتدى رباط عنق من باريس وتجلس مستريحاً في الجامعة. كنت وقتها متحمس جدا واعتقد ان الواقع هو الذي سيغير الفكر وليس العكس.. لكنه قال لي: عندما تتخرج شكل حزباً سياسياً ستكون انت زعيمه وأكون انا عضوا فيه.. من هنا تعلمت منه ان الاستاذ في الجامعة لا يمارس سلطة معرفية على طلابه..".ومن هذه النقطة الاخيرة قال الدكتور نصر أبو زيد مجموعة أفكار بينها (هذه ايضا صياغات وليست نصوصا):
1 ـ الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة. لكنه ليس شرط النهضة. ولا يمكن لأي مشروع نهضة ان يتجاهل الدين.
2 ـ لكن يظل السؤال: أي دين؟ بمعنى أي فهم للدين؟ هل هو الدين الذي صنعته المؤسسات وتطور من الايمان الى العقائد الى الدوجما (او الدائرة المغلقة التي لا تحتمل التفكير؟!
3 ـ هل هو الدين الرسمي ام الدين الشعبي؟ هل الدين الشعبى كفر؟. محمد عبده ورشيد رضا قالا ان الفلاحين الذين يتبركون بالأولياء ويزورون الأضرحة هم عبدة أوثان..هل هم كذلك فعلا أم اننا امام تأويل اجتماعي للدين؟ ففي العصر الذي لم يكن الفلاح يستطيع الكلام مع العمدة مباشرة ويحتاج الى وسيط بالتأكيد فانه يحتاج الى وسيط بينه وبين الله؟
4 ـ نحن مهمتنا ليس الحكم على عقيدة احد. بل الفهم. او السؤال عن كيف تطور انتاج المعنى؟
5 ـ نحن جميعا نتصارع حول المعنى.
6 ـ المعرفة مشاركة وحوار ونقد. لكن هناك من يدعي سلطة معرفية ويتصورون اننا نصارعهم عليها. وهذا ليس صحيحا فنحن لسنا طلاب سلطة. نحن طلاب معرفة.
7 ـ المؤسسات تختزل الدين في الحلال والحرام. لكن الدين معطى ثقافي حي وفاعل.
8 ـ التراث عنصر أصيل من عناصر النهضة. لا أحصر التراث الديني في الاسلام وحده. هناك تراث من المسيحية واليهودية. دخل في تراث الاسلام.
9 ـ في المجتمعات العلمانية لايمكن على مستوى بينية الثقافة ان نتحدث عن الفصل الكامل بين الدين والمجتمع.هناك مثلا عندما تتحدث عن القدس لا يمكن لشخص علماني ان يتعامل معها الا انها القدس اليهودية. فالدين جزء من بنية. واثناء كتابة الدستور الأوروبي كان الخلاف هل يذكرون المسيحية ام لا؟ الدين مكون اساسي (وليس الوحيد) في بنية الثقافة. لكن مرة اخرى أي دين؟
10 ـ المرعب هو استخدام الدولة للفكر في مشروعها. فتكون الدولة علمانية وهى تحارب الارهاب. ودينية وهى تحارب المعارضة العلمانية. وإرهابية وهى تحجب الحركات الاسلامية.
الفيلسوف والراقصات
قبل هذه النقطة الاخيرة حكى نصر أبو زيد عن اعلان استوقفه في محطات المترو في باريس. في مركز الاعلان غلاف كبير لكتاب "نقد العقل المحض" أشهر كتب الفيلسوف الألماني كانط. الاعلان كان عن لبن اطفال والاشارة الى انه اذا شرب طفلك هذا النوع من اللبن سيستطيع ان يقرأ فلسفة كانط. يقول نصر: ..المعلن عن السلعة يعمل دائما على الاشياء المعروفة... وهذا معناه ان الفيلسوف كانط معروف عند غالبية الفرنسيين..و هذا يفسر ايضا ان كل اعلاناتنا تعتمد على راقصات باعتبار ان هذا مانعرفه.. سأسأل هنا كم شخصا يعرف طه حسين في مصر؟
هذا يفتح الطريق امام مجموعة اشارات اخرى:
1 ـ اكره كلمة التنوير. لا احب استخدامها.و لا استخدام نقيضها "الظلاميين". هذه التوصيفات تذكرنى بمحاولة الدولة في استخدام المثقفين في معركة ضد الارهاب. قلت للمسؤول وقتها لكن على باب الجامعة الشرطة توقفني وتطلب منى بطاقة الدخول. و في كل مكان اجهزة السلطة تطاردنا. هل يحدث تنوير برغبة هذه الدولة. ام ان المفروض ان يتحول المثقف الى موظف عند الدولة.
2 ـ المثقف عندما يتحول الى موظف يفقد دوره.
