نعمات البحيري - الدجاجة المرحة

جاءني صوتها عبر الهاتف‏..‏ياااااه‏....‏ بعد عشرين عاما‏...‏ نعم بعد عشرين عاما من الغياب في السفر والبعد والتنائي‏.‏ ورغم الغياب ظلت حاضرة في روحي مع زمنها الجميل‏.‏

سرني أن بادرت أروى بالرغبة في اللقاء وحددت يومه وساعته، ناولت السماعة لزوجها ليحدثني ولم أكن عرفته قبلا‏..‏ علمت من أختها بأنها تزوجته سريعا وسافرت‏..‏ كلمات مثل مانشتات دون أدنى تفاصيل‏,‏ وكنت وأروى نعشق سرد التفاصيل الصغيرة عن ابن الجيران واختناقات الروح والهوى في مساءات الصيف البعيدة‏,‏ ونحن نرى النوافذ مرصوصة فيها القلل الفخارية‏,‏ تلقي بظلالها على البيوت المقابلة لترسم رؤوسا صامتة لرجال ونساء‏,‏ فنتجرع ضحكات صغيرة‏..‏

كانت أروى رفيقة الطفولة والصبا والحلم والتجارب المحبطة في الحب والغرام وبدايات الدهشة مع حقائق الحياة في البيت والشارع والوطن‏,‏ لتبدأ رحلتنا مع الوعي والإدراك والسياسة ومظاهرات الطلبة والقنابل المسيلة للدموع والفرار عبر البوابة الخلفية للجامعة‏,‏ لتجاوز جنود الامن المركزي الذين نشفق عليهم ويضربوننا‏.‏

سمعتها تقول أكثر من مرة وهي تبتسم إنهم لايقصدوننا تحديدا‏,‏ وكنا نضحك من براءة الزمن الذي لانعرف إلى أين سيأخذنا‏,‏ وتخرجنا في الجامعة وتزوجنا وسافرت كل واحدة إلى بلد وحياة وغربة‏,‏ والذي عاد أولا راح يبحث عن الآخر دون جدوى‏,‏ وربما آثر أن يركن إلى ضفاف الصمت والنسيان‏.‏

كانت أروى جميلة للغاية وكنت دونها في كل شيء؛ في الجمال والفتنة والمرح والذكاء واشياء أخرى‏,‏ وكنت أحاول جاهدة تجاوز كل الفروق من أجل ود جميل وكذلك كانت تحاول‏.‏

لم يكن صوت أروى جميلا على الإطلاق لكنها تحب الغناء وتمارسه نكاية بنا‏.‏ هكذا قالت وأعلنت على الملأ في الفصل أمام كل البنات كانت تصر علي أداء اغاني عبدالحليم ونجاة وأم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش بنفس دفء ورومانسية الأيام‏.‏ كنت أمضي وقتا كبيرا في بيت أروى المفعم بالمرح فأمها عاشقة للضحك والنكتة وأبوها حنون بشكل مبالغ فيه يتابع أبناءه وبناته بمنتهى الود والمرح‏.

كان يمنح كلا منهم حصته في الحنان اليومي مثلما يمنحهم مصروفهم‏,‏ وكنت كثيرا ما أقف عاجزة عن تصور ما أراه يوما في بيتنا كانت أروى نفسها تقول لي كلما طالبتها بالمذاكرة في شقتنا بيتكم نكد، وكنت أدرك ذلك جيدا‏,‏ فقد كانت جدتي لأبي لاتجعل فرصة تمر دون أن تبعث فيها من روحها غما ونكدا‏,‏ وللحق كانت امرأة متفردة في ذلك‏,‏ ودائما الأشياء تتسابق أمام عينيها لتمنحها فرصة عظيمة لتحقيق مأربها‏.‏ ربما كان هذا سر عشقي لبيت أروى التي صرت مع الوقت أدعوها بالدجاجة المرحة لقصرها وبدانتها‏,‏ وكثير من المرح الذي تبتعثه كلما طلت أكثر النكات التي مازالت عالقة في ذاكرتي هي من صنع بيتها‏,‏ وهي التي حين تقابلني في الصباح لابد وحتما أن تلقي علي بآخر ما أنتجه بيتهم من النكت‏..‏ ومع الوقت صرت أتخفى في النوم أو القراءة حتى لايسألني أحد عن أسباب هجري لبيتنا وحبي لبيت أروى‏.

