محمود درويش - لم نكن على موعد.

كان يعرف أني لن أعود. وكنت أعرفُ أنه لن يسافر.
وكنّا نعرف أن ما تبقَّى في عباءته من عُمر لا يكفي لأن نلتقي، في المكان الذي لا يرحل عنه، ولا أستطيع العودة إليه. لذا، لم تجمعنا غيرُ أسلاك الهواء المتقطّع، ليصير الصوت مقعدين، أجلس على أحدهما لأعرف أن لي بداية، ويجلس على الآخر ليحمي نفسه من عزلة النهاية.
وكان دائماً يريد لي ما يشبه هذه الحماية: يريد لي ولداً يسندني، فأمازحه، أتريد لي ولداً يفعل بي ما فعلت بك يا أبي؟ يشبّ ويهرب، فيقول لي: تلك هي الدنيا، قلبي على ولدي، وقلب ولدي على حجر!
أبي لم يكن من حجر. ولا من جذع شجرة كان أبي، ولكنه اختار أن يكون ما فيهما، وما بينهما، من صلابة ظلٍ متماسك، وما فيهما من مساحة لمكان، كأنه خارج، للتوّ من صَوَّان يرشح عرقاً. يده لا تخطيء الزرع. يده خضراء الكدح.
يده تنجب الشجر.
ولكن، أين يزرع؟ أين يزرع؟
اسمه، في طفولتي، ما يرادف الحقول من صور، ومن نباتات وفصول: مربعات السمسم، وأمواج الحنطة، وخضرة خافتة للزيتون. مطر أوّل. طين أول. وفاكهة أُولى. طريق طويل إلى تلَّة. شجرة توت ضخمة. أقراص عسل قوي. حصان يقفز. رائحة تبغ صلبة. خروف مذبوح. وصور لا صور لها. صور تسحبها الغيوم إلى الغيوم.
لا أحد يتذكر متى تعرّف على أبيه.
لا أحد يتذكر متى تعرف على أُمه.
فلماذا أضرب قلبي بهذا السؤال: متى التقيت أبي لأول مرة؟
لا أعرف إلا اختلاط الليل والنهار،
ووجهاً يتردَّد على لغة الأرض،
لأن أبي لم يكن أبي بقدر ما كان أباً للنبات والشجر.
لم أشعر بأي خوف منه، لأن الزائر لا يثير فينا الخوف. وقد كان أبي يزورنا في الليل، يزورنا لينام، ثم يوقظ الفجر، ويسوقه إلى الحقل. الحقل كان بيته، والنباتات كانت أسرته. لذا، كنت أظنّ أن جدي هو أبي.
ونادراً ما كان يكلّمني. هل امتصت الأرض عاطفته؟
كنت سعيداً بهذا الصمت، سعيداً بهذا الإهمال، لأنه لم يضربني كما كانت أمي تفعل، لم يضربني مرة واحدة، حتى حين أحنيت ركبتي، وغرزتها في السكين الضخمة لا لشيء، إلا لأعرف إن كانت تجرح، ولأعرف إن كان الجرح يؤلم. كل ما فعله أبي هو أنه أخرج السكين من لحمي الطري، وناولني إلى أُمي.
هل السكين تجرح؟
هل الجرح يؤلم؟
كان عليَّ أن أكبر أكثر لأتعرف على أبي.
فقد انكسر المشهد بكامله: مشهد الحقل والبيت والفجر والفلاّح. وصحا أبي على انقطاع نهائي عن المكان، ليتحوّل عاشق التراب إلى يتيم. عندما كان يتجه شرقاً، وكنت أجري خلفه، لم يكن يدرك أن هذه الرحلة من قرية "البروة" ستتسع لكلِّ ما في الأيام من مفاجآت.
لم يكن يدرك أن الرحلة هجرة، لأنه كان يظن أن الطريق الذي يمر عليه، الطريق الوعر الطويل، سيكون هو الطريق الذي سيسلكه، في اتجاه معاكس، ريثما ينتهي "جيش الإنقاذ" من تطهير الوطن من الغزاة.
