علي البدر - النَشّالَه(1) قصة قصيرة

الى الغائب الحاضر.. الى محمد اليعقوب
((لم يَكُنْ لَدَينا شيءٌ لِنَنساهُ لأَننا نُحِبُّكُم))

وهكذا انتشر عشرات البحارة على ساحل الخليج العربي حيث راح أحدهم يصلح قاربه الصغير الذي تاكلت بعض أخشابه واستعد لاستبدال مزيد منها، بعد أن جلبها البحارة من الهند أو من الغابات الأفريقية المختلفة لتطلى بعدها بطبقة من القار الذي تطاير دخانه من صفيحة معدنية عتيقة مرتكزة على صخرتين، بينما انشغل (محمد اليعقوب(2)) بأعادة لف حبله السميك ليجعله لفة واحدة مربوطة بسلته المشبكة. وبين ان واخر يمتد بصره نحو الأفق ، فيشهد ولادة البدرالذي بان وكأنه يغادر البحر ... يبتعد عنه كابتعاد الطفل عن حضن أمه فتغور خيوطه الفضية في أعماقه وتشده اليه شدا، لكنه يتمادى في ارتفاعه فتبقى المساحات المائية خالدة تحت نوره ترقب عودته، ولكن هيهات له أن يعود بهذه العجالة فيرتفع البحر بخفة وسكون ليضم اليه مزيدا من رمال الساحل الناعمة وتتراقص الزوارق ويسمع صوت الموج المتكسر وهو يذوب بين رمال الساحل في عناق أبدي لانهائي.
ولم يكن (لمحمد اليعقوب) سوى تذكر أخيه الذي ضاع من بين يديه في مثل تلك الليلة قبل سنتين، عندما أصر على الغوص لاخر مرة وهو يتلوى من ألم خاصرته حيث أمسك سلته المربوطة بالحبل وأخذ نفسا عميقا ثم قرص حافة منخريه واغلق فمه ورمى بنفسه في البحر .
ياليت ماءَك حلوٌ
أجل.. هذه هي اخر كلمات سمعها منه، ظلت تدوي في أعماقه حتى اللحظة فلم يدر أن الماء لن يلامس جسد أخيه ثانية فبات يشعر بذنب قاتل ومرارة لاتوصف.
-لماذا لم أمنعه؟ لماذا؟ لماذا؟ كفاك غوصا يا أخي . الرزق على الله ولا بأس بسلة فارغة . أه ما أقسى ذلك اليوم عليٍ. انتظرتك دقيقة. دقيقتين.. ثلاث دقائق... خمس دقائق وأكثر فسرى الشك في أوصالي عندما سكن الحبل الذي الفه حول كفي، وحاولت سحبه فوجدته يقاومني ويسحبني نحو الأسفل. صرخت وصرخت بكل جوانحي وأنا اسحبه الي ولكن دون جدوى . لقد أردتُ أن أضمه الى صدري لاخر مرة ولكن كان لون الدم قانيا...
يا أَهالي مدينتي
يا أهالي كاظْمَة
يا أحبتي...
غدًا أفارقُكُم
يا مُنتظِري غُيومِ الشتاءِ وشاربي مياهِ الجِلًيب (3)
يا حافِري الأَرضَ في الشّامِيَّةِ والدَّسْمة
يا أهلَ بُيوتِ الطّينِ وشارِبي مِياهِ الأعماق
يا أَهالي فَيْلَكَةِ وياساكِني سَواحِلها..
أحسُبوا لِفِراقي يومًا... يومَين وانتظروا عَودَتي هناك..
عِندَ شواطيءِ المِلحِ القريبة...
تجمهر الناسُ وفُتِحَت أبوابَها البيوتُ وعَمَّت الفوضى وصاح أحدُهم:
-مابك يا (محمد) ؟ صاح اخر: تعال ادنُ مني. تكلمْ، لكنه أصر على نداءاته حتى ساعات متأخرة. وعند الفجر كان هو وبعض مساعديه يهيئون (النشالة) للأبحار، فنصبوا ساريتها وثبتو أشرعتها فبقيت عيون الناس مشدودة اليهم لأكثر من ساعة حتى تلاشت مبتعدة تلاطمها الأمواج.