الآن قررت أن أفتح لأروى قلبي وأعيد لها مالم تعرفه طيلة غيابها‏..‏ سأحكي لها ما حدث لي بالضبط‏,‏ وسأخبرها عن الالوان التي مازالت ـ برغم أنف المحن ـ ساطعة في نظرتي للعالم‏.‏ ربما صارت إحدى وسائلي في الدفاع والمقاومة ظللت طيلة عشرين عاما أقاوم الألم والمرارة بالبهجة كي لا أموت أو أجن‏.‏ لا أرى تحديدا ربما لذلك الإيمان العظيم بسعادة آتية‏,‏ وربما لتلك الوراثة البيولوجية كانت جدتي لأمي تكره الحزن والكآبة وتسعى للفرح سعيها للحياة هذا غير الأغاني والحكايات التي كانت تحفظها وتحكيها لأطفال العائلة في كل ليلة تفرش تحت رأسي الصغير وسائد أحلام ‏.‏

سأخبر أروى بحبيبنا المشترك مراد والذي لم أفتح له أذني وقلبي إلا بعد زواجها جاء متململا يبثني أوجاعه بزواجها وسفرها ظل يفرط في الحديث معي لفترات طويلة‏,‏ ويرافقني في كل خطواتي‏,‏ بعدها جاء يبثني غرامه ورغبته في الزواج مني‏.‏ الغريب أنه مع الوقت تسللت إلى نفسي المشاعر نفسها‏.‏

يومها طفا في الافق وجه أروى وأرجأت مراد قليلا لأنه فاجأني وأنني للآن لا ادرى إن كان كل منا قد أحب الاخر لفقده لأروى‏,‏ أم أن العالم خلا علينا من بعد سفرها يومها نسى معي مفاتيح بيته وسيارته ودرج مكتبه‏,‏ ثم توالت الأحداث بطيئة ومملة حين جاءني بعدها يسترد المفاتيح ويحكي لي عن رئيسه في العمل الذي يفوت عليه فرصة التثبيت كلما حانت‏.‏

وذات يوم جاءني بصورة لفتاة وعقد عمل في الخليج‏,‏ كان قد التقى بأسرة مصرية صار لها في الخليج اكثر من عشرين سنة ورأى ابنتهم فصار الكلام والوئام‏,‏ فقرر أن يعالج أوجاعه سريعا بما فعلته أروى‏...‏ الزواج والسفر‏,‏ ويوم اوصلته للمطار عدت وقد جرحت يدي‏,‏ لاأدري كيف في الموعد المحدد جلست انتظر أروى وبهجتها ومرحها‏,‏ فكرت أنني وبعد عشرين عاما سأراها وأجلس إليها وأبدد معها كآباتي‏,‏ سوف نستعيد حكاياتنا بالتفاصيل الدقيقة‏,‏ سوف نضحك من قلوبنا ونمرح‏,‏ سوف نريق النكات على قارعة الطريق وفي مفترق الطرق‏,‏ ربما ترغب مثلي الكلام عما فعلته ـ جملة وتفصيلا ـ العشرين عاما الماضية‏.‏

في الموعد المحدد دق جرس الباب وحين فتحته حدث شيء غريب‏..‏ رأيت من تدخل عليَّ مثل امرأة عجوز‏,‏ جفت روحها ونشفت نضارتها وبح صوتها وانطفأ بريق عينيها الذي كنت أميزها به من بين كل بنات الحي والمدرسة والجامعة لم أر إلا عجوزا هشة بها مسحة من بقايا شكل وصوت ونظرات عرفتها من قبل‏.‏

أخبرتني أن زوجها يركن السيارة في الشارع وسوف يصعد‏..‏ لم أكن قد رأيته من قبل‏...‏ حين دق جرس الباب ودون أن تتحرك قالت لي إنه هو‏..‏ وشعرت بوطأة اللحظة‏,‏ ولا أدري لماذا داهمني شعور حاد وكثيف بأنني أمام قزم ضئيل الحجم بعينين ضيقتين غير عميقتين وفم كبير وأنف ذي فتحتين كبيرتين بوسعهما شفط هواء البيت والحياة‏.‏