3 ـ هل فكر احد: كيف تتحول النصوص الى نصوص مقدسة؟! بمعنى اخر لماذا يعتبر البعض ان اشكال القصاص مقدسة. على الرغم من ان اشكال مثل الرجم او الجلد كانت موجودة قبل القرآن. أي انه تبناها. ونحن اليوم نعتبرها مقدسة. أي اننا نهتم بالشكل ونعتبره صالحا لكل مكان وزمان.والسؤال هنا هل نهتم بالعدل ام بتحقيق العدل؟
4 ـ هنا يبدو الصراع على العامة.وانا حين قدمت اعمالى للترقية لم اقدمها الى العامة بل الى الخاصة.لكن الخاصة هى التي البت على العامة وحرضتها. في اطار صراع على سلطة المعرفة. هذا على الرغم من انى اؤمن بديمقراطية المعرفة وبانه لن يتم تغيير بصراع الخاصة مع الخاصة. لكن هناك من كان يقول علانية: ".. نحن لا يهمنا تفريق نصر أبو زيد عن زوجته..نحن نريد ان نطرده من الجامعة" هم يعرفون ان هذا مركز تاثيرى. وهنا الصراع.
5 ـ انا متصوف بالمعنى الحياتي. وليس بالمعنى العرفاني. أي اننى مؤمن بانه كلما استغنيت اغتنيت. اقلل احتياجاتى دائماً فتقل قدرة الاخرين على التحكم في. تكفيني حجرة وكتاب ومكتب وقلم. ربما يرجع هذا لنشأتي الريفية والفقر واليتم. لكن الأهم ان التصوف منهج للحياة يجعل الانسان مستقلاً.
6 ـ اصدم قليلا عندما اسمع احد يتكلم عن :مشروع نصر أبو زيد. المشروع يعنى اننى احمل رسالة. انا باحث. مهتم بفهم الظاهرة الدينية في تاريخيتها. لا شيء اكثر. انا ايضا مواطن يريد حريته. "مواطن" يسافر ويعود. يناقش. ويختلف. وليس مجرد رمز المعركة بين التفكير والتكفير او بين الحرية والتفتيش.هل يعنى وجوده هنا اي اشارة بانتهاء المعركة؟ ام ان طرفا من الطرفين اعلن استسلامه؟ ام انه عامل الزمن..و ابتعاد نصر عن دائرة الصراعات المباشرة والتنافس حول "كعكة" التحدث حول القران والدين؟
لماذا كان حسن حنفي منزعجا ومتوترا. قال لنا: "أنا أحاول حمايته.." وعندما لم نفهم.. أكمل رأيه: "..اعتقد ان نصر هو ضحية الصحافة"..سالناه: ..الصحافة..؟قال: نعم. كنا نستطيع حمايته في الجامعة.ولماذا لم يحدث؟لم يرد حسن حنفي. هل كتب نصر موجودة في مكتبة الجامعة؟قال: لكنها موجودة في مكتبات الجامعة.وهل هذا انتصار؟انتهت الاسئلة فقد اشفقنا على مشاعر الخوف على نصر أبو زيد.
لكن مازالت الدهشة موجودة:
1 ـ نصر أبو زيد اولا ليس ضحية. بل هو في وقت من الاوقات كان محور الصراع بين الرغبة في الحرية. والرغبة في اعلان السيطرة على المجتمع.
2 ـ ليس هناك شيء واحد اسمه الصحافة. هناك انواع من الصحافة. وافكار تحرك الصحافة. وفي معركة نصر كانت المسافة واضحة بين صحافة تدافع عن حرية نصر. وصحافة ترى فيه "مجرماً" لأنه قرر التفكير خارج السرب.
3 ـ واذا كانت الصحافة هى ملعب الحوار الوحيد الباقى في المجتمع بعد ان اغلقت السلطة كل الملاعب الاخرى (حتى الجامعة ) لماذا الخوف من طرح معركة نصر في الصحافة ودفع الثمن.
4 ـ والعيب ليس ان تتناول الصحافة معركة نصر. بل العيب ان تتجاهلها. او تخاف من الاقتراب منها.
5 ـ والأهم ان تنتهى تيارات الوصاية الفكرية على الناس.هذه ليست الا رؤوس أقلام للنظر في المسكوت عنه. السرى. المكبوت. وكل ما نخفيه تحت الاحتفالات والعناوين والرغبة في ان تظل الافكار الخارجة عن الثقافة السائدة مجرد قنبلة موقوته. غالبا تنفجر في صاحبها أولاً.هل نخاف من دفع فاتورة الافكار؟هل نريد ان نخرج عن السرب ونتمتع بنعيمه في الوقت نفسه؟
هنا تبدو قيمة الاعترافات.
وساعترف باننى بدات محاضرة نصر أبو زيد منزعجا من حسن حنفي. وانتهيت منها متعاطفا مع احساسه بالزمن
أعلى