وعندما وصلت، كان العشرات بانتظارها فرحين. نزل بحارتُها وعانقوا الأهالي بحرارة وشرعو يملؤون خزانات السفينة والتف الأطفال حول (محمد) حاملين أكياساً من التمر، يقبلونه ويلتفون حوله كفراشات تحوم حول زهرة متراقصة بينما استمر البحارة يوزعون أسماكا نادرة من الزبيدي والشانك والهامور وهم فرحين، وانشغل الأهالي والبحارة بملء خزانات السفينة بالماء الحلو وهم يغنون أغاني البحر العذبة التي يرددها بحارة الأعماق ويتفاءلون بها لأعتقادهم انها تسحر بعذوبتها قساوة البحر وتكسر بأنغامها أمواجه وتجعلها امنة رغم جبروتها وطغيانها أحيانا.. وبساعات متسارعة انتهى كل شيء فبانت السفينة وكأنها خزان ماء كبير بينما تراكمت القرَبُ الجلدية الممتلئة بالماء والتي نقلها الأهالي وهم يلهثون، فبانت كجبل رخوتنزل منه قطرات الماء لتنساب حول أوان ملونة جلبتها النسوة كوجبة طعام مع كميات من تمر البرحي اللذيذ محمولا على أكتاف الرجال، والذي يحبه (محمد) وأهله.ومن بعيد لاحت امرأة تحمل شيئا بدا من حركة جسمها انه ثقيل بينما التف ذراعها الأيسر حول رضيعها. توقفت قليلا لالتقاط أنفاسها فهرول (محمد) نحوها مستغربا وتناول قربة الماء التي بللت عباءتها وطفلها فقال:
-ماهذا؟
-ماء. أجل ماء، وهي تمسح دموعها. وهذا... طفلي جلبته اليك لتراه وتطمئن اليه وتقول لأهلي هناك وتشهد انه قد نقل بكفه الماء وسيكبر ويحفرالأرض بساعديه ويوصل الأمل والفرحة اليكم. سيجوب الصحراء ويذوب في الأعماق ويصرخ بلهفة واشتياق.. عراق ياعراق.. فتبحر مياهنا في الأعماق وتروي الافاق ويزدهر لون الأرض وتبتهج السماء ويغني الكون لحن الأبدية ...عراق ياعراق
وكانت السفينة تترنح يمينا وشمالا وبدت كعلبة صغيرة وسط بحر لا متناه لكن الناس بقوا يتأملونها وهم مشدودين اليها شدا، وراح البحارة يتمايلون مع موجات البحر ، بينما استقرت بعض النوارس متعبة في احدى زوايا (النشالة) هربا من الرياح التي أفرحت البحارة وانشغل (محمد اليعقوب) يفتت الخبز ويرميه اليها لتأكل باطمئنان...ومن بعيد شوهد الرجال بملابسهم البيض يلوحون ويغنون، والنسوة بعباءاتهم السود فشرع البحارة يهيئون السفينة للرسو عندما وجَّه (محمد) دفتها نحو الساحل ملوحا بيده اليهم ثم راح يغمس اناءه المعدني في الحوض وينثر الماء عليهم
اندفع الناس نحو السفينة وخرجوا منها مبللي الرؤوس والثياب يحملون الماء بقربهم وبأوان فخارية ومعدنية بينما استمرت قطرات الماء منسابة على رؤوسهم وأجسادهم التي التصقت ملابسهم عليها لكن حرارة الشمس أيبستها وأعادت رونقها، أما (محمد اليعقوب) فقد اندفع حاملا قربته على ظهره وراح مبتعدا عن الناس، متجولا بين الأزقة الضيقة البعيدة، يدق الأبواب ويوزع الماء والأطفال خلفه يتسارعون. ولم يشعر باللحظات التي مرت متسارعة كالبرق ، فقد انشغل يسقي من يصادفه حتى توغل خلال زاوية ضيقة ليدفع بابا لبيت بدا جداره الأمامي متهرءا، فأحاطه أطفاله الأربعة وشكلوا حلقة حوله. ملأ اناءه وشرع يسقيهم طفلا طفلا. وكانت زوجته ترمقه بنظرات مرتبكة في الزاوية الأخرى من باحة الدار. دنا منها وحدق في عمق عينيها ثم وضع راحة يدها الباردة على خدها وقال:
-هيا اشربي.