بدت أروى تتفحص المكان مستهجنة تفاصيله الصغيرة‏...‏ نباتات ظل وكتب وتماثيل فخارية صغيرة وقطط تتوارى وتظهر بدا أيضا أنها لم تكن تشتاق لي مثل شوقي لها‏,‏ ولم تتحدث عن شئ خارج إطار تعب السفر والغربة ودرجة الحرارة التي تتعالي هناك حتى تشعر أن لها قواما تمسكه بيدها‏..‏ حكت أيضا عن الشقة الفارهة التي أثثاها بطريقة حديثة فاخرة‏.‏

حكت أروى أنها ودت لو يكون لها ابنة وتسميها باسمي‏,‏ لكنه لم يحدث صمتت وجاءت نسمة سرعان مامرت وشعرت بقدر هائل من البرودة، وصديقتي تواصل نظرات استنكار إلى لوحاتي على الجدران وإلى كتبي المتراصة بعناية في مكتبات خشبية صغيرة في أنحاء الشقة حتى النباتات المتراصة بعناية إلى جوار الكتب لم تلق من عينيها ترحيبا ربما لا تتذكر أروى أنني كنت أهوى الرسم‏,‏ والقراءة والزرع‏.‏

استغربت نظراتها وكلامها واستهجانها لكثرة اللوحات والكتب وأن الزرع يجتذب النمل وحشرات أخرى والكتب تجتذب الفئران‏.‏

كنت أرى وطأة نظراتها وهي تختزل عمري معها إلى تلك النظرات الباردة والحامية في آن واحد، تحرك زوجها نحو الشرفة ممسكا فنجان الشاي وهو يتأمل تفاصيل المشهد الذي تطل عليه شرفتي اقتربت من أروى ورحت أتاملها‏..‏ نفس العينين ونفس لون البشرة ونفس الفم ونفس الصوت أدركت فيما بعد وعلى نحو ما أنه حتى تبدلات الجسد نحولا وسِمنة على جسدينا لم تشفع للذي حدث أن يحدث‏.‏

سألتني أروى عن مراد وهل يرسل خطابات وسألتها بنفس البرودة وحدة الصوت‏:‏ وما الجدوى‏...‏ تذكرت أن جرح يدي الذي حدث يوم أوصلته للمطار التأم تماما‏.‏ حين فرغ زوجها من الشاي طالبني في ود مفتعل بفنجان من القهوة وكذلك فعلت وهي تتحدث عن السكر والضغط‏.‏

في المطبخ كنت أنظر إلي طريقة ترتيبي لأواني المطبخ بعشق خاص وأدرت مؤشر راديو المطبخ لينساب صوت أغانٍ شبابية لم أكرهها كالآخرين كنت أستعجل الوقت أن يمضي والحر أن يزيد من طأته وأروى تنظر إلى أثاث مطبخي بكثير من التأفف والاستعلاء قالت‏:‏ بيتك بسيط‏.‏

فرددت‏:‏ لقد صنعته قشة قشة وضمتني جدرانه جيدا بعد انكسارات كثيرة وعزوفي حتى عن الارتباط بآخر‏..‏ شربت أروى قهوتها وكذلك زوجها وخرجت خلفها أوصلهما بكلمات قليلة مقتضبة على شاكلة‏...‏ شرفتونا‏...‏ آنستونا‏...‏ لاتقطعوا الجوابات‏..‏ أتذكر أنني وأروى لم نر بعضنا بعد ذلك اليوم‏,‏ حدثتني مرة تليفونيا لتخبرني بأنها وزوجها تشاركا وأنشآ "مول" كبيرا وأن عليَّ عمل دعاية له بين جاراتي أتذكر أن هذه آخر مرة أسمع صوتها ولم يكن هناك مجال يرغب في التفتح؛ مثل زهور أغلقت أوراقها إلى الأبد؛ إلى غير رجعة‏...
أعلى