وفي لبنان، كان على جدِّي أن يعد الأيام على أصابع اليدين، وحين انتهت صار يعدها بالحصى. وكان على أبي أن ينتظر. وكان علينا، نحن الأولاد، أن نتسلق جبل جزّين في الشتاء لنقطف الثلج، وأن نسبح في الصيف في بحر الدامور.
وهناك، تعرفت على أبي، على ولد سرقوا منه ألعابه. فصار في حاجة إلى الشكوى والكلام، صار في حاجة إلى حُبِّ أولاده، بعدما أصيب بلفظة "لاجئ". لفظة تنتشر كالعدوى، فيحتمي بمرجعية الوطن.
كل شيء، في النفس، عكس كل شيء حولها وخارجها. هناك ـ على سبيل المثال ـ كان لنا بيت. في البيت نوافذ. النوافذ تطل على حقل. وهناك ـ على سبيل المثال ـ لنا آبار وتين وثيران ومحاريث، كانت هبة لم نتقن الفرح بها كما نتقن الفرح بذكراها الآن. وحين نعود، غداً أو بعد أسبوع أو شهر، سنستردّ شبهاً آدمياً بآدميّ يُهيل علينا فضاء العار. هناك عكس هنا.
بهذا الشكل من أشكال المقارنة بين ما كان، وبين ما هو كائن، يرجع ما سيكون إلى ما كان، ويستدرج الماضي المستقبل إلى تتبُّع حرفي لما فُقد، ويصير ما هو مفقود مثالاً لما في الأيام من ذهب، لأن العصر الذهبي هو ما كان، ما كان منذ قليل. لذلك يتحول حتى شقاء الفلاّح إلى نعمة، يتحول المحراث إلى عرش. أما هنا. فلا حاضر لنا أبداً. وهكذا يصير لكل "لاجئ" هنا بيارة هناك.
وحين أعادنا أبي إلى فردوسه المفقود، أدرك أنه يقع في الهاوية، لا لأن صورة الفردوس تخالف واقعها، بل لأن الواقع إيّاه لم يعد واقعاً، وواصل ارتقاءه إلى ذكرى بعيدة، فقد تحول المكان إلى أنقاض. لا شيء هناك، لا شيء هناك غير حطام القلب.
هل كان أبي قادراً على استيعاب هذه الصدمة؟ هل كان قادراً على مواصلة الجلوس عند أطراف المشهد المنهار، كما فعل جدَّي، وهوى على السياج المرفوع بين قلبه وأرضه؟
لقد صمد أبي، وتحوَّل "اللاجئ" في لبنان إلى لاجئ في بلاده. ومن الصخر، من الصخر وحده كان يقتلع لنا رغيف الخبز، والثوب، والكتاب. ولكي لا ننسى كان يدلنا على أشواك الصُبّار التي خاطت جسده بالأرض. ونهانا عن السفر.
هل كانت السكين تجرح؟
هل كان الجرح يؤلم؟
أبي جَفَّ فجأة. تيبَّس كالشجر المهجور،
أبي مات هناك،
أبي دُفن هناك في التل المطلِّ على مشهد حياته المنهار.
فأين أموت يا أبي؟
لن تصل إليه دمعتي، كان في وسعي أن أُوصل إليه كل شيء، من السبحة، إلى معطف الصوف الرماديّ، إلى اعتذاري، ولكن دمعتي لن تراه. سامحني يا أبي، لأن ما بيننا من أيام مكسورة لا تكفي لأن أكون جديراً بالعرق الذي غرفتُ منه لغتي.
هل كان عليك أن تصمت كل هذا الصمت، خمساً وسبعين عاماً، لكي أتعلَّم كل هذا الكلام الذي لا يشبه سنبلة، ولا يقوى على إيصال دمعتي إليك؟
سامحني يا أبي ...
وسامحني لأني لم أُنجب لك حفيداً يفعل بي ما فعلت بك يا أبي!
وأبي يا أبي،
غضّ طرفاً عن القمر،
وانحنى يحفن التراب،
وصلَّى
لسماء بلا مطر،
ونهاني عن السفر
وأبي قال مرة:
الذي ما له وطن،
ما له في الثرى ضريح،
ونهاني عن السفر!
وسامحني يا أبي ...

25 مايو(أيار) 1987
أعلى