سمير الفيل - طبق الفول

ليس من شاف كمن سمع. هذا ما تعلمته هنا في السوق ، وأزيد عليه بأننى كنت قد سمعت عن الأستاذ كثيرا من المدح ، فالجميع يصفه بالسياسي المحنك ، وآخرين أكدوا أنه من القيادات الشابة التي تلائم المنعطف الثوري الذي تمر به بلادنا .
رأيت صورته كبيرة معلقة في صدر المكتب ، أيضا كانت يده ممدودة لبكباشي في الجيش من زعماء يوليو ، وهى الثورة التي غنى لها عبد الوهاب بطراوة ، وعبدالحليم حافظ بحماس . أكثر ما كان يحيرني في الأستاذ صرامته التي كان يعامل بها الخلق ؛ فهو رجل دوغري ، وأهدافه الثورية واضحة ، أعرف أن حياته الزوجية مستقرة ؛ إذ أن أصهاره من أثرياء البلد ، لهم عشة برأس البر، مع عمارتين في القاهرة ، وسيارة مرسيدس أم مثلث في دائرة ، كأنه حجاب يمنع الحسد، والعين التي لا تصلي على النبي .
سألت نفسي مرة :" هل من المعقول أن أكبر وأصبح محاميا مثله ، ألبس الروب الأسود ، وأترافع بقوة وبلاغة ، كما كنت أرى في الأفلام التي يوقع فيها محمود المليجي بالبطل الطيب ؟".
كل هذا نسيته الآن عندما ناداك "الأستاذ" . عليك أن تستأذن الحاج خليل ، فابن عمه يناديك ، وهو أكبر المتعلمين في عائلة البطاحي . " محامى بالنقض والاستئناف العالي " ، هكذا قرأت على اللافتة الزجاجية التي تضيء ليلا ، فتنور الشارع كله . الأستاذ له صلعة بهية ، وغمازة واحدة في خده الأيمن ، يتشدق باللبان وهو يحدثك : ولد يا فلفل . اطلع فوق ، شوف الهانم عايزة أيه ؟
والهانم التي في الطابق الذي يعلو شقة المحامى النابغة، حلوة ، مطلقة ، وحيدة ،مكسورة الجناح . هي بيضاء ، مربربة ، تضحك بلا سبب ، تتحرك بليونة كأن مفاصلها سائبة ، حين تدخل كي تحضر لك الطبق . أردافها الثقيلة تتحرك صعودا وهبوطا ، وهى دائما تنفحك خمسة قروش بعد كل مشوار ، وأحيانا قبلة على السريع، لكنها قبلة طياري لا خطر منها . فأنت عيل في الأساس ، معدوم ، كحيان. لكنك" مسمسم ، وعفريت" . هي تقول ذلك ، وأنت تعرف أنها تريد كسب ودك من أجل قضاء المشاوير البعيدة .
تطلب منك إحضار الإفطار ، تنظر لعقارب الساعة تتحرك داخل الإطار الفضي على الحائط فوق الستائر الزرقاء المسدلة . تدق الساعة فإذا هي التاسعة : " ما الذي جعل الأستاذ يفتح في هذا الوقت المبكر ؟" .
تحمل الطبق ، وأنت تحشر البيانات في عقلك : قرشان طعمية ، قرشان فول ، عشرة قروش خبز، مجلة حواء ، جريدة الأهرام ، ومعها الملحق .
في طريقك للنزول يا فلفل الكلب ، ستجد ورقة مجلة ممزقة بها صورة ونصف خبر، ستنحني لتلتقطها ، بدون إرادة سترمى الخمسين قرشا ، كورقة مهملة ، وأنت مندمج في قراءة الورقة ، وتتوقع الكلام الذي قطعته يد آثمة فجاء الخبر منقوصا..
أمام "حنيجل" الفوال تكتشف المصيبة . لا نقود معك . تهرع بسرعة إلى شقة الأستاذ، تجدها مفتوحة ولا أحد بالداخل ، تدق بقبضتك الباب ، فلا يرد عليك أحد . تصعد إلى شقة المدام ، تنقرز بأصابعك الباب المفتوح ، فأنت لم تعثر على النصف جنيه بعد .
يقع نظرك على السيدة تركب الأستاذ ، وتدور به حجرة الصالون الفسيح . إنه يلف حول الطقطوقة ،التي يعلوها جهار " البيك أب " ، صوت صباح يلعلع، ويملأ الطابق كله ، تحملق في المنظر مبهوتا ، يروق لك أن تعلمهم بحضورك ، دون أن تسبب لهما حرجا . تكح بلا فائدة، وهو يواصل اللف ، أما هي فتستحثه : " حا ...شى ..هس "
هكذا شاء ، وهو حر أن تركبه امرأة بمثل هذا الجمال ، الشيء الذي يدهشك : كيف يحتمل كل هذا الثقل وهو كالعصفور يكاد يفطس تحتها ؟
تخرج نفسك من المشهد بأن تغمض عينيك، تقول " ماء ...ماء " . ينتفض الأستاذ ، يصرخ في وجهك : جيت يازفت من أمتى ؟
ترد كالمخطوف ، ويدك تصنع شكلا دائريا :" من بداية اللف" .
تضحك المرأة ، تضمك إلى صدرها الرجراج . سيبه يا خوخة . لكن خوخة ، يقرصك بغل في خدك حتى يفط الدم .ويعرف منك أن النقود وقعت منك غصبا .
يخرج جنيها كاملا هذه المرة :" روح هات الفول، وبقية اللوازم بنصف جنيه . أما نصف الجنيه التانى لك ؛ علشان أنت ولد أمين ، ما بتقولش للناس الوحشين على لعبة عم عنكب" .
تخطف الجنيه ، تهبط السلم، تصنع إيقاعا راقصا بطرق الطبق بيدك الصغيرة ،وتضحك في سرك: " عم عنكب ، شد واركب " ، تتصور خوخة ، وهو يواصل اللف حتى تلك اللحظة .
تقرر ألا تصبح محاميا لأن لعبة عم عنكب لا تروقك ، ولأن قرصة الأستاذ مازالت توجع خدك الذي احتفظ بحمرته حتى عدت إلى بيتك في آخر الليل.



ـ صندل أحمر ، مجموعة قصصية ، دار فكرة للنشر والتوزيع ، أكتوبر 2008.
أعلى