-لا.. لا.. اشرب أنت. دنت منه ولمست شفتيه وقالت: أتسقي الناسَ وضمانًا تبقى! اشرب.. اشرب أنت.
-سأشرب في المرة القادمة. لا تقلقي . ثم انحنى يقبل أطفاله وكانت تلك اخر كلمات سمعتها زوجته منه...
خرج مهرولا، حاملا قربته. انسانة واحدة فقط تشغله الان. أجل. تلك العجوز الوحيدة التي كانت تعطف عليه وتمسح رأسه وتجفف دموعه وتخفف وطأة اليتم عليه تلك الأنسانة التي علمته قراءة القران والكتابة والبحث عن القبلة ليصلي. لابد أن أسقيها. لابد أن أروي عروقها المتيبسة، وشرع يطرق الباب حتى سرى الشك يساور مخيلته. وأخيرا ظهرت تلك العجوز مبتسمة تعانقه وتبكي.
-خذي يا أمي اشربي. هيا تذوقيه. أمسكَت الأناء بيدها المرتعشة وشرعت تشرب الماء وتنظر اليه مبتسمة ثم نظرت اليه نظرات حائرة مرتبكة وقالت:
-ما بك يا ولدي؟ هيا اشرب الماء من يدي. أشرب من اليد التي حملتك سنين طويله.
تناول الأِناءَ وشرع يشرب، لكنه بدا منهكًا حتى سقط من يده وذوى الى الأرض بلا حراك. صرخت امه والتف الناس حوله لكن (محمد اليعقوب) ظل ساكنًا بلا حراك. أنحنت عليه وقبلته وأغمضت عينيه لكنه ظل مبتسمًا، بِلا حِراك..
أمسكت يده برفق وبدت تحدثه وكأنها لم تصدق انها لن تراه أبدًا، ثم نهضت متكئة على عصىً تلازمها منذ سنين وقالت:
-تَشرَبُ الأمُّ ماءَك ويَسْري في عُروقِها ويَمتَصُّ الرَّضيعُ ثَديَها فَتُسكِرُهُ نَشْوَةُ حُبِّ العراق . عَلَّمَكَ أَهلُ الفاوِ واسْتَقبَلَكَ أَطفالُها وَهَلَّلَتْ لَكَ نِساؤُها، وضَيَّفَكَ رِجالُها فأسْقوكَ ماءَها، وَبُتَّ تُرَدِّدُ اسمَ العِراقِ، باليَقظَةِ والمنامِ، وأَنتَ حاضِرٌ وأَنتَ غائِبٌ. الماءُ.. الماء. سَيأتي غَيثُهُم. نَحرُثُ الأرضَ معًا ونقطفُ الأثمارَ معًا ونَحيا معًا، وعندَها تُرَفْرفُ الفراشاتُ حولَ أزهارِنا وَنَشُمُّ عَبيرَها ونأكُلُ التَّمرَ معًا، ونُغنّي مع الزُّهورِ أُغنيَةَ الأَبَدِيَّة....
1)ألنشالة: أولُ سفينةٍ نقلت الماء من الفاو في مدينة البصرة الى الكويت.
2) محمد اليعقوب: مالك السفينة وربانها.
3) الجِلّيب: حُفرٌ في الأرض لجمْع مياه الأَمطار.
علي البدر/العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى