فؤاد التكرلي - نص المقدمة التي كتبها فؤاد التكرلي لمجموعة عبد الملك نوري القصصية ”ذيول الخريف“

في نهاية خريف سنة 1949 ،حينما كنت موظفا ً صغيرا ً مستجدا ً في محاكم بعقوبة المدنية ، وصلتني برقية مدهشة صباح أحد أيام الخميس ، لم تحتو إلا على كلمات قليلة :
سنجيء صباح الغد الجمعة . لا تشغل بالك بالمشروبات .
وكانت موقعة بتوقيع عبد الملك نوري .
كنت قد التقيت به قبل اسبوع أو أكثربقليل في مقهى ” سويس “، حين كنت أمضي يومين أو ثلاثة في بغداد لقضاء بعض الحاجات . كان اللقاء بواسطة صديقنا المشترك ساطع عبد الرزاق وبطلب من عبد الملك . امتد بيننا ،، حال التقينا ،، نوع من االالفة والتفاهم الصافيين. كان عبد الملك آنذاك كاتب قصة معروفا ً ، فازت اقصوصة ” فطومة ” في السنة الماضية بجائزة مجلة ” الأديب ” البيروتية لأحسن قصة عربية ، وكنت شابا ً صغيرا ً لم أنشر شيئا ً ، ألا أني كتبت بعض الأقاصيص التي لم أقتنع بها وأعطيتها ،، كما أتذكر ــ إلى صديقي نزار سليم للاطلاع عليها فأعطاها بدوره إلى ساطع ليعيدها إليّ إلى أن وصلت ليد عبد الملك فاطلع عليها ، ومن هنا كان طلبه من ساطع أن يلتقي بي .
كان الجو جميلا ً ذلك الصباح ، يوم خريفي مشمس ، وكنت أنتظر الأصدقاء بلهفة . وصلوا في حوالي الساعة الحادية عشرة .. عبد الملك نوري ونزار سليم وساطع عبد الرزاق .. وبعض المشروبات الروحية .. كانوا ـ مثل النهار الساطع ـ شبابا ً متألقين ، يعون وضعهم بعمق ويشعرون بقدرتهم على التعبير عن أنفسهم وعن العالم الصاخب الذي يحيطهم . جلسنا نتحدث بحمية ونشرب . كان الحديث بيننا ، في تلك الأجواء ، حقا ً متشعبا ً تتخلله اندفاعات حماسية واحتجاجات عالية . كل شيء كان يثيرنا ، بدءا ً بالأدب وانتهاءا ً به ، ومرورا ً بالفنون التشكيلية والمسرح والسياسة والمرأة . كان عبد الملك في الثامنة والعشرين من عمره آنذاك ، ذا قامة متوسطة أميل إلى القصر ، مليء الجسم متورد الوجنتين ، بنظرات بريئة وثاقبة في نفس الوقت .
abdulmalik noori 2لاأتذكر بالضبط عما تحدثنا طوال ساعات ، ولكننا حين تغذينا حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر ، كنا في قمة الحماس والاندفاع والرغبة في استمرار الحديث . كان طعامنا تشريب دجاج ، صنع بكل عناية ومحبة . خرجنا حوالي العصر نتنزه في مجالي بعقوبة ذات السحر الخاص ، ولما ودعتهم وتحركت بهم السيارة نحو بغداد ، كنت على ثقة بأن اللقاءات في المستقبل ستكون أكثر غنى ً وثراء ً .
لقد كان ذلك بالفعل ، إذ توثقفت عرى الصداقة والتفاهم بيني وبين عبد الملك نوري ، وتم التعارف بينه وبين أخي نهاد وبينهما وبين صديق طفولتي عبد الوهاب البياتي، فكنا الأصدقاء الأربعة ، كما وصفنا البياتي في احدى قصائده ــ نلتقي في أماسي الخميس ، بداية الخمسينات ، في مقهى ” سويس ” فنجلس ساعة وبعض ساعة ثم نقوم متوجهين إلى كازينو ” كاردنيا ” على شاطىء دجلة ، حيث نقضي السهرة بالحديث مع الشراب أغلب الأحيان .
كان عبد الملك وقتذاك يعيش حياة غير مستقرة ، ذلك ان أغلب عناصر وجوده السابقة تناولها التغير بشكل أو بآخر ، عدا هذا الشغف اللامتناهي والاندفاع نحو الأدب ونحو محاولة الكتابة القصصية. فكان مطلعا ً على الأدب العالمي بسبب اتقانه اللغة الانكليزية التي درسها سنتين في الجامعة الأمريكية ببيروت . غير ان هذا الاطلاع كان يزيد من قلقه ومن شعوره لعظم مسؤولية كتّاب القصة العرب والعراقيين . كان يهتم بنفسه ككاتب بصورة خاصة ، وأكاد أقول بصورة مبالغ فيها .
كبف يمكنه أن يكتب ” شيئا ً ” جديدا ً لم يكتبه أحد قبله ؟
هذا السؤال حين يعشش في نفس كاتب موهوب ومتحمس ، يؤدي إلى نتائج غير مستقرة تماما ً .
مبدئيا ً كان عبد الملك شديد الايمان بالواقعية وبوجوب استيحاء محيطه العراقي ، الا انه كان يضع الصناعة الفنية في الأدب القصصي وجودة الكتابة فوق ما يمكن أن يسمى بالمضمون الاجتماعي ولكن ليس على حسابه . كان منحازا ً إلى الأدب الغربي الجيد ضد أية ادعاءات أو مبادىء أخرى لا تنتج غير أدب رديء فنيا ً . وعلى هذا المستوى لم يساوم عبد الملك أحدا ً ولم يجامل ، وكان حادا ً في نقده ، عصبيا ً لا يطيق أن يسمع دفاعا ً عن قصة يعتقد انها سيئة . وفي نفس اعتقادي انه كان يعيش تناقضا ً بين أفكاره عن الانسانية والاشتراكية وبين الأدب الذي يجب أن يُنتج لخدمتها والذي يرى انه لا يمكن تقنينه بهذه السهولة . نشر عبد الملك مجموعته القصصية الأولى ” رسل الانسانية ” سنة 1946 تطبيقا ً لنهجه الواقعي ، ولكنه لم يرض عنها كما هو متوقع ، فانقلب أواخر الأربعينات يجرب ــ مع ارتباطه بالواقعية ــ أساليب أخرى للتعبير عن افكاره القصصية . وهكذا كانت ” السياج الرمادي ” ثم ” جيف معطرة ” المنشورة في مجلة ” الأديب ” البيروتية في عدد شباط 1949. لقد توقفتُ عند مدلول هذه الاقصوصة بعض الوقت . كتبها عبد الملك أواخر سنة 1948 ، وطبق فيها محاولة التعبير عن مجرى الشعور لدى شخصيات متعددة خلال فترة زمنية معلومة . نعم ، انها استعارة لما ابتكره ” جويس ” قبل ذلك ببعض الوقت ، الا ان الملفت للنظر أن يحاول ذلك شاب عراقي وأن تكون المحاولة بعد قراءة ” يوليسيس ” وبعد تأمل وامعان فكر . وجاءت الاقصوصة غريبة تبعث على الدهشة كثيرا ً : ففي ذلك الجو الأدبي ، خلال الأربعينات ، حين كان ذوالنون أيوب ورفاقه منكبين على قرع طبول الأقاصيص ” الاجتماعية ” الساذجة ، تبدو محاولة عبد الملك نوري هذه كأنها نيزك أضاء بشدة سماءنا السوداء . ولم يلتفت اليها أحد ولم يهتم عبد الملك بذلك وبدأ محاولات أخرى كان يريدها هذه المرة أن تلتقط انفعالات ” الوهلة الأولى ” .
ماذا كان يبقى ، حقيقة ، من كل تلك المحاولات ؟
في اعتقادي ، ان عبد الملك لم يكن مدعيا ً ولا كان يريد ادهاش القراء بكل ثمن ، لكنه ــ مدفوعا ً بإعجابه الشديد للأعمال القصصية العالمية ــ كان بوده أن يسلك كل الطرق الممكنة التي قد تؤدي به إلى تخطي الأساليب القصصية المستهلكة ، من أجل الامساك بعد ذلك بهدفه الفني . كنا ، هو في بغداد وأنا في بعقوبة ، نتبادل الرسائل باستمرار ونلتقي كل اسبوع أو اسبوعين ، ومن خلال الرسائل والنقاش أمكن أن نصل إلى قدر معين من التفاهم . كان عبد الملك مقتنعا ً مثلي ومنذ البدء ، بأن الواقع العراقي هو الينبوع الذي يستقي منه كتّاب القصة مادتهم. ثم اتفقنا بعد زمن بأن الجديد حقا ً في الأدب القصصي لا يعدو أن يكون قصة ناجحة فنيا ً .
كان عبد الملك في محاولاته الأولى يهتم بأن تكون لغته القصصية رصينة وصحيحة ومرضية على المستوى البلاغي ، فاتجه لقراءة كتب التراث بين الحين والآخر لكي يستمد منها ما يريد . وكنت ــ من جهتي ــ أعتقد اننا يجب أن ندخل نوع اللغة القصصية المستعملة ، ضمن منهج تطبيقي يتوخى خلق جو قصصي وشخصيات في ذهن القارىء ، وأن لا فائدة ترجى من لغة لا غاية محددة لها . ثم كان أن كتبت ” العيون الخضر “سنة 1950فأريتها له فأعجبته بعض نواحيها، وأظنه تأثر بها في داخله . ذلك ان عبد الملك مخلص غاية الاخلاص في دخيلته بشأن ما يقربه من هدفه الفني وهو لا يشعر بأي حرج في ابداء رأيه ما دام يراه صحيحا ً ومفيدا ً .
لقد توصلنا بعد سنين قليلة من تعارفنا، إلى الاتفاق على الركائز الفنية الضرورية التي يمكن أن يقام عليها فن عراقي ذو امتياز في أدب الاقصوصة ، ثم تركنا ، بعد ذلك ، لأنفسنا لكي نحاول ، كل حسب طاقته ومخزونه الحياتي وأفكاره ، تنفيذ تلك المقولات وصبها في قالب فني متمرس . كنا مشغولين باستمرار بتلك المهمة الخطيرة التي بدت ــ رغم عفويتها ــ كأنها تثير غيظ بعض الزملاء ، فأخذ عبد الملك على نفسه أن يدافع عن أفكارنا الفنية في الاقصوصة ، فصار يكتب بين الحين والآخر مقالات نقدية أو” صور أدبية ” ، مما أزاد ــ لغير سبب من حنق الأدباء وألب على عبد الملك خاصة ، بعض الأقلام البعيدةعن التفكير السوي . ولم يهمه ذلك بقدر ما أضحكه وأثار سخريته ، ففي طبيعته نقاء لم يدركه الكثيرون ، وفي تركيب تمرده نفسه إعجاب طفولي بكل موهبة وبكل عمل جيد ومثير . لا يستطيع عبد الملك ــ المحتقر للعمل الرديء ، أن يحسد أديبا ً فنانا ً ، بل يغبطه . فهو لا يشعر بنفسه بعيدا ً عن ذلك الأديب الذي حاول ــ مثله ــ ونجح ، لأنه ــ يوما ً ما ــ لابد أن ينجح مثله .
ويحيّل إليّ ان عبد الملك نوري لم يقشل قط ، فلقد لاحق بطاقاته وعيه الفني إلى اللحظة الأخيرة ولم ينكص . ويجدر بنا جميعا ً أن نفهم معنى ذلك .
هذه الأضمومة من الأقاصيص ، المكتوبة قبل ” نشيد الأرض ” وبعدها ، تكمل صورة عبد الملك نوري القاص الحقيقي ، الا انني أعتقد انها لازمة لفهم عبد الملك نوري ولوضع مجموعته الأخرى ” نشيد الأرض ” في موضعها الصحيح من تطوره الفني .
ويهمني قبل أن أختم كلماتي هذه أن أشير بصورة خاصة إلى النص المعنون ” معاناة ، الذي ينشر هنا لأول مرة . لقد عثرت عليه صدفة ً بين أوراقي القديمة وأريته لعبد الملك فوافق على نشره .
انها محاولة لرصد تطور عملية الخلق لدى الكاتب .. كيف تبدأ , تتقدم ثم تتردد وتعاود التقدم حتى تكمل أو تبقى ناقصة ، وهي محاولة فذة لأنها تعبر بقوة عن القلق المأساوي الذي يسيطر ــ سيطر دائما ً ــ على نفس عبد الملك وكان يعاني أزمة الكتابة القصصية . ومن هنا ، الأهمية القصوى لهذا النص .
قبل أيام قلت لعبد الملك ان ما طبع حياته بشكل أساسي هو حبه اللا متناهي للقصة وكتابة القصة ، كأن هذا الحب كان قدرا ً مقدرا ً عليه ، تزول أمامه كل التفاصيل الأخرى للحياة .. العائلة والزواج والوظيفة والمال .. ويبقى هذا مفسرا ً للحياة ومانحها المعنى الحقيقي الوحيد .. ومقابل هذا القدر لم يجد متسعا ً من الوقت لكي ينصف نفسه ، أو يفتش عن الانصاف لدى الآخرين .
أيحق لنا ، بعد هذا ، أن نفترض ان عبد الملك نوري ، يريد ، بازدرائه لكل ما يمت للشهرة بعلاقة ، أن يضع الفن فوق كل شيء وأن يعتبر الاخلاص له حتى النهاية هو الغاية المثلى لكل فنان أصيل ؟
فؤاد التكرلي
مايس 1987

* نص المقدمة التي كتبها فؤاد التكرلي لمجموعة عبد الملك نوري القصصية ” ذيول الخريف “








أعلى